مكونات ومرجعيات وآفاق السرد ودلالاته في رواية “أم الغيث”
عبد النبي البزاز
لعل ما يميز رواية “أم الغيث” للأديب والروائي المغربي حسن إمامي هو الغنى والتنوع على مستوى “التيمات “، والشخوص، والأحداث المخترقة بمؤثرات نفسية ولغوية واجتماعية ذات طابع وجودي متعدد المناحي، والأبعاد، والمرجعيات عبر شبكة حكي متشعب الخيوط والمسلكيات؛ بدءا من مركزية العنوان “أم الغيث” المقترن بشخصية غيثة التي تتمحور حولها وقائع الرواية في جل تفاصيلها، وما طبعها من تجاذبات وتنابذات، وتناقضات وتواءمات، تتأرجح بين التماهي والتنافر، التباعد والتقارب بـ(غيثة) كشخصية محورية تدور حولها أهم الأحداث والشخصيات التي تنبني عليها مكونات الرواية، وتتأسس دعائمها. فـ (غيثة)، أو أم الغيث كما يحلو لزوجها مناداتها هي نتاج بيئة أمازيغية تنتمي لإيموزار كندر الرابضة في بقعة محيطة بالأشجار، والمجاورة لبحيرة (إفراح)، وما يعج به محيطها من طيور وحيوانات حيث رأت غيثة النور، وخرجت للوجود كما روت والدتها: “ميلادك كان فجرا، كان الليل بدرا، وكانت أصوات الغابة تردد صراخي… عوت الذئاب، ونبحت الكلاب، وأرسلت خلائق الجبال نداءها في زقزقة طيور بالكاد لملمت أجنحتها استعدادا ليومها الجديد، وفي صراخ القرود الحارسة للأشجار والمتربصة بشاطئ البحيرة المستدير حتى الأسماك نطت فوق الماء فاختلط صوتها مع بط أزعجه هذا الاستيقاظ الباكر…” ص 11، وتعتبر غيثة هي الشخصية المركزية لما تربطها من تعالقات وتقاطعات مع باقي الشخصيات كالطبيبة حورية، وزوجها الطبيب البيطري السيد عبد العزيز الفارسي اللذين تكفلا برعايتها ومساعدتها: “كانت السيدة حورية هي الأم الثانية لـ (غيثة) وكان القدر مبتسما لها منذ محاولتها الخروج لهذا العالم الأرضي والعيش فيه.” ص18 ، وضع ساهم في مساعدتها على شق طريقها في الحياة، وتموقعها داخل المجتمع كأستاذة لمادة الاجتماعيات بفضل ما أسدياه لها من خدمة مقرونة بالتعهد والمتابعة: “ستكون غيثة محظوظة باحتضان أسرة السيد عبد العزيز لها. ستتلقى تعليما جيدا بالمدينة…” ص 21، خلاف أختها عيشة التي عاشت حياة البؤس والحرمان فاشتغلت، وهي طفلة، خادمة في بيت إحدى الأسر الأرستقراطية بفاس غادرته بعد أن تم هتك عرضها لتلج عالم الدعارة الذي تخلت عنه لتعود للاستقرار رفقة والدتها بإيموزاركندر بمساعدة غيثة، إلى أن ابتسم لها الحظ فارتبطت بـ (موحا غودان) الذي عاد للاستقرار ببلدته (إيومزاركندر) بعد رجوعه من سويسرا حيث درّس بإحدى جامعاتها، وانفصل من زوجته الفرنسية (جولييت) التي أنجب معها طفلان (سمير، وعمر)، فانكب على البحث في مجال نسقيات الدراسات الرياضية واللسانية. زواج عوضهما عن ماض مثخن بالجراح والندوب كما أسرت له بذلك عيشة: ” ـ إنه ماضي استغلال جنسي. كنت طفلة وفجأة تم اغتصابي وطردي من رعاية أسرة وخدمتها. وفجأة احتضنني عراب خدعني بالحماية فرماني في الجحيم. ” ص 151، مستحضرة دور غيثة في إنقاذها من التشرد والضياع: “لقد كبرت في ظروف قاسية واستغلال لم ينقذني منه سوى أختي غيثة.” 151 ص. إلا أن ماضيه لم يكن أحسن من ماضيها كما روى لها: “أنا ابن الجراح يا عيشة. أمي طليقة أب اختار تلبية نزواته وإهمال واجباته الأسرية. كبرت في مؤسسة خيرية. كان نبوغي في الدراسة عاملا مساعدا على اختياري حين الحصول على شهادة الباكلوريا لكي أتابع الدراسة بفرنسا… توفيت أمي وأنا في سنتي الثالثة من الدراسة هناك بمدينة ليل الفرنسية. لم أحضر لجنازتها…” ص 152، موضحا كيف ضحت أمه بكل ما تملك من أجل تربيته ورعايته: “كانت أمي مضطرة في استغلال داخل المجتمع وضعف شخصي وفقر مادي لكي تبيع جسدها. وكانت نظرة الناس احتقارية لكل مطلقة وفقيرة . ” ص153، فقبلت عرضه لما لمسته فيما عاشه من معاناة ليست أقل قساوة وألم وأذى من معاناتها : ” لم تجد عيشة من كلمات ترد بها على اقتراحه. كانت عباراته قوية عليها. لغة ثقافية وتشبيه كبير أحست بقيمته. خصوصا وأنه يخاطبها بلغتها الأمازيغية.” ص153 ، كما تحضر شخصيات أخرى كانت لها بصمة بارزة على سيرورة وتطور وقائع الحكي، وما طبعها من انفلاتات وانزياحات كزميلتها في العمل أستاذة الفلسفة (صفاء)، والتي عثرت فيها على ملاذ آمن ائتمنته على أسرارها: “ذلك ما يدفعها لا شعوريا لكي تبوح لصفاء…” ص 27، بناء على مسوغات ودوافع أخرى صادرة عن أسئلة عدة: “ما الذي يجعلها ترتاح لصديقتها صفاء؟ أهو كونها أستاذة لمادة الفلسفة أو لكونها اختبرت كتابة الشعر وحضور ملتقياته والانخراط في مهرجاناته؟ أهو كون خطابها ينبني على معطيات التحليل النفسي ويغير الوضعيات بمصطلحات وتركيبات علم النفس وكأنها الطبيبة المعالجة سريريا في عيادة ؟ ” ص 26، فهي شخصية تلتئم فيها جوانب معرفية أدبية وفكرية متنوعة مما يعمق، ويوسع مَلَكة النقد والتحليل لديها، وهو ما أثبتته في مواقف جمعتهما من خلال دعمها، مثلا، لرأي الشاعر الذي انتقد غيثة: “كان الشاعر على صواب. نصوصك كانت سطحية ولم تصل إلى عمق الشعرية المطلوبة في قصيدة النثر.” ص 164، وشخصية زوجها عبد السلام الهدفي؛ ابن الشمال الشرقي وهو أستاذ العلوم خريج المركز التربوي الجهوي لأساتذة الإعدادي والذي تكونت صورة أولية لديها عنه: “والذي لم يكن سوى ابن بلدها المغرب وثقافتها الأمازيغية. ماذا تعرف عن شخصية الإنسان الريفي؟ معروفون بالجدية والصرامة، بصفاء المشاعر والنية وعدم النفاق أو المكر…” ص39، إلا أنها صورة وتصور سرعان ما تلاشى واندثر أمام سلوكات تنم عن حس يفتقر لأبسط شروط اللياقة والأدب: “لم تكن ثلاثهن حاضرات للإهانة التي تعرضت لها السيدة غيثة أمام الجميع من طرف زوجها عبد السلام الهدفي بمدينة عملها وجدة يوم قامت لإلقاء قصيدة في حفل بهيج بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، وبمجرد ما بدأت في إلقاء أبياتها الأولى اقتحم زوجها قاعة الأساتذة بالمؤسسة التي أصبحت تجمعهما بعد أن التحقت كزوجة وكرفيقة عمل، وقد أصبح حينها حارسا عاما بهذه المؤسسة. دخل صارخا ومزبدا، أمسك شعرها بمخالب أصابعه. جرها كما تجر البهيمة من وسط القطيع إعدادا لها لبيع أو ذبح. تحول العيد إلى مأتم واستنكر الكل ما وقع…” ص 48، في مشهد يعكس أفظع ضروب الهمجية والوحشية، وما تلا ذلك من مواقف وتصرفات تنم عن إحساس مقيت بالتسلط والتحكم: “المساعدة المالية الشهرية التي أرسلها لعائلتي، أصبحت تمر بين يديه ويتحكم فيها بطريقته… والأ خطر في كل هذا هو هذه الإهانة لكرامتي كامرأة، كأستاذة. أرادني أن أكون خادمته وأمته.” ص 49، فانتهت علاقتها به بالطلاق لتعيش رفقة عثمان ابنها منه الذي وفرت له ظروف عيش ميسورة من تعليم، ورعاية، مستجيبة لاهتماماته الفنية (الموسيقى)، والرياضية (لعب الكرة)، ومستلزمات التواصل والبحث الحديثة كالحاسوب، إلا أن حدث تناوله لمخدر أثر على حالته النفسية والعقلية ضاعف من معاناتها، ولم تهدأ وتستقر حسيا وذهنيا حتى تحسنت وضعيته وتماثل للشفاء فعاد لحالته الطبيعية، وشخصية والديها صالح ويطو اللذين لم تكن مساهمتهما وحضورهما بالغا ومؤثرا في سير مجريات الأحداث كزيارتهما لبيت عائلة بنجدي التي كانت تشتغل فيه ابنتهما عيشة كخادمة، وبمستوى مختلف نسبيا حدو بويمجان والذي كان يقوم بالعديد من المهام كوسيط في التجارة، والدعارة، والسهرات (وهو الذي توسط لعيشة للاشتغال في بيت عائلة بنجدي الفاسية). يلهث وراء كسب المال بشتى الطرق والوسائل. وعبد النبي داكور رجل التعليم، وزوج صفاء صديقة غيثة الذي كرس حياته للعمل النقابي والحزبي، وما كلفه ذلك من تضحيات جسام تعرض خلالها للضرب والاعتداء من طرف قوات الأمن، ولم يتراجع يوما عن مواصلة نضاله في سبيل تحقيق مطالب وأهداف شكلت جزءا أساسيا من قناعاته النقابية الراسخة. فضلا عن الدكتورة سعاد الحاصلة على شهادة الدراسات العليا وهي الكفيفة التي تعرضت لشتى ألوان القمع والتعنيف خلال خوضها لكل أشكال الاحتجاج للحصول على حقها في التوظيف ضمن فئة المعطلين من حاملي الشواهد. فهذه أبرز الشخصيات التي أرست لبنات المتن الروائي، ورسمت آفاقه وأبعاده. كما شكل زواج غيثة، إلى جانب أحداث أخرى، الذي آل إلى الطلاق حدثا أساسيا في الرواية، وما تمخض عنه من معاناة سببها زوجها عبد السلام الهدفي الذي عاشت معه أبشع مظاهر التسلط والاستغلال، استهدفت كرامتها لما اقترفه في حقها من تعنيف واعتداء، فقد استولى على بطاقتها البنكية كمت تؤكد ذلك: “حتى البطاقة البنكية نزعت من يديها… المساعدة المالية الشهرية التي أرسلها لعائلتي، أصبحت تمر بين يديه ويتحكم فيها بطريقته. ” ص 49، معلنا بصلف عن نيته الصريحة في التحكم والاستعباد: ” ـ من اليوم فصاعدا، أنا أسير كل شيء. تكفيك رعاية الطفل. ” ص 49 ، متجاوزا كل حدود اللياقة في معاملتها بفظاظة وقساوة: “وهو الذي عنفها مرات عديدة ماديا ورمزيا ومعنويا. احتقر أنوثتها وحط من كرامتها؟” ص 53، تصرفات تكللت بنهاية مأساوية: “رماني في الشارع بجلابة وطفل.” ص 51، تزوج بعدها، وما فتئت زوجته تتصل بها هاتفيا لتستفزها بكلام جارح، إلا أنه غيرت سلوكها عندما اكتشفت حقيقته، فطلبت الطلاق، وعادت لتعتذر لصفاء على كل ما اقترفته في حقها من سلوكات خاطئة: “ـ اتصلت بي في بداية شهر شتنبر. طلبت مني مسامحتها واعتذرت عما صدر منها وبدأت تحكي لي ما تعانيه معه. لقد طلبت هي الأخرى الطلاق واتخذت مسطرة الشقاق حتى ترتاح من جحيم العيش معه. “ص 95 ، ورغم أنها لم تقم بمقاضاة طليقها لإنصافها والحصول على حقوقها المادية والمعنوية إلا أنها انتفضت بشكل مفاجئ وغير متوقع أمامه مشهرة السكين في وجهه لطعنه إن حاول الاقتراب من ابنها عثمان “لم يكن يتوقع أن ترفع امرأة سكينا في وجه رجل . لم يكن يتوقع أن تخرج الشرارة بصوت حاد وجدية عازمة على المضي فيما تنذر به هذا الواقف لمحاكمتها والاستخفاف بها وبكرامتها وتهديدها بأخذ الابن منها. إلا الابن. إلا هذه اللحظة. ستمضي فيما تقوله وتنفذه. لم يجد السيد عبد السلام من رد سوى الابتعاد بخطوات دون التخلي عن ألفاظه وسبابه مع شعور بخوف وتعرق جبينه معه.” ص 118 .
فبالإضافة إلى مكون الشخوص المتمحور بشكل أساسي حول شخضية غيثة ، فهناك مكونات أخرى؛ كالحدث والذي تنوعت ضروبه وأشكاله علاقة بأشخاص الرواية، وبالخصوص غيثة التي شكل حدث ولادتها انطلاق توالي الوقائع، وتوالدها، وتدفقها، كما روت والدتها: “ميلادك كان فجرا. كان الليل بدرا، وكانت أصوات الغابة تردد صراخي حين ندائي عليك لكي تخرجي لهذه الدنيا.” ص10، وعلاقتها بالطبيبة حورية التي كانت تشتغل بإيموزار، والمنحدرة من مدينة وزان، وزوجها الطبيب البيطري السيد عبد العزيز الفارسي، وما ينعمان به من حياة ميسورة: “يمتلك الزوجان فيلا جميلة بمدينة إيمزار كندر.” ص 14، وهو حدث تمثل فيما أسدياه لـ (غيثة) من خدمات ساهمت في السهر على تتبع مراحل تعليمها إلى أن أنهت تعليمها الجامعي وتخرجت أستاذة لمادة التاريخ والجغرافيا فظلت مدينة لهما بالامتنان والود : ” كانت السيدة حورية الأم الثانية لـ(غيثة)، وكان القدر مبتسما لها منذ محاولتها الخروج لهذا العالم الأرضي والعيش فيه.” ص 18، وفعلا أسعفها العيش في كنف هذه الأسرة على أن تحظى بحياة درأت عنها ظروف شظف العيش داخل أسرتها الفقيرة: “ستكون غيثة محظوظة باحتضان أسرة السيد عبد العزيز لها. ستتلقى تعليما جيدا بالمدينة… ” ص 21 ، لتتوالد الأحداث وتتوالى في تعالق وتقاطع مع ارتباط بشخوص الرواية الأكثر تأثيرا في سياقاتها المتنوعة والمتشعبة، وما عاشته غيثة من وقائع وسمت مسارها المهني كمدرسة لمادة الاجتماعيات، وزوجة لمدرس العلوم عبد السلام الهدفي الذي تطلقت منه بعد ما صدر عنه من معاملة مطبوعة بالعنف والتسلط والاعتداء ، لتتوالى الأحداث مغلفة بالمآسي والخطوب والمفاجآت؛ من موت زوج صديقتها صفاء المناضل النقابي عبد النبي داكور، وتناول ابنها عثمان لمخدر أثر على حالته العقلية والنفسية، وزواج موحا غودان من أختها عيشة، والاتصال الهاتفي الذي تلقته من زوج طليقها عبد السلام الهدفي كما تم التعبير عن ذلك: “ما هذا التسارع في الأحداث؟ ما موقع غيثة داخله؟ بين الوجود والعدم، الاحتفال والحزن، الفرح والقرح، الغيظ واللامبالاة…” ص 148، ومن هذه الأحداث ما أثار استغرابها كطلب موحا غودان الزواج من أختها عيشة رغم الفوارق الشاسعة بينهما خصوصا من الناحية الثقافية والمعرفية، فكيف لشخص حاصل على شواهد عليا من فرنسا، ودرّس بجامعات سويسرا وكلياتها أن يقترن بإنسانة لم تطأ قدمها يوما باب المدرسة؟ وهو الباحث في مخزون بلده التراثي واللغوي، بتعلمه لحرف تيفيناغ، اعتمادا على ثقافته الأكاديمية في الرياضيات، واللسانيات الحديثة. هي التي حركت معرفتها به أحاسيس توق تعوضها عما عاشته من أزمات عاطفية مع طليقها من خلال مادار بينهما من نقاش حول الأمازيغية: “أعجبها وأدهشها أن تجد… من يهتم باللغة الأمازيغية دراسة وبالثقافة المحلية تدوينا وتحليلا. ” ص 134، وقد التقطت منه إشارات تفهم وتجاوب معرفي وفكري قد يؤسس لإرهاصات علاقة قابلة للتطور لتغدو أكثر انفتاحا على آفاق واعدة ومشجعة: “لمست في السيد غودان براءة استقبال لحكيها وصدرا يخفف ثقل همومها…” ص141، إلا أن ما شيدته من أحلام وآمال حول ما يمكن أن يربطها من علاقة عاطفية وفكرية بموحا غودان تعوضها عما عاشته من خيبات ونكسات مع زوجها السابق عبد السلام الهدفي أجهضت وتبخرت بسبب اختياره لعيشة مما ولد لديها العديد من الأسئلة المقلقة والمحيرة: “ـ لماذا اخترت عيشة وليس أنا؟ ألست أكثر ثقافة منها؟ ألست المدافعة والمناضلة من أجل نفس الحقوق التي تشتغل عليها ميدانيا ؟” ص 160، إلا أنها ما فتئت تستسلم لحقيقة ما يبحث عنه، وما يسعى لتحقيقه من الزواج: “فالسيد غودان رجل متقاعد يريد الاستقرار في عيش مغربي وعش أمازيغي يسقي به فؤاد روحه. مستقر ماديا وليس بطماع مثل الآخرين. لم لا؟!” ص 155، في تلميح وإشارة للاختلاف الجوهري بين موحا غودان، وطليقها عبد السلام الهدفي من حيث الأخلاق والمبادئ والطباع.
إلى جانب مكونات أخرى تزخر به الرواية، وتؤثث فصولها؛ كاللغة التي انفتحت على الأمازيغية في توظيف أنتروبولوجي وجمالي ورمزي أغنى متنها، وعمق أبعاده ودلالاته، في اقترانها بأسماء مثل علي الفارسي أزكاغ (اللون الأحمر)، أوضيغة إيدفوين ( ضيعة التفاح ) ، وسغروشن المركبة من سغر: جف، وأوشن: الذئب، وغودان: الجميل، و(قن) بمعنى أغلق، و(رزم) أي افتح، وعبارة (تسنت تيشلحيت؟): هل تعرفين الشلحة؟، وهي نوع من أنواع اللغة الأمازيغية (تشلحيت، تمازيغت، وتريفيت)؛ فضلا عن اهتمام غودان، وغيثة بالأمازيغية من حيث البحث والدراسة. والدارجة في عبارات مثل: “الفقوسة يلا عواجت ما بقى لها ما تتسرح. ” ص 48، وكلمات بذيئة وساقطة نعت بها عبد السلام الهدفي غيثة: ” سيري يا … الشلحة الخانزة …!” ص 50، وفي: ” آويلي البوطا تسالات:… لقد فرغت قنينة الغاز” ص 85 . وأسلوب بنفس مجازي: “من أجل هذا البرعم الذي تفرغ غصنا من شجرتي… داخل عباب القدر الذي يتقاذف الناس في عواصف الحياة.”ص 51 . وأسلوب رومانسي مثل: ” تردد عبر تضاريس جغرافيا العالم في الوهاد والسفوح والوديان كما في القمم والرياح العابرة بالسحاب.” ص 5، وكذلك في تصوير لعناصر الطبيعة التي تستمد نضارتها وتوهجها ونسغ حياتها من اسم (غيثة) الغني بأبعاده الدلالية والرمزية: “غيثة، الطبيعة المشتعلة بهاء بخضرتها وعيون مائها الجارية ، وأمطارها وزخاتها اليومية التي تجدد سقاية الجداول وملء الفرشات وغسل أوراق الشجر من بلوط وأرز وصنوبر … غيثة التي يصبح بغيثها الكون ثريا للاحتفال بعد جولة مناخية ماطرة. ” ص 8، ووصف، معبر ودال، لصورة القمر في انعكاسها على ماء البحيرة: ” يقف أمام بحيرة تعكس الصفحة اللجينية للقمر، هذا الساحر الصامت الهادئ المطل من السماء . ” ص 14، وعنصر الوصف كمكون سردي تخلل العديد من مقاطع الرواية، في تصوير لهيئة الشخوص، ووصف ملامحهم: “عبد السلام الهدفي بلون بشرته الأبيض الجامد وصفحة وجه صخرية معظوظمة. عيناه بارقتان وأنفه رقيق وشفتاه مختومتان بدقة مناسبة لقسماته وحركات ابتسامته وكلامه . حتى تسريحة شعره تعطيه تلك الشخصية المتوسطة التي تتميز بحسنها ومناسبة قامتها في الطول…” ص 40، أو في المقارنة بين غيثة وصفاء: “كانت قامة غيثة تزيد طولا على نظيرتها عند صفاء. كانت غيثة نحيفة شيئا ما بالنظر لطولها رغم هيكلها المعظوظم والسميك، وبالنظر كذلك إلى صفاء التي كانت بدينة ومربوعة تميل إلى القصر منه إلى الطول العادي.” ص52، والانتقال للمقارنة ، عبر الوصف دائما ، بين عيشة وشقيقتها غيثة: “تبدو عيشة أكبر بنية وطولا من غيثة… وجه وضاء وعينين لامعتين في لونهما العسلي الجميل. شعر أحمر وقد انسدل من جانبي صدغيها. حاجبان يحافظان على بهاء مها واقفة لاستقبال ريح الحياة… لباس بسيط يساعدها على القيام بأشغال المنزل بسهولة ، وحذاء بلاستيكي أسود لا يفارق رجليها…” ص57، فينتقل الوصف من الشخوص إلى المكان من خلال وصف بيت أسرة بنجدي الفاسية، وما يميزه من جمال معماري وهندسي: “تلك الغرف الطويلة والفسيحة والمزخرفة بخشب يزين سقوفها بأحسن الأشكال ، أو تلك الألوان البهيجة التي تفترشها الحيطان بزليجها المرمري اللامع، أو تلك الأقواس التي تنفتح لها أبواب خشبية ضخمة… والماء الذي يترقرق من السقاية المزلجة والذي ينبع… من هذه النافورة التي تتربع مستديرة كباقة مرمرية بيضاء بحبوحة المنزل . وهذه الأشجار المتنوعة … داخل بستان هذا الرياض … ” ص 62، فيغدو الوصف مكونا سرديا يسهم في توسيع آفاق الرواية ، وإغناء نسيجها الجمالي والدلالي لما يضفيه عليها من سمات وميزات تنوع أساليبها التعبيرية، وتجنبها مغبة السقوط في التكرار والنمطية. وتتميز كذلك بـ(تيمات)، مثل الفقر المنتشر بمدينة إيموزار كندر التي كانت مسرحا للعديد من وقائع الرواية ، وأحداثها ، وما تعرفه من قساوة الطقس في شتاء يتميز بتساقط الثلوج ، وسريان البرودة ، وما يتطلبه ذلك من إمكانيات مكلفة لتوفير وسائل التدفئة من حطب ، كما يعكس ذلك حالة عيشة أخت غيثة، وجيرانها من المناطق الجبلية المنسية: “كانت عيشة وما تزال أختها الكبرى التي ترتسم أثر الكدح والفقر الذي تعانيه أسر الرعاة والجبال المنسية بالأطلس.” ص 55، حيث تعيش حالة مزرية من ضنك العيش المتمثل في حياة العوز والحرمان والتهميش: “غيثة التي كتمت غيظ الواقع الذي جرف أختها عائشة إلى جحيم الاستغلال وهدر الكرامة الأولية في العيش. غيثة التي مات أبوها في صاعقة ثلجية بضربة برق فوجدوا جثته جامدة وقد بدأت كواسر الأطلس في الاستعداد لنتف جلدها. ” ص 53، مصورة ما مر به أفراد محيطها الأسري من مآسي تمثلت فيما تعرضت له أختها من استغلال بشع كخادمة ، وهي في سن الطفولة، حيث تم هتك عرضها وهي في عمر الزهور، ووفاة والدها بضربة برق في ظروف جوية قاسية وقاهرة عقب صاعقة ثلجية؛ ذكريات ظلت تجثم على ذهنها ووجدانها. كما تناولت الرواية (تيمة) الأسطورة من خلال ضاية (إفراح)، وما يجمعها مع بحيرتي (إيسلي و تيسلي) بمنطقة إيملشيل من قصة عشق بين حبيبين فصلت بينهما سلطة العادات ، ومنعتهما من الاقتران . وحكاية ( سغروشن ) التي سميت بها القبيلة التي تحول فيها الذئب إلى حجرة صماء: “خرج الذئب من أجمة هذه الغابة وأراد اقتناص فرصة الصلاة لكي يفترس شاة ما، تيبس الذئب وأصبح حجرة صماء، وكانت المعجزة والكرامة (سغر) تعني جف ويبس، وأوشن تعني الذئب.” ص 31 .
فرواية “أم الغيث” غنية بمكوناتها السردية الصادرة عن مرجعيات تاريخية، ولسنية، وأنتروبولوجية، وأسطورية شكلت منجزا سرديا متعدد الأبعاد والطرائق والمرامي مما بوأه طابعا مميزا على مستوى الخلق والإبداع في جنس الرواية المغربية والعربية. نأمل أن نكون لامسنا بعض جوانبها الأساسية في هذه القراءة.
________________________________________________________________________________________
ــ أم الغيث ( رواية ) لحسن إمامي، إصدار رقمي بموقع نور بوك وموقع فولابوك / 2019