حكايات المقاهي: المقاهي مساحات للحرية والإبداع (1)
جورج الراسي
“سوداء كالشيطان، ساخنة كجهنم، طاهرة كالملاك، ناعمة كالحب…”، هكذا كان Talleyrand الوزير الفرنسي، يصف القهوة في أول دخولها إلى فرنسا. حتى أن الملك طالب بزرعها في مساحة مغلقة من قصر فرساي – en serres –
قبل ذلك ذاقها الملك الشمس (Le roi Soleil) لويس الرابع عشر، فلم يستظرف طعمها، لكنه ترك لكل شخص حرية تقييمها. وعلقت العشيقة Mme de Sévigné على الموضوع بكلام تافه ظل محسوبا عليها تقول فيه: “سوف يمر Racine كما تمر القهوة”… و Racine هو الكاتب الذي لم تكن تحفظ له ودا… لكن كلام الماركيز ذهب أدراج الرياح وبقي Racine وبقيت القهوة… وكان نابليون من عشاقها المتيمين…
” المقاهي” فسحة للحرية
اعتدنا أن نسمي القهوة “الصحيحة” بالقهوة “التركية”، وذلك لتمييزها عن عشرات المشتقات الحديثة التي تفرزها آلات أكثر فأكثر تعقيدا. فالقهوة التي لا تنتجها “الركوة” يبقى مشكوك في أمر نسبها…
وبدون “القهوة” لا معنى لـ “المقهى”، فهما صنوان خلقا لبعضهما البعض، يجمعهما طموح إلى الحرية…
المقهى فضاء مفتوح يلتقي فيه الناس، يتعارفون ويتحاورون… و كل حوار بين الناس هو حتما حول “الشأن العام”، وكل حوار حول ” الشأن العام” لا تستسيغه الأنظمة التي تحتكر كل ما هو “عام”…
أما لماذا القهوة “تركية”، فلأن نشأتها تعود إلى أيام السلطنة العثمانية، وإلى عاصمتها القسطنطينية…
المؤرخون يعيدون ذلك إلى العام 1555، حين أقدم تاجران من الشوام على افتتاح نزل لشرب القهوة في حي “طوب كابي”، ما لبث أن تحول إلى فسحة للتسلية ولعب الشطرنج والداما… ولاقت هذه التجربة نجاحا منقطع النظير حتى وصل عددها المقاهي إلى600 مقهى في عهد السلطان سليمان الثاني (1565 – 1574).
في القرن السابع عشر، في عهد مراد الرابع، بدأت الشكوك تحوم حول المقاهي باعتبارها موئلا للمتآمرين من كل لون عقيدة، بما في ذلك احتضانها لبعض طقوس المتصوفة. وبدأت تكال لها التهم، لا لمحاربة ما سمي بـ”إشاعة الفساد “، بل لكم أفواه الناس التي اتخذت منها أماكن للتنفيس عما يصيبها من احتقان.
لكن المقاهي استطاعت تجاوز تلك المحنة، وعادت إلى سابق عزها في القرن التاسع عشر، مع اعتماد “نظام التتظيمات” العثماني، لا بل أصبحت أماكن مفتوحة للنقاشات الفكرية والسياسية والأدبية والفنية، وكل أوجه التحرر التي بدأت تموج به مقاطعات السلطنة.
غير أن مجيء أتاتورك أعلن نهاية الحفلة، ودخلت المقاهي مرحلة سكون، في حين بدأ يلمع نجم القاهرة، لا كحاضنة جديدة للمقاهي فحسب، بل للخلافة أيضا…
العبور إلى أوروبا
انتشار المقاهي في أوروبا تزامن تقريبا مع انتشارها في السلطنة العثمانية، لكنه اتخذ بعدا أهم بكثير لجهة الإبداع الفكري والفني.
تغاضي الملك (الشمس) لويس الرابع عشر عن هذه الظاهرة، التي عبرت البوسفور لتغزو أوروبا بأكملها، جعل من مقاهي القارة العجوز ينابيع للخلق والإبداع.
المحاولة الأولى الجديرة بهذا الاسم تعود إلى القرن السابع عشر ، وإلى عام 1686 على وجه التحديد ، عند الرقم 13 في شارع ا لـ Comédie Française .
صاحب المبادرة كان يدعى Francesco Procopio Cultelli، لذلك عرف مقهاه بمقهى بروكوب Le Café Procope، الذي تميز بديكور مبهر من المرايا وثريا الكريستال وبأطباق الفواكه، وبالقهوة طبعا… قهوة مميزة أقل حدة من التركية.
ما لبث هذا المقهى أن اجتذب من هب ودب من أعلام الفن والأدب، وكان من بينهم
Rousseau – Voltaire d –
D’ Alembert – Beaumarchais – Balzac – Verlaine – Flora….
وما لبثت هذه الظاهرة أن امتدت إلى شارع الـ Palais – Roya، القريب، حيث ظهرت أربع مقاه نالت نصيبها من الشهرة: قهوة العميان – Le café des Aveugles – و Le Café de Foy – بالإضافة إلى Café de la Régence، ورابعها “قهوة القبو و Café du caveau.
في كتابه “لوحة باريس” Le tableau de Paris، الصادر عام 1781 قدر Louis Sébastien Mercier عدد مقاهي باريس في تلك السنة بـ 700 مقهى.
في كتابه “Quatre Vingt – Treize يروي Victor Hugo كيفية وصول زعماء كوميونة باريس Robespierre – Danton و Marat إلى مقهى Procope، حيث أطلقوا القبعة المميزة للثوريين – le bonnet phrygien …
وفي المقهى أيضا مكتب Voltaire الذي حطمه أحد الثوار، وآخر رسالة كتبها الملك لويس السادس عشر، كما آخر رسالة خطها Robespierre، وهي مضرجة بدمه ..
هنا ولدت الانطباعية والتكعببية
في القرن التاسع عشر، توزعت تلك المقاهي حول عدة محاور كبيرة على أطراف بولفارات العاصمة.
وفي عام 1866 كانت قهوة Le Guerbois ، التي ذكرها Émile Zola في كتابه L ‘ Œuvre ، تجمع كل يوم خميس، الساعة الخامسة، أصدقاء Édouard Manet ، الذي دعا العديد من الفنانين إلى حلقته، ومن بينهم Claude Monet.
وما لبث أن التحق بهم فنانون آخرون، كان من بينهم Degas , Renoir , Picasso , Cézanne , بالإضافة إلى مجموعة من الكتاب، كان أبرزهم Mallarmé – Maupassant – Zola ، والمصور Nadar …
وقد وصف Monet لاحقا تلك اللقاءات، معبرا عن فرحته بها لما كان ينتج عنها من أفكار..
لقاءات يوم الخميس تلك، هي التي كانت في أساس المدرسة الانطباعية.
في عام 1875 انتقلت المجموعة برمتها إلى مقهى آخر في شارع Pigalle الغني عن التعريف… برز حينها دور Manet الذي أحاط به تلامذته: Degas – Renoir – Van Gogh – Toulouse- Lautrec … بالإضافة إلى كتاب آخرين، من بينهم الأخوين Goncourt… هذه الحلقة الجديدة شكلت مهد المدرسة التكعببية Le Cubisme.
وقد شهد القرن التاسع عشر بداية توافد اللاجئين السياسيين، كما بدأ انتقال الحياة الثقافية والفنية من مرتفعات Montmartre عابرة نهر “السين”، إلى ضفة اليسار منه، حيث استقرت منذ ذلك الوقت.
لينين وتروتسكي أيضا
عام 1860 شهد آعادة تجمع طلاب الفنون الجميلة في مقهى La Closerie des Lilas، الذي يتميز بطبيعته الريفية، ووافاهم Max jacob ثم Paul Fort و Alfred Jerry ، كما وافاهم Picasso.
وفي عام 1880، بعد سقوط منطقة الألزاس بيد الألمان، هرب الزوجان Léonard و Pétronille Lipp إلى باريس وافتتحا مقهى Lipp في بولفار Saint – Germain، (و هو المقهى الذي اختطف من أمامه المناضل المغربي المهدي بن بركة عام 1965)…
وكان من بين رواده المعتادين Verlaine و Max Jacob و Apollinaire..
في عام 1920 اشترت المقهى عائلة Cazes واحتفظت باسمه: Brasserie Lipp، وصعدت أسهمه بشكل كبير، و ظل محافظا على حسن تعامله مع الزبائن، دون حجوزات ودون تفريق فيما بينهم.
حتى الذين كانوا يتنافسون في الأعمال أو في السياسة اتخذوا منه ملتقى، كما الغريمين في مجال النشر Gallimard وGrasset. كذلك فعل ميتران وشيراك اللذين جعلاه موقعا حياديا. وفيه تصالح جورج بومبيدو مع فاليري جيسكار ديستان.
عام 1905 شهد توافد اللاجئين الروس والإسبان، اللذين كانوا يعشقون السهر وأمسيات الغناء والطرب. ولم يكن ينقص تلك الجمعة سوى لينين وتروتسكي، اللذين كانا يؤمان مقهى le Dôme ، حيث كانا يطالعان صحف Saint – Pétersbourg التي يتلقاها المقهى بانتظام.
عام 1911 جرى افتتاح قهوة La Rotonde التي تحولت إلى عرين للوافدين السلاف والقادمين من ضفة المتوسط.
وفي عام 1927، بعد الحرب العالمية الأولى، اجتمعت كل شخصيات باريس الفنية و الأدبية على تدشين مقهى La Coupole، بما في ذلك Josephine Baker ، و Cocteau و Mistinguett.
أما مقهى Le Select فقد احتضن الأميركيين، واحتل مركزا أساسيا في كتاب Hemingway ” باريس احتفال” Paris est une fête….
هكذا إذن يمكن أن نقرأ تاريخ مدينة من خلال مقاهيها، و يبقى للقهوة السوداء مذاقها الذي لا يضاهيه أي مذاق آخر….