رأس أصلع وشعر طويل…

رأس أصلع وشعر طويل…

أحمد حبشي

       “أعرض عن هذا يا يوسف” … كان هذا هو رد السي عمر، والد يوسف فاضل، بعد أن استمع لأول نص قصصي كتبه ابنه وهو في الثامنة عشرة من عمره، كان يوسف ينتظر من والده توجيها لغويا أو تعبيرا عن إعجاب، لكن ردة فعل الوالد أخرست لسانه عن الكلام. لم ينبس يوسف بكلمة وبقي جامدا في مكانه والوالد يبتعد عنه دون أن يضيف حرفا عما قال.

ضحكنا كثيرا بعد أن أبلغنا يوسف تعليق والده، الفقيه العارف بأسرار اللغة والذي تلقى تكوينه في مدرسة بن يوسف الشهيرة بمدينة مراكش. لم نفهم ما القصد من تعليق الوالد، بينما كنا شديدي الإعجاب بالنص في صياغته ودلالة معانيه. “رأس أصلع وشعر طويل” عنوان أثار إعجابنا وخضنا في نقاش لتدليل خلفياته وحقيقة معانيه.

كانت القصة تحكي بعض تفاصيل لقاء بين رجل وامرأة بعد منتصف الليل، أحداثها واقعية. لقد كانت مغامرة غير محسوبة العواقب أن يأخذ شاب في مقتبل العمر إلى بيت والديه نادلة المقهى، التي تعذر عليها العودة إلى بيت أهلها بعد أن تجاوزت الوقت الذي اعتادت أن تنهي فيه عملها، والذي لم تكن عائلتها تعلم عنه أي شيء. أبهجته الفكرة وشغلته تفاصيل ما يجب القيام به حتى يفي بوعده بما تفتضيه الشهامة وعزة النفس. لم يكن المقهى يبعد عن البيت بأكثر من مائتي متر، تقريبا في ذات الحي، وإن كانت المنعرجات تمدد المسافة وتحتاج بعد منتصف الليل إلى المزيد من أخذ بعض الاحتياطات. لكن ما كان يشغل بال الشاب هو كيف يأخذ معه إلى بيت العائلة شابة في وقت متأخر من الليل، كيف يمكن أن يتسلل رفقتها إلى غرفته الصغيرة التي تقع وسط البيت المكون من غرفتين يفصل بينهما ممر به مرحاض وزاوية كمطبخ لإعداد الطعام. تمكن من التسلل رفقة ضيفته بأن قطعا المساقة الفاصلة في حذر وتوجس. لم يحرك أحد ساكنا والده ووالدته وإخوته الأربعة الذين يعتمرون الغرفة الثانية، حيث يحتل فراش الوالد والوالدة الحصة الأكبر من الغرفة. لم يكن في غرقته سوى فراش واحد لا يتسع لإثنين. تمدد متسللا إلى جانب ضيفته بعد أن خصها بغطائه المتواضع، واكتفى بثنائها الزائد وشكرها الكبير على ما اعتبرته مساعدة واعتبره فرصة أن يقضي لأول مرة في حياته ليلة إلى جانب امرأة، استهواه شكلها واستطاب حديثها وهي تقص عليه في المقهى ما عرفته من محن بعد طلاقها الذي كان سبب تشردها، وسهرها الدائم لتجد ما تسد به رمقها ولتبرير مدة غيابها عن بيت العائلة طيلة النهار. ما أن امتدت على الفراش حتى غاصت في نوم عميق تتلاحق نبرات أنفاسها، بينما بقي هو على سهاد يتأمل الجسد الذي انكشفت جوانبه ولا يتفاعل مع توالي حركات اللمس التي كان يواصلها بإيقاعات تتباين تأثيراتها، في انتظار ردة فعل جسد متعب تثقله الأهوال. لم يغمض له جفن، يداري توجسه من أن يفاجأه الوالد قبل أذان الفجر عند توجهه للاغتسال استعدادا لأداء فريضة الصلاة. انتهت الحكاية بأن مرت الأمور دون أن تثير الواقعة انتباه كل من قضى الليلة بالبيت.

لا أتذكر أكثر من ذلك مما جاء في تفاصيل النص وحقيقة ما وقع بالضبط، أعجبنا كثيرا بصياغته واستغرقنا نقاش حول العنوان ودلالاته. اتفقنا على ضرورة نشره بالملحق الثقافي لجريدة “العلم”، التي كانت منبرا مفتوحا على كل المساهمات الشابة. لم يكن والد يوسف يعلم أن ابنه قبل ذلك كتب مسرحية لقيت إعجاب كل من شاهدها، وأنه بعدها أصبح مهووسا بالكتابة المسرحية وأنتج نصوصا متعددة في سن مبكرة. “وراء الباب” كانت أول عمل مسرحي بعد احتكاكه بالميدان من خلال انخراطه بفرقة “الشهاب”، التي كان يديرها العزيز محمد التسولي. مسرحية في فصل واحد تجري وقائعها في مقبرة. يتسلل رجل إلى مقبرة لسرقة رجل أحد الموتى، شاع الحديث حولها أنها من ذهب. ما إن بدأ الحفر حتى أحاطه الموتى من كل جانب، وأخذوا في محاكمته على كل ما فعله وما سببه من مشاكل لكل واحد منهم نساء ورجالا. كان الموضوع في شكله مثيرا، وقد استلهمه يوسف من مسرحية كانت تعدها فرقة “الشهاب” آنذاك “موتى بلا قبور” للكاتب الفرنسي والفيلسوف الوجودي جان بول سارتر.

لم يكن أحد يتوقع الاهتمام الذي حظيت به المسرحية ولا الصدى الذي تركته في العديد من الأوساط. انتقل بعدها يوسف بكل ثقة إلى عوالم الكتابة، فأنتج نصوصا متعددة البعض منها لم يعرف طريقه إلى الخشبة، والبعض كلفه الاعتقال بمخفر سري للشرطة لمدة شهر كامل. ما كان كل ذلك ليجعل والده يهتم بكتاباته وقد اكتفى بكتابة تعليق هامشي على نصه الأول بعد أن نشرته جريدة “العلم” بأحد صفحاتها، حيث دعاه إلى الاهتمام بالكتابة حول التاريخ. لم يسعده لحظة ما حققه ابنه من نجاحات ككاتب مسرحي ثم كسيناريست وروائي ترجمت أعماله لأكثر من لغة وحصل على جوائز على المستوى الوطني والعربي، إلى جانب دعوات من عدة جامعات دولية بأروبا وامريكا، لنقاش أعماله وتسليط الضوء على تجربته. يسجل له رفضه ترجمة إحدى رواياته للعبرية. أصبح يوسف بعد أكثر من ستين سنة في الكتابة والإبداع الفني، من أبرز الكتاب المغاربة وأكثرهم إنتاجا، يصدر عملا كل سنتين. روايته الأخيرة “ريفوبليكا” في ثلاثة أجزاء صدرت في طبعة واحدة فيما يقرب من ألف صفحة، اختار منطقة الريف كفضاء لمجريات وقائعها وعوالم شخوصها.

لروح السي عمر الرحمة والمغفرة وليوسف كثير من النجاح وطول العمر.                       

Visited 118 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

أحمد حبشي

فاعل جمعوي وناشط سياسي