الطريق إلى الهاوية.. في ذكرى رحيل الحسن الثاني

الطريق إلى الهاوية.. في ذكرى رحيل الحسن الثاني

إسماعيل طاهري

       اقتربت ذكرى رحيل الحسن الثاني.. ربع قرن من فترة حكم الملك محمد السادس للمملكة المغربية بما لها وما عليها… تغيير دستوري واحد فرضه الربيع العربي/ 20 فبراير وقاطعته الحركة الشبابية. وهذا كاف للحكم عليه. منجزات وإخفاقات.. والتاريخ كفيل بالحكم، بدوره، على طريقة وأسلوب الحكم خلال هذه الفترة المشهودة من تاريخ المغرب.

ولكن يتعين اتخاذ تدابير احتياط في إصدار الأحكام حول ربع قرن من حكم بلد مثل المغرب، يعد من الدول القليلة الأقدم في العالم إلى جانب الصين ومصر… الخ

لهذا يتعين الاِستناد على مبدإ النسبة في إصدار هكذا أحكام. ولا ضرر من ادعاء الاقتراب من الحقيقة الموضوعية في هذه المقالة. ومع ذلك فشبهة الذاتية واللاعلمية قد تتسرب بوعي أو بدون وعي إلى مثل هكذا تحاليل سياسية.  والسياسة تقبل بالانطباعات الشخصية للمواطنين مهما بدت صحيحة أو خاطئة. وفي السياسة ليس هناك تحليل خاطئ أو تحليل صحيح أو ممارسة صحيحة أو خاطئة. فكل ممارسة سياسية وتحليل سياسي مشروطان بسياق عام.

وانطلاقا من هذه الرؤية يمكن القول، وبعد هذه السنوات الطويلة من اهتمامي المباشر بمجريات الشأن العام في المغرب، أصبحت غير قادر على التعبير عن آرائي بحرية، حتى ولو كانت من باب إعادة تدوير معلومات مستقاة من جهات رسمية، خصوصا من بنك المغرب أو المندوبية السامية للتخطيط أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والمجلس الوطني لحقوق الإنسان.. الخ.

في هذا الأفق، يخيل إلي أن الضباب والغموض أضحيا يكتنفان الحياة السياسية، خصوصا عندما نرى فاعلين سياسيين رئيسيين يكشفون عن عدم معرفتهم بمصدر القرارات في الدولة. وكذا تنامي الوعي بصعوبة الإصلاح من داخل المؤسسات.

كيف وصلت شخصيا إلى هذه الحالة النفسية البئيسة؟

لا أعرف إن كان هذا انطباعا شخصيا أم قضية معممة يشترك معي فيها مواطنون آخرون؟ هذا يحتاج إلى دراسات علمية موضوعية يفترض أن تقوم بها مراكز وجامعات محكمة.

***

كيف يراد لنا أن نتكلم في الوقت الذي صمت فيه الجميع؟

اعتدت لسنوات كتابة مقالات مركزة حول “الوضع السياسي بالمغرب”، لمناسبة احتفالات ذكرى تقديم وثيقة الاستقلال خلال السنوات الأربع من عمر جريدة “أنوال”، في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين، واستمرت العملية مع يوميتي “الأنوار” و”المنظمة”.. ولا أعرف كيف اختفت هذه الذكريات (الجميلة).. وكيف اختفى التراكم الذي تحقق في التسعينيات من القرن الماضي، في مجال توسيع “الهامش الديمقراطي” في عز قوة الكتلة الديمقراطية، والحديث علنيا ورسميا عن خطر السكتة القلبية التي تهدد المغرب؟

في عهد وزير الداخلية إدريس البصري لم يكن جيلي يخاف من جبروت هذا الوزير القوي: كنا نحتج نصرخ نكتب نناقش “حتى” المذكرات السرية الموجهة إلى الملك حول الإصلاحات السياسية والدستورية، قبل نشرها على العموم.. ورغم كون جيلي مما اصطلح عليه القيادي في PPS مصطفى عديشان بـ”جيل القنطرة” على الأقل داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. أو ما سماه الشاعر الصحفي جمال بدومة بـ”جيل ضائع” لم نفهم جيدا هذين المفهومين إلا بعد سنوات طويلة من الضياع.

واليوم صرنا خائفين من الكلام، وصار الكلام خائفا منا. صرنا، ويا للأسف، خائفين من أنفسنا. وكادت الرقابة تخنق أنفاسنا. ولا ندري هل نخلد إلى الصمت كشكل من أشكال التعبير والاحتجاج.

وفعلا اليوم الكثير من النخب تعبر بصمت عما يجري في المشهد السياسي. 

فهل هذا تواطؤ مكشوف؟ أم أنه ناتج عن تذبذب الطبقة الوسطى المعروفة به تاريخيا.. لكن ألم يقل الفيلسوف “كانط” قولته الشهيرة” الطبقة الوسطى ثروة الأمم”؟

ألم يقل المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري “إن التغيير والحداثة لا تقوم به الدولة وإنما هذا من مهام النخب المثقفة”.

وكلما اقتربنا من مواقف فلول هذه النخب نجدها تقدم لنا عرضا فارغا لتبرير “واجب التحفظ” الذي صار الإطار المرجعي الوحيد للحركة والكلام في هذه البلاد، 

 والحقيقة المرة هي أن الكل يحزم رأسه بيديه قبل أن يكتب أو يصرح حول الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وربما يخاف على مصدر رزقه وعياله قبل الخوف من ضميره ووعيه الشقي.

يبدو لي أن النخب المثقفة  في المغرب أحيلت على الرصيف في انتظار “غودو”. وصار تأثيرها ثانويا في دوائر صناعة السياسات العمومية والعامة والقرارات ذات الصلة بها.

وبالحق يجب أن نقول أيضا أن الكثير هذه النخب المثقفة “زبدة الإنسان صانع التاريخ” لم تدعم حراك “حركة 20 فبراير”، بل كانت تعاكسه وتحالفت مع النظام لتحجيم دوره واختزال مطالبه. 

***

ماذا جرى طيلة ربع قرن.، انتهى بتركيز الثروة في يد حفنة قليلة من العائلات والشركات؟

ماذا حدث حتى انتهينا إلى تركيز القرارات بيد الدولة، في ظل وجود حكومة ومجالس منتخبة، مشكلة من أحزاب سياسية لا تنتج خطابا ولا ممارسة سياسية مستقلة عن الدولة؟

من اقترب، من طلائع النخب إياها، من مثل هذه الأسئلة الحارقة، سيصير مهددا مباشرة بواسطة صحف ومواقع التشهير، وربما تحريك المساطر القضائية لردعه والتمثيل بحريته، لكي يكون عبرة للآخرين، بل وقد يتم سحقه في زنزانة “التتريك”.

لماذا يصمت مثلا الوزراء السابقون وتخبو أحزابهم بعد المشاركة في التجارب الحكومية؟

والنتيجة المؤسفة هي إفراغ النقاش العمومي من محتواه الحقيقي والديمقراطي. وظهور بوادر انسداد النظام السياسي من جديد، وبالتالي ظهور ما يسمى بالردة الحقوقية..

الطريق إلى الهاوية صار سالكا في المملكة بالنسبة لكل من ينتقد سير المؤسسات الدستورية. والطريق إلى الديمقراطية والتنمية صار ضبابيا.. بعد إحكام السيطرة على المجال العام وعلى الاقتصاد الوطني، واحتكار الثروة بشكل لم يسبق له مثيل منذ الاستقلال.

وأمام هذا المشهد البئيس، صار الدور المفترض لنخب المجتمع المدني في تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية معلقا، وأصبح الانتقال الديمقراطي مهددا.

فالمجتمع المدني تعرض لضربات قاتلة بفعل الاختراق والاحتواء ثم القمع والتسلط والسلطوية.

يخيل لي أن خطاب وتصرفات المنظومة الحكومية وأحزابها اليوم، لها هدف واضح المدى، يتمثل في القضاء العملي على التعددية السياسية والإعلامية، وتحجيم مجال حرية الرأي والتعبير، وإضعاف المنظومة الحزبية والنقابية وهيئات المجتمع المدني(بمعناه الغرامشي). 

***

ولنلقي نظرة سريعة على وضع الإعلام العمومي والخاص في البلد حتى نعرف ما يجري. وأول إشارة بالغة الدلالة في هذا المستوى هي مصادرة المجلس الوطني للصحافة ضدا على القانون، ومنح الدعم العمومي للجرائد والمواقع والإذاعات الخاصة بطريقة تحتم جعل هذه الصحافة المهنية تابعة عمليا للدولة. وكيف لا تكون تابعة وهي التي تمولها من جيوب دافعي الضرائب. والطريق يبدو سالكا لتحويل المقاولات الاعلامية إياها، إلى مؤسسات فاشلة بدون استقلالية عن السلطة السياسية. وفي الوقت ذاته يتم تقنين تجريم أي نشاط إعلامي تطوعي غير ربحي ووضعه تحت طائلة القانون الجنائي..

وفي الأخير يمكن القول آن سيطرة الأجهزة الحكومية على الإعلام تشكل خطرا على الديمقراطية في أي بلد في العالم..

وهذا هو الحاصل في هذه البلاد السعيدة.

Visited 67 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

اسماعيل طاهري

كاتب وباحث من المغرب