جديد محمد البكري: في النظرية والمنهج والممارسة
محمد بلفنتيس*
“يرتبط التفكيك بصُوَر الفرادة. لاسيما صورة اللهجة.
طبعاَ، التزمت مسألة التفكيكات فوراً بمعالجة ما يسمى – بكيفية مُلغَّزة- اللهجة،
رهاناتُ اللهجة وهذه الأخيرة لا تلتبس باللسان فقط.
يتعلق الأمر فيها -إذا- بالترجمة، وبمفارقات الإمضاء”
جاك دريدا، لهجات وقوميات وتفكيكات، منشورات الفجر، 1998.
لا نكاد نتناول الكتاب ونتمعن فيه قليلاً حتى نقرأ في «تقديمه»: «سيصير من باب النقص غير المقبول عدمُ إيلاء الاهتمام باـلمساهمة الفائقة التي يقدمها محمد البكري في هذا العمل»، نتساءل مشدوهين: لماذا؟ ولا يلبث أن يجيبنا التقديم نفسه: لأننا في وقت «يجري فيه النقاش تحت ظلال الفكر المدعو بالكوني- منذ زمن موغِل في القدم ولربما أكثر، بصدد «تقسيم أوربا إلى أقاليم» وكذا “النظرية الفرنسية”، وحول تيارات فكرية (فلسفة الأنوار، النظرية النقدية، (ما بعد) الحداثة، الخ.)، وهما معاً ابنتاها المفترضتان».
مما يدفعنا أن نتفحص الكتاب ومكوناته لنجد أنه يقدِّم إلى القارئ الكريم أربعة عشر نصاً فلسفياً وفكرياً، من بينها نصوص مؤسِّسة، (يليها «حوار» مع عالمة نفس). تشكل بمجملها جزءاً أول من المترجمات الفلسفية للكاتب والسيميائي واللساني محمد بن الرافه البكري، التي سيتابع نشر باقيها، إن وسعه الوقت والجهد، كما يقول هو نفسه. نصوص يمتد زمن ترجمتها، حسب تاريخ النشر من سنة 1974 حتى حوالي 1995 مع استثناء قليل.
ما نكاد نصل إلى المقدمة حتى نجد أنها تحدد، تحديداً واضحاً، نوعية مواد الكتاب بأنها «نصوصٌ حرَّرها فلاسفة مهنيون، ومفكرون كبار، وعلماء لسان واجتماع ونقاد؛ منهم من جمع بين العلم والفكر أو الفلسفة والأدب وعلم المعرفة. تتوزَّعها وتجتذبها قضايا فلسفية صِرف وإشكالات فكرية رئيسة، إنْ في النظرية أو في المنهج أو عن الممارسة و بصدد الفعل البشري: من الاجتماع والنفس والسياسة والأخلاق وأسس المعرفة حتى نضالات الإنسان والشعوب».
وإذا تساءلنا عن أهميتها فلا يفوت هذه المقدمة أن تلح على «الأهمية الثابتة» لكل نص من هذه النصوص و«قيمته» الخاصة «في ذاته وموضوعه وطريقة علاجه واستنتاجه- بالمقارنة مع غيره ومع ما قد يبدو أنه ينافسه من كتابات» إضافةً إلى «ميزته الفكرية، التي (قد) استعصي على كرّ حبّات الزمن الجاري بسرعة هادئةً أو صاخبة- النيل من أغلبها». بل يذهب المترجم – وهو من انتقى هذه النصوص ورتبها- إلى التأكيد على أن من بين هاته النصوص ما يمكن اعتباره «أحداثاً» وعلامات فارقة في بابها، لجدَّتها ولطول باعها في علاج موضوعاتها، وفرادة نسْجها إبّانَ ظهورها، ولوقعها العميق حين نشْرها، واستمرارية نجاعتها» حتى اليوم.
وهنا أساساً يكمن الدافع، الذي حدا بالمؤلف- المترجم في أول الحال «إلى الوقوف عندها واختيارها، فترجمتها وتقديمها – قدر المستطاع- كما هي في ذاتها إلى القارئ، مع ما يشبه الإشارة القوية إلى كونها أمثلةً نموذجية لنوع من الاختيار الفكري والكتابة الأفضل» . (التشديد من لدننا).
كما يمكن للناظر في الكتاب، منذ البدء، أن يلاحظ بسهولة أنها تشكل في أغلبها مراحل أو علامات تكوِّن «مساراً زمنياً وشمَتْه لقاءاتُ المترجم- القارئ بكل واحد منها وترجمتِه مع ذكر ما قد يبدو مفيداً من معطيات وإضاءات بصدده، فيما يشبه التسلسل التاريخي ذي المعنى الخاص». (حسب المقدمة دائما ).
الكتاب من حيث محتواه ينفتح، أولا، على «تقديم» بقلم الكاتب بالفرنسية وأستاذ الفلسفة والباحث في الشؤون الإفريقية بوعزة بنعاشر. تليه «مقدمة» مسهبة بقلم المترجم- المؤلف إضافة إلى بعض الهوامش والتعليقات وثبْت مقتضب للمصطلحات، كعادة مترجمه.
فاتحة سبحة هذه النصوص تعود إلى لوسيان گولدمان: 1. «الفلسفة وعلم الاجتماع في آثار ماركس الشاب: مساهمة في دراسة المشكل» (1970)؛ اختاره [المترجم] طالبُ اللغة العربية وآدابها سنة 1973، [خلال زمن منع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وطرد كثير من الطلبة وإغلاق فرع فاس من الجامعة المغربية آنذاك] ليترجمه، وينشره في العدد الأول من مجلة “الثقافة الجديدة”. المغرب (1974)؛
2 – «البنية والدليل و اللعبة في خطاب العلوم الإنسانية» لجاك دريدا. كأول نص ترجم إلى العربية لهذا الفيلسوف التفكيكي وباختياره واتفاق عبد الكبير الخطيبي والمجلة المذكورة أعلاه؛
3 – الأُدْلُوجة والأَجهزة الأُدْلُوجيَّة للدولة (نُقط لأجل بحث).. للوي ألثوسير، نص غني عن البيان فهو مؤسس حقا وحقيقة في موضوعه؛
4 – «الحداثة: وعيُها بالزمن واحتياجها إلى العثور في ذاتها على ضماناتها الخاصة» ليوركَن هابرماس؛
5 – «معركة الحداثة» لدومنيك لوكور. تتبُّع دقيق لتطور التفكير الفلسفي في الحداثة يكشف عن حقائق ذات بال؛
6 – «المُضاد لأوديب: مدخل إلى حياة غير فاشية » لمِيشال فوكو؛
7 – «اختلاف ومستقبل» لأنطونيو نيگري، الفيلسوف الإيطالي المناضل المتخصص في سبينوزا، وقد خصه المترجمة بتعليق كاف مثله مثل كثير من نصوص هذا المنتخب الحقيقي؛
8 – «الصراع الفلسفي في الصين الثورية» لفِليپ صولّرس؛ تقرير شبه مفصل في صلب الموضوع الذي يعلن عنه العنوان، وقد اختاره المترجم ونشره سنة 1976 بعد لقائه مع مجلة «تيل كيل» الشهيرة؛
9 – «ما الاشتراكية» لشي دو؛ عبارة عن بيان بليغ للحراك الدمقراطي الصيني، موجز وقوي في الموضوع؛
10 – «السلبية: الاطِّراح» لجوليا كريستيڤا ،المفكرة والناقدة الأدبية الشهيرة، تضع فيه بعد الأسس والخلفيات الفلسفية – لا سيما الهيگلية والفرودية – لعملها التحليلي (ثورة اللغة الشعرية)؛
11 – «وسائط التواصل والفضاءات العمومية» ليوركَن هابرماس؛
12 – «پول باسكون. رائد علم الاجتماع المغربي» لمحمد الطوزي؛ مساهمة مغربية مشرفة حقا لعالم الاجتماع المغربي الفقيد ، باعتبارها موضوعاَ، ولكاتبه كما للكتاب وصاحبه؛
13 – «ضحايا موافقون» لإدوارد سعید؛ هذا النص، والذي يليه، معالجتان متفردتان تجسدان تجسيداً حقيقياَ ديناميةَ وريادة وجرأة الفكر الملتزم بالقضايا الإنسانية النبيلة مثل القضية الفلسطينية بقلم أمريكيين، شهيرين كونياً، أولهما من أصل فلسطيني والثاني من أصل يهودي، وكأن الصدفة تأبى إلا أن تصنع الرمز الهادف؛
14 – «عن اتفاق أوسلو ومستتبعاته. من رسالة إلى صديق» لنعوم تشومسكي؛
15 – «جاك لَكان مات والغيوم تزحف من الغرب»… حوار كاثرين دافيد مع إلِزابيت رودنسكو.
لم يضم هذا الإصدار – حسب ما جاء في حوار عارض بين المؤلف وأحد القراء – «تقريرين» موجزين (تعذرإلحاقهما به لأسباب تقنية) يتناولان صدور كتابين فلسفيين:
1. «الإيديولوجيا: نحو نظرية تكاملية ». تأليف الفيلسوف المغربي الفقيد محمد سبيلا-
و2) – «ضد الجبن» ، يليه نقد نداء هيدلبرگ. للفيلسوف الفرنسي الفقيد دومنيك لوكور.
هذا فيما يخص محتويات الكتاب ولا بأس أن نشير إلى ما سجلته مقدمة «في النظرية والمنهج والممارسة» من أن للمترجم نصوصاً فلسفيةً أخرى كثيرةً تنتظر النشر، إضافة إلى نصوص من عمق تخصصه في تحليل الخطاب والدلائليات (السيميائيات)، ثم في الأدب والنقد واللسانيات، وفي القصة والشعر الخ، وأخرى تدخل ضمن إطار اهتماماته البحثية مثل نصوص مهمة في التاريخ، هذا دون الحديث عن كتاباته الصرف والمتنوعة.
خاتمة القول في هاته العجالة عن الكتاب المذكور ما أكده د. بوعزة بنعاشر، مقدم هذا العمل، مباشرةً ومنذ البداية وببلاغة لافتة للانتباه، بصدد ما يتوخاه منتقي هذه النصوص ومترجمها، بقوله:- «فيما وراء المنهاجية «الترجمية» المؤسِّسة والمُمَأْسَسة، يقترح علينا محمد البكري- (…)- أن نقوم بـ “تدوير” مفاهيمنا وذاتياتنا، التي عفَّى عليها الزمن، وعمليات تفكيرنا الآلية وربْط مَحاوِرها بدَوَرانات إبستيمولوجية أخرى مُجدٍّدة للأنْسَنَة وفوضوية تائهة »
لكن المؤلف، وفق هذا التقديم، لا يتوقف في اقتراحه عند هذا الهدف فحسب، بل يزيدنا اقتراحاً آخر أيضاً، وفي الوقت نفسه، دوزنة أو، بعبارة أقرب، إدراج «الوزن والإيقاع في الفوضى، وفي خضم رغبة استقلالية الأجسام والأرواح، وبالقدر نفسه في تحويل مركز الإمبريالية العاملة في حضن الرؤيا الخصوصية لفعل سُكْنَى العالم وقوْل الإنسانية – بكيفية أخرى – في الزمن العالمي».
* كاتب من المغرب