التزوير في التاريخ الروسي والحرب العالمية (2-4)
مقولة أن الشتاء هو سبب انتصار الروس وأن إنزال النورماندي هو سبب هزيمة ألمانيا وانتصار الحلفاء
تخرصات تاريخية وبدع تضليلية ببعد أيديولوجي ماكر
د. زياد منصور
الغزو النورماندي: كيف تم فتح الجبهة الثانية في أوروبا؟
قبل 80 عاما، في 6 يونيو – حزيران 1944، بدأ إنزال القوات البريطانية والأمريكية في النورماندي- شمال فرنسا. دخل هذا التاريخ باسم يوم D D-Day – فتح جبهة ثانية في أوروبا الغربية. ونتيجة لعملية إنزال كبرى في أوروبا، فتحت الجبهة الغربية، التي بدأت في صد النازيين في فرنسا، بينما سحق الاتحاد السوفياتي أفضل وأمهر الفرق النازية في أوروبا الشرقية.
جنبا إلى جنب مع الأمريكيين والبريطانيين، شارك جنود وضباط من كندا وأستراليا ونيوزيلندا ووحدات من الفرنسيين والبولنديين والهولنديين وغيرهم من المناهضين للفاشية في عمليات الإنزال. وكان على العالم أن يرى أن ألمانيا هتلر أصبحت وحيدة تقريباً ومعزولة، في مواجهة الإنسانية جمعاء.
الحديث عن فتح جبهة ثانية بدأ منذ نهاية عام 1941، خلال لقاء بين رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل وجوزيف ستالين. لكن الأمر اقتصر على الوعود والعمليات التحضيرية. وفي الأشهر الحاسمة من الحرب، قاتل الجيش الأحمر النازيين دون دعم قتالي من الحلفاء. وبعد معركة كورسك، قال الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت إنه “إذا استمرت الأمور في روسيا كما هي الآن، فمن المحتمل ألا تكون هناك حاجة في الربيع المقبل لجبهة ثانية”. لم يكن بوسع لندن وواشنطن السماح بذلك – ولم تكونا في عجلة من أمرهما لفرض إنزال واسع النطاق في أوروبا. لكنهم انتقلوا من الكلام إلى الفعل في اللحظة الأخيرة فقط، عندما شعروا أن الجيش الأحمر سيصل إلى حدود الاتحاد السوفياتي خلال شهر أو شهرين ويبدأ مسيرة التحرير نحو الغرب.
في نوفمبر – تشرين الثاني 1943، في مؤتمر طهران لقادة الدول “الثلاثة الكبار” في التحالف المناهض لهتلر، عندما سأل جوزيف ستالين مباشرة ونستون تشرشل عن الموعد المتوقع لنزول الحلفاء في فرنسا، أجاب بشكل مراوغ: “متى؟ عندما يحين الوقت، سنعتبر أن من واجبنا الذي لا يتزعزع أن نتقدم عبر لامانش ضد الألمان بكل القوات المتوفرة لدينا.» لكن هذه اللحظة لم تحل إلا في أوائل صيف عام 1944.
حملت العملية الاسم الرمزي “أوفرلورد” (الذي يعني “الحاكم” بالإنجليزية). اسم الجزء الأول منها – الإنزال – لم يكن بحاجة إلى ترجمة: “نبتون”. كان قائد القوات دوايت أيزنهاور، الذي أصبح فيما بعد رئيس الولايات المتحدة. كان أيزنهاور واحدًا من بين العديد من القادة العسكريين الأمريكيين الذين فهموا أن الحرب لا يمكن إنهاؤها بضربة واحدة. حتى أنه أعد تقريرًا سريًا في حالة الفشل، يحمل فيه نفسه مسؤولية الفشل. أما أهم ثاني منصب – قائد القوات البرية – فتولاه الجنرال البريطاني برنارد مونتغمري. ترأس الجنرال البريطاني الآخر فريدريك مورغان هيئة القيادة العليا لقوات الحلفاء الاستطلاعية، وكان مسؤولاً عن تخطيط العملية.
في البداية، تم التخطيط للإنزال في شهر ماي – أيار 1944، ولكن بسبب التأخير في تجهيز الوحدات العسكرية وانتظار الطقس المناسب، تم تأجيل العملية إلى بداية الصيف.
معركة شواطئ النورماندي:
حولت عملية الإنزال الشواطئ الفرنسية الشهيرة إلى ساحات معارك. كان البريطانيون يعملون على شاطئي غولد وسورد، والأمريكيون على شاطئي يوتا وأوماها، والكنديون على شاطئ جونو. تم الإنزال من السفن عبر القناة الإنجليزية، ومن الجو باستخدام المظلات والطائرات الشراعية. بدا أن الخطة مدروسة بعناية فائقة، حيث عملت القيادات عليها لأشهر، لكن السيطرة على المواقع كانت مهمة صعبة.
صدَّ الألمان أول موجتين من الإنزال، ولم يتمكن جنود جيش أيزنهاور من السيطرة على الشاطئ الرملي إلا مساء السادس من تموز. قضى الحلفاء يومين كاملين دون أن يتمكنوا من التقدم إلى الأمام، متمسكين بالشريط الساحلي الذي سيطروا عليه. قام الألمان بهجمات مضادة. واجه الأمريكيون مقاومة شديدة من القوات الهتلرية على شاطئ أوماها، حيث تكبدت قوات أيزنهاور خسائر كبيرة. ومن الجدير بالذكر أن الجنرال الأمريكي الوحيد الذي نزل على شاطئ نورماندي مع وحدته كان ثيودور روزفلت الابن، ابن الرئيس الأمريكي السابق تيدي روزفلت (يجب ألا نخلط الاسم مع اسم الرئيس آنذاك فرانكلين روزفلت، الذي يحمل نفس الاسم).
ومع ذلك، تمكن الحلفاء من مفاجأة الألمان؛ إذ كانوا يتوقعون الإنزال في منطقة بادو كاليه أو بولوني، في أكبر الموانئ. كانت تلك المناطق هي الأكثر تعرضًا للقصف من قبل الحلفاء. لكن العقول البريطانية العسكرية اقترحت الإنزال على الشواطئ الرملية، حيث لم يكن لدى الألمان دفاعات عميقة، ويمكن الاستيلاء على المواقع هناك. وكان لهذه الفكرة غير التقليدية أهمية؛ إنزال جيوش تعد بالآلاف بعيدًا من الموانئ والمدن الكبرى، وتحقيق التفوق الجوي في النورماندي لم يكن صعبًا بسبب قرب المطارات البريطانية النسبي.
تم ضمان نجاح الحلفاء من خلال التفوق الكبير في القوات والمعدات: شارك أكثر من 3 ملايين عسكري في عملية الانزال البري والجوي (على الرغم من أن نقل الجنود إلى نورماندي استغرق ما يقرب من شهرين). لقد كان في مواجهتهم أقل من مليون من النازيين على طول الساحل بأكمله، وثلاث فرق لم تكن من أفضل الفرق. كان نصف الجنود في الألوية القتالية التي كانت تدافع عن النورماندي من الألمان الأصليين المتحمسين، بينما الربع على الأقل كانوا من الجرحى أو المعاقين، أو المشوهين في القتال في الحقول الروسية. بقية القوات كانت من المساندين والمؤيدين للنازية من كل أنحاء أوروبا. استسلم جزء كبير من هؤلاء الجنود للقوات الأمريكية والبريطانية دون قتال. إجمالًا، فإن وحدات الفيرماخت التي كانت تحرس الساحل لم تكن قادرة بشكل كبير على المواجهة.
بلغ عدد النازيين في النورماندي فعليًّا، حوالي 20 ألفًا. وفي الوقت نفسه، شارك 156 ألفًا في الصف الأول من الانزال الأنجلو أمريكي وحده، وقد ضمن التفوق في الطيران نجاح الهجوم الجوي بحوالي 20-25 مرة. أنشأ النازيون على عجل نظامًا من التحصينات الساحلية يحمل الاسم الصاخب “الجدار الأطلسي”. ولكن اتضح أنه كان جدارًا هشًّا. وبطبيعة الحال، كانت هناك حقول ألغام تحت الماء، وعدد من الدشم المنيعة، ومرابض المدفعية المحصنة. كل هذا لم يكن كافيًا بالنسبة لإستراتيجيي الرايخ الثالث، إذ لم يتمكنوا من بناء جدار عصي على الاختراق.
نهاية صعبة للحرب
أول مدينة فرنسية تم تحريرها كانت سانت مير إيجليز، والتي تم احتلالها عن طريق الانزال بالمظلات عند الفجر. ولكن، بشكل عام، لم يكن من الممكن تطوير النجاحات الأولى بسرعة. احتشد الألمان ومنعوا المزيد من تقدم الأمريكيين والبريطانيين في شهر حزيران. بحلول نهاية شهر تموز فقط، تمكنت قوات الجنرال أيزنهاور من إنشاء رأس جسر استراتيجي ضروري للتقدم إلى الحدود الألمانية. على الجبهة الشرقية، عملت 236 فرقة و18 لواء ضد الجيش الأحمر. ولكن بحلول منتصف الصيف، تمكنت القوات السوفياتية خلال عملية “باغراتيون” من تحرير بيلاروسيا، وهزمت مجموعة الجيوش الوسطى. ومن نواحٍ عديدة، كانت الكوارث على الجبهة الشرقية هي التي منعت النازيين من التمكن من إيقاف الأمريكيين والبريطانيين في النورماندي لفترة أطول. لعل هذه الحقيقة هي ما يتم غض النظر عنها إلى يومنا هذا.
في شهر أب، وصلت القوات السوفياتية إلى حدود الرايخ الثالث. وهكذا، كان الاستيلاء على برلين من قبل قوات الجيش الأحمر محددًا مسبقًا، دون مشاركة الحلفاء – وهو ما يتعارض مع آمال تشرشل، الذي كتب بتفاؤل إلى روزفلت في بداية عملية أوفرلورد: “قد ينتهي الأمر أن النصر الذي حققته جيوشنا في نورماندي سوف يفوق في عظمته كل ما حققه الروس”. لم ينس السير ونستون المنافسة مع موسكو لمدة دقيقة واحدة حتى – وكالعادة، استبدل أحيانًا الحقيقة القاسية للحرب بالعواطف. كان روزفلت أكثر تحفظا إلى حد ما، مدركا أن العبء الرئيسي في معارك الجبهة الثانية – العسكرية والاقتصادية – سيقع على عاتق الأميركيين.
ألاعيب الحلفاء:
كتب ونستون تشرشل إلى جوزيف ستالين في ذلك المساء نفسه، دون أن يخلو ذلك من التفاخر: «لقد بدأ كل شيء على ما يرام. تم التغلب على الألغام والعوائق والبطاريات الساحلية إلى حد كبير. لقد كانت الهجمات الجوية ناجحة للغاية وتم تنفيذها على نطاق واسع”. يمكن فهم تشرشل: لقد تجاوز الانزال بالفعل من حيث الأهمية الاستراتيجية جميع الإجراءات السابقة للحلفاء على “الجبهات الثانوية والفرعية” (في أفريقيا في المقام الأول) – وحاول السير ونستون (وكذلك روزفلت، الذي أقام صلاة علنية من اجل جنوده) بكل ما في وسعه لجعل مشروعه لائقًا به.
جاء الرد السوفياتي لطيفا، فهنأ روزفلت في برقية خاصة، وبعد أسبوع تم ذلك بشكل علني، في مقابلة مع صحيفة برافدا، أعرب ستالين عن تقديره الكبير لنجاح الحلفاء، مشيرًا إلى أن الألمان كانوا قد فشلوا في عملية مماثلة لو قاموا هم بها. “هيستيريا هتلر، الذي تفاخر لمدة عامين بأنه سينفذ عملية عبور لامانش، لم يجرؤ حتى على محاولة تنفيذ تهديده. فقط القوات البريطانية والأمريكية نجحت بكرامة في تنفيذ الخطة الضخمة لعبور لامانش وإنزال القوات البرية بشكل جماعي”. كتب ستالين! من المؤكد أن البريطانيين والأمريكيين شعروا بالإطراء لقراءة هذه الكلمات.
المعركة في النورماندي حشدت ووحدت حقاً صفوف الحلفاء قبيل آخر معارك الحرب العالمية الثانية. أما هتلر، المحاصر بين فكين من الجبهات، فكان يعول الآن فقط على معجزة، والأكثر من ذلك كان يأمل في نزاع غير متوقع بين الإنجليز والأمريكان مع “البلاشفة”. كانت العلاقات بين الحلفاء حقاً ليست على ما يرام. حتى المعلومات العسكرية السرية كانت تحصل عليها موسكو كانت تحصل عليها ليس من المصادر الرسمية، بل من خلال الجواسيس، وبشكل خاص من “مجموعة كامبريدج الخمسة” الشهيرة (حلقة جواسيس كامبريدج هي حلقة من الجواسيس في المملكة المتحدة، نقلت المعلومات إلى الاتحاد السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية وكانت نشطة من ثلاثينيات القرن العشرين وحتى على الأقل أوائل الخمسينيات. لم يُحاكَم أيٌّ من أعضائها على الإطلاق بتهمة التجسس).
التاريخ والدعاية:
في الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا، تعتبر عملية “أوفرلورد” هي المعركة الحاسمة تقريبًا في الحرب العالمية الثانية. تستمر الدعاية لهذا الأمر حتى يومنا هذا. وفي هذا اليوم، وفي كل عام يأتي رؤساء العديد من الدول الغربية إلى فرنسا للاحتفال، مما يؤكد على أهمية الحدث بالنسبة إليهم. في الواقع فإن كل هذا مبالغ فيه إلى حد كبير. لماذا؟
لقد خسرت القوات النازية في نورماندي أقل من نصف مليون من القتلى والجرحى والأسرى. حجم المواجهة لا يمكن مقارنته بالمعارك التي خاضها الجيش الأحمر، الذي يحاول الآن أصدقاء روسيا السابقون في التحالف المناهض للنازية ببساطة عدم ذكره في المنتديات المخصصة لانتصاراتهم على الطاعون البني. وهذا الصمت أكثر تعبيراً من الكثير من الكلمات.
عسكرياً، كان الإنزال كبير الحجم، لكنه لم يكن بأهمية تكتيكية واستراتيجية كبيرة في سياق الحرب. كان المعنى السياسي للعملية أهم بكثير: بعد الإنزال في النورماندي، تلاشت العديد من التناقضات التي كانت تتراكم في التحالف المناهض للنازية. أصبح واضحاً أن الجبهة الثانية أصبحت حقيقة في المرحلة النهائية من الحرب، وأن الألمان سيفقدون جزءاً كبيراً من الاحتياطيات لإعادة نشرها على الجبهة الشرقية. بلا شك، أسهم ذلك في اقتراب هزيمة ألمانيا النازية.
البعد التزويري يتجاوز العقل:
يظهر النشاط التزويري الأكبر في هذا الصدد من قبل ممثلي الهياكل الرسمية لدول أوروبا الشرقية والوسطى، التي كانت ذات يوم حليفة لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وعلاوة على ذلك، حصلت نتيجة لذلك على الحرية والاستقلال والحق في الوجود المادي، بفضل تحريرهم من قبل الجيش الأحمر في 1944-1945.
وكان من المهم في هذا الصدد تصريح وزير خارجية بولندا جرزيجورز يوليوس شيتينا Grzegorz Juliusz Schetyna الذي صرح في أن معسكر الموت النازي أوشفيتز (*)، الواقع على أراضي هذا البلد، تم تحريره على يد الأوكران، ولكن ليس على يد الجنود السوفيايت. لقد كان الأوكران، في رأيه، “في أيام كانون الثاني تلك، هم من فتحوا البوابات وحرورا أسرى هذا المعسكر.
وعلى هذا فقد قام مسؤول بولندي رفيع المستوى بعزل الأوكرانيين عمداً عن الجيش الأحمر، الذي حرر هذا المعسكر وكل معسكرات الموت النازية الأخرى، فضلاً عن بولندا نفسها. أكثر من 600 ألف جندي وضابط سوفياتي ضحوا بحياتهم أثناء تحرير بلاده، وأصيب أكثر من مليون شخص، ولكن كل هذا بالنسبة لشيتينا وأمثاله من الموظفين الأوروبيين ليست حججاً مقنعة حول دور الجيش الأحمر، أو بالأحرى، ليست الحجج المطلوبة التي تتطلبها اللحظة السياسية الراهنة.
يشار إلى أن هذا التصريح صدر في ذروة الأزمة الأوكرانية، التي بدأها انقلاب فبراير – شباط 2014، من دون عدم مشاركة ممثلين عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تحضيره، بما في ذلك القيادة البولندية. ولذلك فإن هذا الكلام الاستفزازي العلني بطبيعته يهدف إلى إهانة قيادة روسيا بشكل متعمد، بل والاتحاد الروسي نفسه، وهو الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي، الذي هزم الفاشية في الحرب الوطنية العظمى.
والأكثر سخافة واستفزازًا هو التصريح الذي أدلى به رئيس وزراء أوكرانيا أ. ياتسينيوك A. Yatsenyuk في 8 يناير – كانون الأول 2015 خلال زيارة إلى ألمانيا. كان جوهرها أن أوكرانيا وألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية عانتا بالتساوي من غزو القوات السوفياتية. وهذا، على ما يبدو، ليس مجرد “سقطة فرويدية”، بل هذا هو الموقف المبدئي لياتسينيوك بعد أن وصل إلى السلطة وسط موجة من الذهان والهوس القومي في الميدان واكتسب في بلاده لقبًا فيه الكثير من الازدراء ومرتبط بسعيه للصدمات في التصريحات الفجائية، بل هو كشف عن نفسه أمام المجتمع العالمي. في المقام الأول، من خلال رهابه العدائي من روسيا ورغبته في تعميق الخلاف بين شعبي البلدين. ولهذا، بالطبع، من الضروري إعادة كتابة التاريخ، ما في ذلك تاريخ الحرب الوطنية العظمى، واستئصال كل ما هو إيجابي من وعي المواطنين الأوكران والذي يرتبط بطريقة أو بأخرى بروسيا.
هذه التصريحات تكررت كثيرًا حتى في يومنا هذا، وهي تدعم الإجراءات العملية التي اتخذتها السلطات الأوكرانية الحالية. وهكذا، على وجه الخصوص، بموجب مرسوم من رئيس أوكرانيا، تم تحديد يوم عطلة وطنية جديدة – يوم الذكرى والمصالحة، الذي من المفترض أن يتم الاحتفال به في 8 ماي – أيار، كما هو الحال في أوروبا (*). وفقًا لأهداف المرسوم، يجب أن تتم المصالحة بين الذين قاتلوا ضد النازيين لتحرير أوكرانيا وأولئك الذين أطلقوا النار على هؤلاء من الخلف، ونفذوا عمليات عقابية بأوامر من نفس النازيين ضد السكان المدنيين وارتكبوا جرائم أخرى أدانتها محكمة نورمبرغ، بما في ذلك ضمن قوات الاحتلال. ولكن وفقًا لمنطق السلطات الأوكرانية الحالية، فإن هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون لأوكرانيا، كما يتضح من عمليات تمجيد القوميين من منظمة القوميين الأوكرانيين (OUN) والجيش الأوكراني المتمرد (UPA)، الذين خدم عدد كبير منهم في فرقة فافن غرينادير إس إس الرابعة عشرة ” غاليسيا” خلال الحرب العالمية الثانية (*).
وهذه هي نتائج تزوير أحداث في تاريخ الحرب الوطنية العظمى في دولة مجاورة لروسيا، والتي تمت طوال فترة استقلالها التي دامت 25 عاماً تقريباً. هذه النتائج منطقية تماما، لأن التزوير نفسه تم تحت الرعاية المباشرة للهيئات الحكومية الأوكرانية. وكانت نتيجة عملية التزييف هذه هي إعادة صياغة الوعي العام الأوكراني، وخاصة بين الشباب، المبرمجين بالفعل على كراهية روسيا وكل ما يرتبط بها.
وبالمثل، يتم تنفيذ عمليات تزوير تاريخ ونتائج الحرب الوطنية العظمى في بعض بلدان ما بعد الاتحاد السوفياتي. وهكذا، في دول البلطيق، يتم زرع فكرة الاحتلال السوفييتي لدول البلطيق عام 1940 بشكل مقصود، على الرغم من أن دخولها إلى الاتحاد السوفياتي تم وفقًا لقرار سلطات الدولة في هذه الدول بعد الإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية لأنتاناس سميتونا لـ A. Smetona (في ليتوانيا)، وكارلسيس . أولامانيس وK. Ulmanis (في لاتفيا)، وقسطنطين باتس K. Päts (في إستونيا). بعد احتلال ألمانيا النازية لهذه الدول، قاتل الآلاف من اللاتفيين والليتوانيين والإستونيين في صفوف الجيش الأحمر. في الوقت نفسه، تعاون جزء كبير من سكان هذه البلدان بنشاط مع الفاشيين، مثل المتعاونين القوميين الأوكران، شاركوا في العمليات العقابية في الأراضي المحتلة، في المقام الأول في بيلاروسيا وروسيا وأوكرانيا. إن هؤلاء (المتعاونين) هم الذين تعترف بهم سلطات هذه البلدان كأبطال قوميين، كما يتضح من المسيرات المنتظمة لفيلق قوات الأمن الخاصة (أس-أس) الذين قاتلوا إلى جانب النازيين خلال الحرب العالمية الثانية في تالين وريغا.
لقد ذهبت ليتوانيا إلى أبعد من ذلك في رهابها غير القابل للتسوية من روسيا ورغبتها في تشويه سمعة دور الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية قدر الإمكان، حيث تم إعلان رموز الاتحاد السوفيتي، وبطبيعة الحال الجيش الأحمر الذي حرر ليتوانيا في عام 1944، كرموز شمولية ومحظور استخدامها تحت طائلة الملاحقة الجنائية. وبناءً على ذلك، تم حظر ارتداء الأوسمة العسكرية وغيرها من شارات التمييز من قبل قدامى المحاربين في الحرب الوطنية العظمى.
يبدو أن إعادة تأهيل الفاشية ومساعديها هي الهدف الرئيسي لتزييف أحداث الحرب العالمية الثانية. فالاتجاه الرئيسي لهذا التزييف هو التشويه المتعمد لدور الاتحاد السوفياتي في أحداث الحرب العالمية الثانية. الهدف من هذا التزييف واضح – وهو تشويه سمعة الدولة التي تحملت العبء الرئيسي ولعبت دوراً حاسماً في النصر على الفاشية. لا يزال مختلف أنواع المعادين لروسيا غير قادرين على تقبل هذا، ويحاولون بكل الوسائل الممكنة تحريف أو التقليل من دور روسيا في الحرب العالمية الثانية وتحميلها مسؤولية بعض تصرفات القيادة السوفياتية.
كل هذا يعتبر إهانة ليس فقط للمحاربين القدامى الأحياء في الحرب الوطنية العظمى، بل ولذكرى جميع المشاركين في الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك ضحاياها العديدين. يذكر أن الفاشية مُدانة من قبل المجتمع الدولي، وأدين أيضًا كل من تعاون مع النازيين بنشاط، بغض النظر عن جنسياتهم أو معتقداتهم الدينية أو انتماءاتهم الأيديولوجية. إن محاولات إعادة التأهيل، بل وتلميع صورة هذه الفئة من الأشخاص، ليست إلا محاولات لإعادة تأهيل الفاشية، ويجب أن يتم النظر إليها من قبل المجتمع الدولي على هذا النحو.
ومن الجدير بالذكر أن مثل هذه الأفعال الشنيعة تُنفذ بتواطؤ من المجتمع الأوروبي من خلال هيئاته الإدارية فوق الوطنية، التي تشارك أيضًا بنشاط في هذه العمليات. ولا عجب في هذا السياق أن تصدر الجمعية البرلمانية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا قرارًا فضائحيًا يساوي بين مسؤولية الاتحاد السوفياتي وألمانيا عن اندلاع الحرب العالمية الثانية، والذي تم اعتماده في العاصمة الليتوانية فيلنيوس في 3 يوليو- تموز 2009.
هذا يُشير إلى استراتيجية مُمنهجة لتزييف أحداث الحرب الوطنية العظمى، ومحاولات إضعاف الانتصار على الفاشية. والهدف من هذه الاستراتيجية هو محاولة إجبار روسيا، بصفتها الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي، على الاعتذار عن النصر وتعويض دول أوروبا الشرقية والوسطى عن الخسائر المزعومة التي لحقت بهم نتيجة لهذا النصر. لا شك أن هذه العمليات خطيرة للغاية.
لكن الأمر الأكثر خطورة هو عمليات تزوير أحداث وتاريخ الحرب العالمية الثانية والحرب الوطنية العظمى، والتي تهدف إلى إعادة تشكيل وعي المجتمع الروسي نفسه. تماما مثل سكان دول شرق ووسط أوروبا، فعلى مدى العقدين الماضيين، تم التعامل مع الرأي العام في روسيا بأنواع مختلفة من التزييف فيما يتعلق بأحداث الحرب الوطنية العظمى.
بالفعل في أوائل تسعينيات القرن العشرين، امتلأ الفضاء المعلوماتي الروسي بأعمال في. ريزون، وهو ضابط سابق في مديرية المخابرات الرئيسية للقوات المسلحة للاتحاد السوفياتي، والذي جندته المخابرات البريطانية وانشق في النهاية وفرَّ إلى المملكة المتحدة، فأعمال وكتب ومؤلفات ريزون كمثل “كاسحة الجليد”،” اليوم -م”،” التطهير”، وما إلى ذلك. كلها مكرسة لما يسمى -بالنظرة البديلة لأحداث الحرب الوطنية العظمى، والتي يتمثل جوهرها في أن هجوم ألمانيا النازية على الاتحاد السوفياتي كان فقط بسبب رغبتها في حماية نفسها من عدوانية وصلف السوفيات. ولذلك فإن الحرب التي شنتها قيادة هتلر كانت، كما يتبين من هذه الكتب، وقائية، وبالتالي مبررة. تم إدخال هذه الأيديولوجية بنشاط في وعي أولئك الذين حكموا على الحرب فقط من خلال الكتب والأفلام.
لعبت ما يسمى منح مؤسسة الملياردير جورج سوروس دورًا لا يقل أهمية في تزوير التاريخ الروسي بشكل عام وأحداث الحرب الوطنية العظمى على وجه الخصوص. تم إعطاء هذه المنح بحجة تقديم المساعدة المالية لممثلي المجتمع العلمي، الذي وجد نفسه في ظروف أزمة مالية واقتصادية حادة ناجمة عن أخطاء وحسابات خاطئة للإصلاحيين الروس في التسعينيات، وكانت هذه المنح انتقائية بطبيعتها وتم منحها فقط لأولئك الذين درسوا تاريخ روسيا، وخاصة الفترة السوفياتية، بطريقة مغايرة وسلبية حصرًا.
وبالتالي، في الواقع، تم تنفيذ التلقين الأيديولوجي، أولا وقبل كل شيء، من قبل المجتمع الأكاديمي والتربوي في روسيا، والذي يجب أن يشارك في المستقبل بشكل مباشر في تزوير تاريخ بلاده. وقد قبل هؤلاء حقا لعب هذا الدور. بحلول ذلك الوقت، نجد أن الكتب المدرسية عن تاريخ البلاد التي تم إعدادها بالفعل بما يسمى بالنهج التعددي-الليبرالي، قد قامت على فرضيات مغايرة لكل ما هو متراكم على مدى عقود . ونتيجة لذلك، بدأ ينظر إلى تاريخ اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية بأكمله على أنه ليس أكثر من تاريخ نظام شمولي، والانتقال منه إلى الديمقراطية هو أعظم إنجاز للمجتمع الروسي الحديث. على الرغم أيضًا من الزيادة غير المسبوقة في الجريمة والخروج على القانون، وإفقار الغالبية العظمى من سكان البلاد، وتصاعد الصراع العرقي والطائفي، وظهور التطرف، وانخفاض قيمة القيم الروحية والأخلاقية وظهور بدائل أخرى للفترة الانتقالية، لكن هذا لم يشغل بال هؤلاء الممنوحين ومن ورائهم . في الوقت نفسه، تم التكتم على جميع القضايا الإيجابية التي حدثت خلال الفترة السوفياتية من تاريخ روسيا، بل جرى تشويهها عمدا.
وبرأي هؤلاء، فإن النصر في الحرب الوطنية العظمى نفسها لم يتحقق إلا بجهود “الأوغاد” و”الكتائب الجزائية-العقابية” التي كانت تقتل الجنود المتخاذلين من الخلف. على الأقل هذه هي الفكرة التي روجت لها الأفلام التي تحمل الاسم نفسه. وكانت هناك أفلام أخرى دنست ذكرى قدامى المحاربين في الحرب الوطنية العظمى. وهنا، على وجه الخصوص، يمكننا أن نشير إلى فيلم «أربعة أيام في أيار»، والذي يحكي كيف أراد «الوحوش» السوفيات الاستيلاء على دار للأيتام الألمانية والإساءة إلى تلاميذه المكفوفين، ولكن “الروس العقلاء”، إلى جانب “النازيين النبلاء”، أوقفوا هذه المحاولة وذهبوا إلى الغرب، واختاروا “الحرية”.
لسوء الحظ، هذه ليست محاولات معزولة، وبالتالي، ليست أعمال عشوائية تشوه تاريخ ونتائج الحرب الوطنية العظمى. على العكس من ذلك، هناك نظام متكامل لحرب المعلومات، أحد أهدافه هو إعادة تشكيل الوعي العام لعموم روسيا بنفس الطريقة التي تم بها بالفعل في أوكرانيا وجورجيا وعدد من دول ما بعد الاتحاد السوفيتي الأخرى.
ويتضمن هذا النظام تنفيذ مجموعة من الإجراءات في المجالات التالية:
- تفسير متحيز للأحداث التي سبقت بداية الحرب العالمية الثانية والحرب الوطنية العظمى، بما في ذلك، مثلا دخول دول البلطيق إلى الاتحاد السوفياتي، والحرب مع فنلندا 1939-1940. إلخ.؛
- تبرير تورط الاتحاد السوفييتي في اندلاع الحرب العالمية الثانية من خلال التوقيع على ما يسمى ميثاق ريبنتروب – مولوتوف وإلقاء المسؤولية عليه (وروسيا خلفاً قانونياً له) عن بدايتها؛
- تشويه أحداث الفترة الأولى من الحرب من خلال تبرير التفوق “الطبيعي” للجنود والضباط الألمان على جنود الجيش الأحمر.
- تقزيم أهمية المعارك الرئيسية في الحرب الوطنية العظمى، مثل معركة موسكو، ومعركة ستالينغراد، ومعركة كورسك، ومعركة برلين، وما إلى ذلك؛
- نسيان مآثر جنود الجيش الأحمر، وعمال الجبهة الداخلية، والحركة الحزبية، والمقاتلين السريين، والبطولة الجماعية للشعب السوفييتي خلال الحرب؛
- الرغبة في تشويه الطبيعة المتعددة الجنسيات لوطنية الشعب السوفياتي، ومساهمة جميع شعوب الاتحاد السوفياتي في تحقيق النصر على ألمانيا النازية.
- تحميل الاتحاد السوفياتي مسؤولية المواجهة بين النظامين وتشكيل ما يسمى “الستار الحديدي” الذي قسم أوروبا الغربية والشرقية. (يتبع).
___________________________________________________
* – يعد مجمع محتشدات الاعتقال في “أوشفيتز” بمثابة أكبر المجمعات من نوعه، وقد تم تأسيسه في العهد النازي. يتضمن هذا المجمع ثلاث محتشدات رئيسية تم زج المعتقلين فيها وإرغامهم على العمل الإجباري. كما تم تخصيص أحد هذه المحتشدات لفترة طويلة كأحد مراكز القتل. كانت هذه المحتشدات تقع تقريبًا على بعد 37 ميلاً غرب مدينة “كراكاو”، بالقرب من الحدود الألمانية البولندية فيما قبل الحرب في سيليسيا العليا، وهي المنطقة التي استولت عليها ألمانيا النازية عام 1939 بعد اجتياح واحتلال بولندا. وقد قامت سلطات وحدة القوات الخاصة بإنشاء ثلاث محتشدات رئيسية بالقرب من مدينة “أوسفيانجيم” البولندية: “أوشفيتز الأول” في ماي – أيار 1940؛ و”أوشفيتز الثاني” (أيضًا يسمى “أوشفيتز-بيركيناو”) في أوائل عام 1942؛ و”أوشفيتز الثالث” (أيضًا يسمى “أوشفيتز-مونوفيتز”) في تشرين الأول/أكتوبر عام 1942.
* – وقع بوروشنكو مرسوما في يوم الذكرى والمصالحة في 8 ماي – أيار، حيث كان البرلمان الأوكراني قد صادق في التاسع من أبريل – نيسان 2014 على مشروع قانون يحدد تاريخ 8 ماي – أيار من كل عام يوم الذاكرة لجميع ضحايا الحرب العالمية الثانية. بدأت أوكرانيا باستخدام زهر الخشخاش الأحمر كرمز لإحياء هذه الذكرى، وذكرى ضحايا النزاعات المسلحة العسكرية والمدنية في جميع المناسبات الرسمية.
* – الفرقة التطوعية SS الرابعة عشرة “غاليسيا”، كانت تشكيلًا عسكريًا ألمانيًا في الحرب العالمية الثانية مؤلفًا في الغالب من متطوعين عسكريين ذوي خلفية عرقية أوكرانية من منطقة غاليسيا، ضمت لاحقا بعض السلوفاك والتشيك. تشكلت في عام 1943، ودمرت إلى حد كبير في معركة برودي، ثم اصلحت وشاركت في القتال في سلوفاكيا ويوغوسلافيا والنمسا قبل إعادة تسميتها الفرقة الأولى للجيش الوطني الأوكراني حتى الاستسلام للحلفاء الغربيين بحلول 10 ماي – أيار 1945.