الانتصار للبخل في رسالة سهل بن هارون
أحمد بنعيسى
لتحليل رسالة سهل بن هارون، ينبغي قبل كل شيء الأخذ في عين الاعتبار السياق التراسلي التي نتجت فيه هذه الرسالة، إذ هي بالأساس خطاب رد على رسالة وردت عليه من بني عمه “حين ذموا مذهبه في البخل، وتتبعوا كلامه في الكتب”، فأفق التوقع الذي ينتقل إلى الأذهان عند هذا المعطى، أن نص رسالة سهل بن هارون هو على مستوى أول، خطاب رد، أساسه نقض ما جاء به بنو عمه من حجج في دعواهم، وفي المقابل بناء دعواه على حجج يراها من وجهة نظره قوية، وهو المستوى الثاني الذي يفهم انطلاقا من السياق التراسلي، فالوضع الذي قامت عليه هذه الرسالة هو وضع هدم وبناء، هدم حجج خصومه (بنو عمه)، وبناء حججه هو، مما ستتشكل عنه صورتان متضادان، صورة مهزوم (بنو عمه)، وصورة منتصر (سهل بن هارون)، وتجدر الإشارة إلى أن الصورة العامة التي كانت متشكلة قبل أن ينتج سهل بن هارون رسالته، كانت على وضع معكوس، صورة بنو عمه وهم في موقف المنتصر، وصورة سهل بن هارون وهو في موقف المتهم، إن لم نقل في صورة المنهزم.
إذن فالسياق هنا سياق سجالي، يبتغي فيه كل من الطرفين المتساجلين إحراز الغلبة على صاحبه وكسب المواقع، كما يلزم أن يؤخذ في عين الاعتبار، أننا هنا إزاء طرفين غير متكافئين من حيث العدد، فكما هو واضح، أن سياق التناظر السجالي قائم بين فرد وجماعة، يمثل الفرد سهل بن هارون، ويمثل الجماعة بنو عمه، وهذا يدفعنا ونحن على عتبة الرسالة إلى توقع لمن ستكون الغلبة، واستنادا إلى ما جرت به العادة، فالغلبة على الأرجح تكون من حظ الجماعة، والعقول الكثيرة تدحض حجج العقل الواحد، فهل سيصدق هذا الافتراض؟ وبعبارة أخرى: هل سيتمكن سهل بن هارون في خطاب الرد من دفع حجج خصومه الكثيرين؟
السياق العام للرسالة:
كما سلف القول، إننا بإزاء هذه الرسالة أمام خطاب رد، وليكون حكمنا قويما، كان من المحبذ أن نطلع على الرسالة التي وردت من بني عم سهل بن هارون، والحق أننا عندما نمعن النظر في هذه الرسالة التي بين أيدينا، نكتشف أن الخطة التراسلية بين سهل بن هارون وبني عمه، كانت على هذا النحو، سهل بن هارون يكتب خطابا إلى بني عمه بغاية النصح والإرشاد، يمثل ذلك قوله: “وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم، وإلا إصلاح فسادكم وإبقاء النعمة عليكم”، فالملفوظ القولي المتصرف في الزمان الماضي “وما أردنا بما قلنا”، دليل على أن ابتداء التراسل كان في أول أمره من سهل بن هارون، وذلك حسب المشيرات اللغوية في الاقتباس أعلاه، فما رآه سهل بن هارون من تصرف مخل يتعاطاه بنو عمه مع مالهم، يهدد بذهاب النعمة عليهم، يمثل ذلك التلفظ التالي: “وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم… وإلا إصلاح فسادكم، وإبقاء النعمة عليكم”، وردا على هذا القول الذي تقدم به سهل بن هارون في إرشاد ونصح بني عمه، جاءت رسالتهم، وكانت بعكس ما توقع سهل، فهم لم يرضوا مذهبه في البخل، وتتبعوا كلامه في الكتب، فذموه وعابوه.. وفي هذا السياق بالذات، وردا على هذا الذم، أنتج سهل بن هارون رسالته هذه التي بين أيدينا، وعلى هذا الأساس، تكون هذه الرسالة، مبنية على رسالتين سالفتين لا نعلم عنهما الكثير إلا تلميحات ساقها سهل بن هارون في هذه الرسالة، فعلمنا انطلاقا من هذه المشيرات النصية في هذه الرسالة، أن سهل بن هارون، أراد التوجه بالنصح إلى بني عمه أولا، وأنهم ثانيا لم يتلقوا هذا النصح بالقبول ولم يرضوا مذهبه، فكان على المستوى الثالث أن ظهرت هذه الرسالة، ونزيد في الافتراض أن بني عم سهل بن هارون، ردوا على هذه الرسالة بخطاب رابع، لكنه لم يصلنا كما لم تصلنا الرسالة الأولى والثانية، كما يمكن أن نفترض أيضا أنهم أفحموا عند هذا الحد ولم يجرؤا على كتابة رسالة رابعة، وبهذا ختم السجال.
الاستدراج:
في معرض رد سهل بن هارون على بني عمه، حين ذموا مذهبه في البخل وتتبعوا كلامه في الكتب، لم ينهج سبيل العنف كما قد يتبادر إلى الأذهان، فالسياق التلفظي للرد، كان يفترض به أن يهجم على خصومه بما يدحض حججهم، فقد كان غرضه إرشادهم والنصح لهم، ولكنهم قلبوا له ظهر المجن، وطفقوا يذمون رؤيته للأشياء، ويعيبون عليه طريقته في تحليل الأمور، كانت نيته نية نبيلة، تتوخى رسم المنهج القويم لهم، لأجل حفظ النعمة عليهم، ولكنهم عوض أن يكونوا ممتنين له، وجهوا له أصابع الاتهام. هذا المقام السياقي، كان يستدعي ردا من جنس ما ردوا به عليه، رد تؤطره ملفوظات قولية عنيفة إلى حد ما، ولكن سهل بن هارون تنكب عن هذا الطريق، وسلك سبيلا آخر، فتوجه أول الأمر بالدعاء لهم: “أصلح الله أمركم وجمع شملكم، وعلمكم الخير وجعلكم من أهله”، ثم بعد الدعاء لهم، تعرض لبيان قصده مما صدر منه إليهم: “وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم، وإلا إصلاح فسادكم وإبقاء النعمة عليكم”، ثم على المستوى الثالث عاتبهم عتابا خفيفا: “ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم، قد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما قد اخترناه لأنفسنا قبلكم، وشهرنا في الآفاق دونكم، فما كان أحقكم في تقديم حرمتنا بكم -أن ترعوا حق قصدنا بذلك إليكم- وتنبيهنا على ما أغفلنا من واجب حقكم، فلا العذر المبسوط عرفتم، ولا بواجب الحرمة قمتم”.
إن هذه المظاهر الخطابية الثلاث: الدعاء للخصوم، وبيان القصد من قوله السابق وهو الإرشاد والنصح، والعتاب الخفيف، هي مظاهر من مظاهر تقنية الاستدراج، أي استدراج الخصوم بطرق حجاجيه، تنتهج التلطف في الخطاب والرفق والمداهنة، لأجل اللعب على المشاعر لدى الخصم لحمله على الاقتناع، وقد اتخذ سهل بن هارون هذه التقنية (لا يهمنا إن كان بوعي منه أو بغير وعي منه) منطلقا لبناء رسالته، إذ بمباشرة أن فرغ من بناء هذا الأساس، شرع في تفنيد حجج خصومه (بنو عمه) والإدلاء بحججه هو، أي أنه شرع في هدم أقوال خصومه، وبناء أقواله، وهو ما أشرنا إليه سابقا، ذلك أن مفاصل بناء هذه الرسالة، قائم على تقنيتي الهدم والبناء، والملاحظ أنه في مشروع الهدم والبناء تبنى سهل بن هارون صيغة قولية موحدة على امتداد الرسالة، وهي الشكل الآتي: “وعبتموني بقولي/وعبتم علي قولي… وقد قال…”، فسهل بن هارون عندما يورد ما عابه عليه خصومه بالملفوظ “عبتم” الذي تكرر تسع مرات في الرسالة، كان يورد قولا مأثورا، دعما لمذهبه، ودحضا لمذهب خصومه، إذ الملاحظ أنه في أغلب المرات التي أراد فيها تفنيد رأي خصومه، لم يخلق لنفسه حججا شخصية يدعم بها مذهبه ورأيه، وإنما كان يأتي بقول يعتبر بمثابة قول فصل ودامغ، وهو ما يسمى في التقليد الحجاجي بحجة السلطة، وعلى هذا، فسهل بن هارون وهو يهدم حجج خصومه ويبني حججه استعان بهذه التقنية الناجعة في هذا السياق، وهي حجة السلطة، كان سهل بن هارون واعيا بقوة هذه الحجة في الرد على خصومه، والفصل بينه وبينهم، فجعلها من هذا المنطلق نقطة ارتكاز محورية في البناء والهدم، لذلك كانت الصيغة على امتداد الرسالة صيغة موحدة “وعبتم علي قولي… وقد قال…”، ومن أمثلة ذلك قوله: “وعبتموني بقولي لخادمي: أجيدي عجنه خميرا… وقد قال عمر بن الخطاب لأهله: املكوا العجين فإنه أريع الطحينين”، “وعبتم علي قولي: من لم يتعرف مواقع السرف في الموجود الرخيص لم يتعرف الاقتصاد في الممتنع الغالي… وقد قال الحسن عند ذكر السرف: إنه ليكون في الماعونين الماء والكلأ.. “، وعبتموني حين قلت للغلام: إذا زدت في المرق فزد في الإنضاج… وقد قال النبي (ص): إذا طبختم لحما فزيدوا في الماء، فإن لم يصب أحدكم لحما، أصاب مرقا”، وعبتموني بخصف النعال وبتصدير القميص… وقد كان النبي (ص)، يخصف نعله ويرقع ثوبه ويلطع إصبعه، ويقول: لو أتيت بذراع لأكلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت”. وكما هو واضح من خلال هذه النماذج، أن القالب الذي يورد فيه سهل بن هارون حججه قالب واحد، يورد حجة سلطة، وعن طريقها يتحقق الهدم والبناء.
المغالطة وحجة السلطة:
وفي هذا الصدد لا يفوتنا التنبيه إلى ما في المثالين الأخيرين من مغالطة حجاجية، فإذا كان النبي (ص) قد أمر بزيادة الماء عند طبخ اللحم، فإن سياق ذلك أن تكون الوضعية الاجتماعية التي يطبق فيها هذا الأمر، وضعية فقر وقلة يد، دليل ذلك، قول النبي (ص): “فإن لم يصب أحدكم لحما أصاب مرقا”، وعليه تكون حجة السلطة هذه مرهونة بسياق ومقام تلفظي معين، هو الفقر وقلة اليد، أما إذا كانت الوضعية الاجتماعية وضعية رخاء وسعة يد، فلا معنى حينها لزيادة الماء عند طبخ اللحم، لأن كل المتحلقين حول المائدة سيصيبون حصتهم من اللحم، وهو السياق الذي توفره حال سهل بن هارون، فهذا الأخير وإن كان بخيلا، فقد كان من أغنياء عصره، وبالتالي فاحتجاجه بالقول: “إذا زدت في المرق فزد في الإنضاج…” فليس له داع وليس الحامل عليه غير البخل، وهنا تظهر المغالطة جلية في الاحتجاج بهذا النص الذي يمثل حجة السلطة. ونفس الأمر يمكن إسقاطه على احتجاجه بالنص الثاني في خصف النعال وتصدير القميص، فإذا كان النبي (ص) يخصف النعل ويصدر القنيص، فلكون السياق الذي ورد فيه هذا القول، سياق عوز وقلة يد، وهو الحال الذي لا نجده في حالة سهل بن هارون الغني، وما قوله: “إن المخصوفة أبقى وأوطأ وأنفى للكبر وأشبه بالنسك، وأن الترقيع من الحزم…”، ليس إلا حجة واهية وقولا مردودا، ترده نصوص أخرى من مثل: “إن الله جميل يحب الجمال”، و”إن الله يحب لنعمه أن تظهر على عبده” إلى غير ذلك.
وبهذا يمكن الاستنتاج التالي: إن الاحتجاج بحجة السلطة لا يكون ناجعا إلا إذا كان السياق الذي ورد فيه نص حجة السلطة مشابها للسياق الذي يحتج له، فإذا انتفى هذا الشرط كان الاحتجاج مجرد مغالطة.
حجة السلطة الشخصية وحجة السلطة اللاشخصية:
وحجة السلطة في التقليد الحجاجي تنقسم إلى قسمين، حجة سلطة شخصية وحجة سلطة غير شخصية، وقد استعان سهل بن هارون بالنوعين معا، ولكنه أكثر من النوع الأول، فاحتج بعمر بن الخطاب والحسن البصري، والنبي (ص)، وسعدى ابنة عوف، وطلحة الفياض، ومعاوية، وابن سيرين، وزيد بن جبلة، والحضين بن المنذر، وأبي بكر الصديق، وهشام، وأبي الأسود الدؤلي، وكل هؤلاء يمثلون في الثقافة العربية الإسلامية قدوة يهتدى بها في مختلف مجالات الحياة، من سياسة، وورع، وزهد، وتقوى، ودين… وضمن هذا القسم من حجة السلطة، أي حجة السلطة الشخصية، نجدها تتفرع إلى نوعين، النوع الأول، عبارة عن أقوال لبعض هؤلاء الأعلام، الذي يمثل قولهم قولا فصلا لا يتعرض للنقاش، وإنما ينبغي أن يمتثل ويهتدى به دون أدنى شك، كقول عمر بن الخطاب، وابن سيرين، والنبي (ص)، وأبي بكر الصديق، وأبي الأسود الدؤلي… ونوع ثان من هذه الحجة يتمثل في أفعال لهؤلاء الأعلام، من ذلك فعل النبي (ص) في خصف النعال، وفعل سعدى ابنة عوف في تلفيق إزار طلحة.. وكما ينبغي أن تمتثل أقوال هؤلاء الأعلام دون نقاش، فكذلك الأمر فيما يتعلق بأفعالهم وما عرف عنهم، وهكذا فإن قوة حجة السلطة لا تتعلق بالأفعال فقط، وإنما كذلك بالأفعال أيضا.
وإذا كان ما سبق هو تمثيل لحجة السلطة في قسمها الشخصي، فإن حجة السلطة التي لا تتعلق بشخص بعينه وإنما بقيمة من القيم أو مؤسسات من مؤسسات المجتمع، فإن سهل بن هارون وظف في خدمة هذا المعطى حجج سلطة لا شخصية أيضا من قبيل: بعض الأئمة، ومجهولين ولكن أقوالهم معتبرة وقد عبر عنهم سهل بن هارون بقوله: “وقالوا…”، وسيرة الأنبياء، وتعليم الخلفاء، وتأديب الحكماء، فإن هذه المؤسسات تعتبر في المجتمع وما يصدر عنها من أقوال وأفعال وأحكام وقيم ينبغي اتباعه وامتثاله أيضا لما له من قوة حجاجية معتبرة.
تركيب وخاتمة:
في تحليلنا لعتبة رسالة سهل بن هارون من منطلق سياقي، خلصنا إلى أن هذه الرسالة مبنية على رسالتين سابقتين، وبالتالي أطرنا هذه الرسالة في كونها جاءت في سياق الرد، اعتمدت هذه الرسالة في بنائها بشكل عام على تقنيتي الهدم والبناء، ولكنها قبل أن تشرع في ذلك، مهدت طريقها بأسلوب استدراجي لحمل الخصوم على الاقتناع، تبنت هذه الرسالة كمعول هدم وبناء حجة السلطة في الصيغة السالفة الذكر “وعبتم… وقد قال…”، كما نوعت في حجة السلطة بين شخصية وغير شخصية، وفي الشخصية وظفت الأقوال كما وظفت الأفعال أيضا.
وعلى هذا الأساس يكون هذا التحليل ابتعد ما أمكن عن المدرسية، وحاول أن يسبر بعمق التأمل الأغوار التي بنى عليها سهل بن هارون رسالته إلى بني عمه، حين ذموا مذهبه في البخل وتتبعوا كلامه في الكتب.