هل اقتصرت الحروب الصليبية على فلسطين.. أم كان لأرض روس نصيبًا منها؟ (1/2)
د. زياد منصور
بدءًا من القرن السابع وإثر الخسارة التدريجية، وفقدان حكام الدول الأوروبية المسيحية السيطرة على الأراضي المقدسة، أي تلك الأراضي المرتبطة بدعوة يسوع المسيح والرسل في كلٍّ من سوريا وفلسطين وأفريقيا. تفعلَّت غارات الأتراك السلاجقة، الذين ألحقوا في النصف الثاني من القرن الحادي عشر هزيمة ساحقة بالإمبراطور الروماني الرابع ديوجين (1067-1071) في معركة ملاذ كرد عام 1071، مما وضع حدًا لنوايا وطموحات الرومان في استعادة الأراضي الاستراتيجية التي استولى عليها أعداؤهم.
على هذا أضطر هؤلاء في القسطنطينية، منذ هذه اللحظة الأولى للهزيمة طلب المساعدة في الغرب، ومن البابوية التي استحوذت على سلطة استثنائية خلال فترة بابوية غريغوريوس السابع (1073-1085)، بل مكانة خاصة لدى الحكام العلمانيين في المجتمع الإقطاعي هناك. على هذا الساس بدأ عصر الحملات العسكرية ورحلات الحج واسعة النطاق في عام 1095 ، المعروفة في التاريخ بالحروب الصليبية، التي تم إعدادها والتحضير لها ماليًا وأيديولوجيًا من قبل الباباوات، بمشاركة غالبية الدول الكاثوليكية في القارة، بحيث انطلقت مثل هذه الحملات خلال القرنين الحادي عشر والثالث عشر. بلغ عدد هذه الحملات على بلاد الشام وشمال أفريقيا وحدها ثماني حملات. يذكر أن ممثلي سلالة روريك التي حكمت روسيا آنذاك لم تكن بمعزل عن هذه الأحداث الكبرى، بشكل مباشر أو غير مباشر.
لقد ظهرت في المدونات التاريخية الرسمية في روس، وخصوصًا في القرن الثاني عشر، مجموعة من القصص والروايات التي تناولت الحروب الصليبية والأحداث الجارية في بلاد الشام، وتوقفت عند كل ما يجري في مدن القدس، وعسقلان، وما إلى ذلك، نحن نتحدث بالدرجة الأولى عن المصدر التاريخي الأول في روس وهو حكاية السنوات الماضية، وكذلك كييف كرونيكل (حوليات كييف) في القرن الثاني عشر، إضافة إلى حكايا وردت في سجلات ذات أصل غاليسي أو غاليكي، حيث تم توثيق أحداث سقوط القدس في 2 أكتوبر-تشرين الأول 1187 تحت هجمات قوات سلطان مصر والشام صلاح الدين (1138-1193). نتيجة لهذا السقوط بدء تنظيم الإمبراطور الألماني فريدريك الأول بربروسا (1122-1190) للحملة الصليبية الثالثة.
ولا ريب في أن حكاية الاستيلاء على القسطنطينية من قبل الفرانكيين fryag والفرنجة (المقصود هنا ما شهده القرن الثالث عشر والحملة الصليبية الرابعة، بهدف انتزاع القدس من أيدي المسلمين في زمن الحروب الصليبية)، لكن وجهة المحاربين الصليبيين تحولت نحو العاصمة البيزنطية “القسطنطينية”، حيث قام الصليبيون بنهب المدينة، وقتل العديد من سكانها، مما فاقم “الانشقاق الكبير” بين الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية، والكنيسة الكاثوليكية الرومانية ومقرها “الفاتيكان”، التي تم ادراجها في سجلات نوفغورود في الإصدارات القديمة والأحدث منها، بحيث تم توثيق تفاصيل “الحملة الصليبية الرابعة” على القسطنطينية (الأرثوذكسية آنذاك) ودور هذه الحملة في إضعاف العاصمة البيزنطية المزدهرة، ذلك أنها عانت لاحقا من عزلة شديدة، وإفلاس اقتصادي، وانخفض عدد سكانها ليصل إلى أقل من 40 ألف نسمة فقط، وأصبحت أجزاء من المدينة العريقة خاوية على عروشها، مما سهل فتحها على أيدي العثمانيين في نهاية المطاف..
في تلك الفترة كان يُنظر إلى الفرسان الألمان على أنهم شهداء – «الألمان مثل الشهداء القديسين- سفكوا دمهم من أجل المسيح». ولكن سقوط القسطنطينية في 12 أبريل-نيسان 1204 تحت ضربات قوات الحملة الصليبية الرابعة أثار في روسيا رد فعل سلبي إلى حد كبير، حيث ورد في السجل الغاليكي-الفوليني للقرن الثالث عشر (وقائع رومانويتش) كلام عن وجود نظام فرسان الهيكل.
فقد ترك بعض الحجاج، مثل رئيس دير تشيرنيغوف دانيال، وهو أسقف بيرم لاحقًا، ورئيس أساقفة نوفغورود أنطون (قبل سيامته – دوبريينا يادريكوفيتش، رحلة الحج حوالي 1200 و1208/09)، مذكراتهم التي تحتوي على شهادات فريدة. على سبيل المثال، في كتابه “المسير” الذي كتبه تحت تأثير انطباعاته عن رحلته للحج بين العامين 1104-1106، يورد القمص دانيال عن تعرفه بأول ملك للقدس بلدوين الأول (1100-1118)، وزيارته للأماكن المقدسة المرتبطة بحياة وعمل يسوع المسيح، وحالة تحصينات القدس.
الحملات الصليبية على خلفية العلاقات بين السلالات والسياسة الخارجية لأسرة روريك
سمحت سياسة الزواج لأمراء روسيا، وخاصة نحو الغرب، بأن يكون هؤلاء على دراية بالحملات الصليبية حتى لو لم يشاركوا مباشرة في أي منها. كان العديد من نساء أسرة روريك زوجات لبعض القادة الصليبيين، وشارك أبناؤهم في رحلات الحج، فيما شارك لآخرون بشكل مباشر أو غير مباشر في دعم الحركة الصليبية. على سبيل المثال، شارك بن آنا ياروسلافنا (توفيت 1075/1089) وملك فرنسا هنري الأول (1031-1060) هيو (1057-1102) بشكل مباشر في الحملة الصليبية الأولى (1096-1099)، حيث أوردت وثائق تمتعه بشجاعة غير مسبوقة في معركة دوريلايوم في 1يوليو- تموز 1097 وفي حصار أنطاكية في 1098. ويُعتقد إن زوجة أمير بيرياسلافل فلاديمير فسيفولودوفيتش مونوماخ-غيتا (1053-1125)، (توفيت بعد 1099)، شاركت في هذه الحملة مع أقاربها الفلمنكيين، وهو ما تم تداوله في بلاط زوجها.
في عام 1142، تزوج حليف فريدريك الأول بربروسا- الصليبي والدوق السيليزي من أسرة بيازتس بوليسلاف الأوَّل الشجاع (توفي 1201)، من ابنة أمير كييف فسيفولود أوليغوفيتش (توفي 1146) زفانيسلافا (توفيت بين 1155-1160). كما وتزوجت ماريا، أغافيا (توفيت بعد 1180) ابنة النبيل السيليزي بيوتر فلوستوفيتش (توفي 1153) وابنة أمير تشيرنيغوف وتومتاركان أوليغ سفياستلافوفيتش (توفي 1115)، تزوجت في عام 1145 من الصليبي ياكسا (توفي 1176)، الذي شارك في الحملة الصليبية الثانية (1147-1149).
أما الابن غير الشرعي لابنة أمير بيرياسلافل ومن ثم أمير كييف منذ سنة 1113، فلاديمير مونوماخ، أوفيميا (توفيت 1139) والدوق المجري ألموش (توفي 1127) وهو الأخ الشقيق لزوجها الشرعي الملك كولومان والملقب بالكاهن (1095-1116)، بوريس (توفي 1153/54) سعى خلال الحملة الصليبية الثانية الحصول على دعم أحد قادتها-أي ملك فرنسا لويس السابع (1120-1180) في جهده للجلوس على العرش المجري، ضد ابن أخيه المفترض غيزا الثاني (1141-1162) – الذي تزوج في عام 1146 من ابنة أمير كييف مستيسلاف فلاديميروفيتش (1125-1132) يوفروسينيا (توفيت 1193، ربما في دير القديس سابا في القدس!) والتي منحت بعض الأراضي في المجر لصالح فرسان يوحنا، وهي أم الملكين ستيفن الثالث (1147-1172) وبيلا الثالث (1172-1196).
دفع استيلاء بيلا الثالث على غاليتش في عام 1188 بالأمير المحلي الهارب فلاديمير ياروسلافوفيتش (1189-1198/99) على التماس المساعدة من الإمبراطور الألماني فريدريش الأول بربروسا خلال استعداداته للحملة الصليبية الثالثة. على صعيد آخر كانت الأميرة غريمسلافا (توفيت 1258 زوجة الأمير البولندي ليشيك الأبيض (1184/1185-1227)، الذي شجع البابا إنوسنت الثالث (1198-1216) بنشاط على المشاركة في الحملة الصليبية الخامسة، وهي كانت ابنة الأمير السابق لنوفغورود ياروسلاف فلاديميروفيتش (حوالي 1155-1165 – نهاية 1205-1209) ساهمت مع زوجها في الترويج للحملة، لكن الحاكم البولندي لم يذهب في الحملة بحجة أن الأرض المقدسة تفتقر إلى البيرة.
أما زوجة الأمير المازوفي كونراد (1187-1247) أغافيا سفياستلافنا (توفيت بعد 1248) كانت في ثلاثينيات القرن الثالث عشر واحدة من المبادرين بمنح أراضي إلى نظام الفرسان التوتونيين على الحدود مع بروسيا. في سن الثامنة، تم إرسال الابن غير الشرعي لملكة بوهيميا كونيغوندا روستيسلافنا (توفيت 1285) وزافيشا من فالكنشتاين (حوالي 1250-1290)، إشكا (يان) (حوالي 1282 – بعد 1337)، النظام الروحي العسكري التيتوني باعتباره يتيمًا.
من المرجح بشكل كبير أن أقارب المشاركين في الحملات الصليبية، الذين كانت رحلتهم إلى الأرض المقدسة والعودة منها تمر عبر أراضي روريك، عاشوا لفترة من الزمن في كييف. نتحدث هنا، على سبيل المثال، عن الملك الدنماركي إريك الطيب (حوالي 1070-1103)، أو المشارك في الحملة الصليبية الثانية، الأمير التشيكي فلاديسلاف الثاني (1110-1174). كانت اتصالات روريك مع الأباطرة البيزنطيين متعددة الأوجه ومتينة على خلفية الحملات الصليبية.
حوالي عام 1161، حصل أحد الإخوة الأصغر الذين طُردوا من أراضيهم من قبل الأمير فلاديمير أندريه يوريفيتش، الملقب ببوجولوبسكي (حوالي 1111-1174)، واسمه مستيسلاف (توفي 1162)، لاحقًا على منطقة عسقلان من الإمبراطور مانويل كومنينوس (1118-1180). من المحتمل أن جزءًا من النخبة الغاليكية الموالية للملك المجري أندراش الثاني (1205-1235) كان من المقرر أن ينضم إلى الحملة الصليبية الخامسة (1217-1221)، لا سيما وأن الأراضي المجاورة لأراضي غاليتش، منطقة سبيش المجرية، كانت منذ نهاية القرن الثاني عشر مأهولة بنشاط بالفرسان من ساكسونيا وفلاندرز الذين شاركوا في الحملات الصليبية.
بهذا نجد أن الروس في بعض مقاطعاتهم وبسبب صلات القربى كانوا على اطلاع على الحملات الصليبية، وإن لم ينخرطوا فيها بشكل مباشر
الحملات الصليبية على بلاد الروس، هل هي صليبية فعلاً؟
منذ منتصف القرن الثاني عشر، وبشكل خاص بعد سقوط القسطنطينية في نيسان 1204 تحت ضربات المشاركين في الحملة الصليبية الرابعة، أصبحت فكرة تنظيم “حرب مقدسة” ضد الدول غير الكاثوليكية (بما في ذلك الوثنيين والزنادقة) ذات أهمية كبيرة بالنسبة للأوروبيين. ومع ذلك، لوحظت مثل هذه النغمات في السياسة الخارجية للسلالات المجاورة لروريك منذ نهاية القرن الحادي عشر.
على سبيل المثال، بالتزامن تقريبًا مع استيلاء المشاركين في الحملة الصليبية الأولى على مدينة القدس في 15 يوليو-تموز 1099، تحرك جيش مجري كبير بقيادة الملك كولومان، الملقب بالكاهن، وكانفي عداده عدد من الأساقفة ، تحرك هؤلاء باتجاه بيريميشل بهدف احتلال أراضي أمراء روستيسلافوفيتش. ومع ذلك، في معركة نهر فياغر تم سحقهم تمامًا بواسطة قوات روسية-كومانية مشتركة.
من الواضح أنه على خلفية أحداث مشابهة، في فترة ما بين الأعوام 1143-1153، شجع برنارد من كليرفو (1090-1153)، أحد الملهمين الأيديولوجيين للحملة الصليبية الثانية، الذي قدّسه البابا ألكسندر الثالث (1159-1181) في عام 1174، في إحدى رسائله إلى أسقف كراكوف ماتفيي (متى) (1143-1166) والنبلاء السيليزيين بيوتر فلوستوفيتش على تنظيم حملة صليبية ضد روسيا.
في النهاية، غالبًا (ولكن ليس دائمًا) وتحت راية أفكار الحملات الصليبية ضد غير الكاثوليك، والتي جرت في نهاية القرن الثاني عشر والنصف الأول من القرن الثالث عشر، توسعت التأثيرات الديناميكية والسياسية الهنغارية والبولندية في أراضي غاليسيا وفولينيا، وكذلك الألمانية نحو المناطق الشمالية لأراضي روريك (نوفغورود، بسكوف، إلخ).
لا يمكن في هذا السياق عدم ذكر ما يسمى “حادثة دوروهيتشين” (بين 1238-1247) التي تناولها المؤرخون بشكل واسع – وهي استيلاء دانييل رومانوف على مدينة دوبجينسك من قبل مجموعة صغيرة من فرسان دروهيتشين .
ومع ذلك، ومع تتويج الابن الأكبر لرومانوف في نهاية عام 1253 دانيال رومانوفيتش غاليتسكي ، ودخول أراضيه ضمن الأراضي الواقعة تحت تأثير البابا الروماني إنوسنت الرابع (1243-1254)، إذ وفي محاولته لمواجهة المغول عمل على ترسيخ سياسة خارجية تقوم على معارضته للقبيلة الذهبية. وأسس علاقات وطيدة مع حكام مملكة بولندا ومملكة المجر، وطلب المعونة من البابا إنوسنت الرابع في شكل حملة صليبية. وعرض دانيال، في مقابل المساعدة البابوية، أن يضع أرضه تحت السلطة الكنسية لـ روما، وهو العهد الذي لم يتحقق مطلقًا. وما كان من نتائج تودده للبابا لتوسيع سلطته إلا أن شجع البابا مقاومة دانيال للمغول وتوجهه نحو الغرب، وفي عام 1253، تُوج دانيال على عرش دوروهوكين في نهر بوغ كممثل بابوي. ورغم أن دانيلو أراد شيئًا أكثر من التقدير وعلق بمرارة على توقعه تزويده بجيش عندما تولى العرش. وفي العام التالي، تصدى دانيال لهجمات المغول بقيادة ابن أوردا (Orda)، وهو كوريمسا (Kuremsa)، في بونيزيا وفولينيا وأرسل حملة استطلاعية بهدف الاستيلاء على كييف. وعلى الرغم من النجاحات الأولية التي حققها دانيال في عام 1259, تمكنت قوات المغول من دخول غاليسيا وفولينيا بقيادة بورونداي (Burundai) ونوجاى خان (Nogai Khan) وأعطوه آخر إنذار: إما أن يحطم دانيال جميع تحصيناته أو أن يهاجم بورونداي البلاد. فامتثل دانيال للأمر وحطم جدران المدينة.
يجب أن تُفسر على هذا النحو الحملات المشتركة للملك دانييل مع الأمراء البولنديين والروس ضد اليادفين خلال شتاء 1254-1255، والحملة على مدن بولوخوف في بداية عام 1255. ورغم نجاحات جيوش دانييل في مواجهة القائد التتاري كورمسا في 1256، لم يسفر ذلك عن تنظيم حملة صليبية كاملة في دول ما يُسمى “أوروبا الصغرى”، والتي كان البابا إنوسنت الرابع يدعو إليها بنشاط.
ورغم ذلك، منذ عام 1254، أصبح حكام مملكة روسيا حلفاء دائمين لنظام الفرسان التوتوني في بروسيا. بشكل عام، انتشرت أفكار الحملات الصليبية إلى الشرق الأوسط بسهولة بين السكان المعمدين بالطريقة الشرقية في أراضي روريك، حيث كان جزء منهم، على ما يبدو، على دراية جيدة بهذه الأفكار، وشاركوا فيها بشكل مباشر أو غير مباشر.
ومع ذلك، لم نجد بين هؤلاء ممثلين عن الطبقة الأرستقراطية الأميرية التي نشأت في بيئة فكرية مختلفة، ومائلة نحو التقاليد المسيحية الشرقية، والتي كان من الصعب عليها أن تجمع بين العوامل الثلاثة الرئيسية للحركة الصليبية الغربية الأوروبية – تحرير قبر المسيح من “الكفار”، والحج المسيحي إلى المقدسات في فلسطين وسوريا، وأيضًا، “الحرب المقدسة”، التي تجمعت فيها الدوافع الروحية والفكرية العميقة للاتينيين جنبًا إلى جنب مع طموحاتهم العسكرية والسياسية.
خلال الحملة العسكرية بين عامي 1240 و1242، سعى الصليبيون لاحتلال أراضي نوفغورود وبسكوف وإخضاعها للكنيسة الكاثوليكية الرومانية. في مواجهتهم، تألق الأمير ألكسندر نيفسكي الذي تمكن من هزيمة الصليبيين، وبعد ذلك استند في سياسته إلى التعاون مع المغول الذين فرضوا سيادتهم على روسيا، لتأمين خطوط الإمداد له في مواجهته لفرسان ألمانيا.
ولكن ما كنت حجج الأطراف المنخرطة في الثراع؟
بالنسبة للإمبراطورية الرومانية المقدسة، نجد أنه أثناء الحملة الصليبية الثالثة (القرن الثاني عشر)، تعرضت القوات الألمانية لخسائر كبيرة، ولقي الإمبراطور نفسه، فريدريك الأول برباروسا، حتفه. وأدت وفاته إلى مرحلة جديدة من الصراع على عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة ، وساهمت الحروب الأهلية في اضعاف السلطة المركزية في الإمبراطورية.
بالنسبة لروسيا فإنه خلال الحملة العسكرية بين عامي 1240 و1242، والضغط الصليبي على أراضي بسكوف ونوفغورود، برز ارتفاع في نفوذ الأمير ألكساندر ياروسلافيتش (نيفسكي). فالانتصار على جيش الصليبيين، خاصة في معركة بحيرة بيبسي (تشاديسكو)، أصبحت واحدة من الأسباب الرئيسية لصعود سلطة ألكساندر نيفسكي في شمال شرق روسيا. كدليل على زيادة نفوذ ألكساندر نيفسكي بسبب انتصاراته، يمكن أن يُذكر أولاً أن رسائل البابا الروماني وجهت إليه مباشرة، حيث كان يسعى للتحالف مع الأراضي الروسية ضد المغول، وثانياً، أن ألكساندر نيفسكي نجح في الحصول على يرليك (إذن بالحكم) وحصوله على لقب حكم الإمارة الكبرى، أولاً في كييف، ثم في فلاديمير في عام 1252.
أثرت الحملات الصليبية بشكل كبير على تطور روس-نوفغورود، فبعد أن احتل الصليبيون دول البلطيق، بدأوا يشكلون تهديدًا خطيرًا لأراضي بسكوف ونوفغورود، مما ساهم في بعض التغييرات في سياسة نوفغورود. على وجه الخصوص، بدأت نوفغورود في ثلاثينيات القرن العشرين في تطوير التقارب مع ياروسلاف فسيفولودوفيتش وأبنائه، ولا سيما ألكسندر نيفسكي. نظرًا لأن الدفاع الفعال عن نوفغورود لم يكن ممكنًا إلا في ظل ظروف اتحاد نوفغورود مع الإمارات المجاورة والمشاركة الشخصية للأمراء في الدفاع عن حدود نوفغورود. وهكذا، أثر تهديد الصليبيين على إبرام علاقات وثيقة بين جمهورية نوفغورود وياروسلافيتش، مما ساهم في تعزيز نفوذ الأمير في نوفغورود في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الثاني عشر.
وفي الإمبراطورية الرومانية المقدسة في نهاية القرن الثاني عشر، شارك الإمبراطور فريدريك الأول بربروسا في الحملة الصليبية الثالثة، التي توفي فيها في النهاية، تاركًا هنري السادس وصيًا على الإمبراطورية الرومانية المقدسة، فبعد فترة وجيزة من مغادرة فريدريك الأول للمشاركة في الحملة الصليبية، اندلعت حرب أهلية في الإمبراطورية الرومانية المقدسة ضد دوق ساكسونيا هنري الأسد. سوف تتكشف هذه الصراعات أكثر بشكل خاص بعد وفاة فريدريك الأول في 1192-1194. ومع عودة هنري الأسد، المنفي في عهد فريدريك الأول، مجدداً تعود الحرب الإقطاعية في الإمبراطورية الرومانية المقدسة بعد مغادرة فريدريك الأول للمشاركة في الحملة الصليبية، هذه المسألة تشير إلى أن الحروب الصليبية كان لها تأثير كبير على التطور السياسي للإمبراطورية الرومانية المقدسة، مما
بحلول منتصف القرن الثاني عشر، بدأ الضغط الشديد على قوات الصليبيين في آسيا الصغرى، وسقطت إمارة الرها، عاصمة الدولة الصليبية الأولى. في مثل هذه الأوضاع، لجأ البابا إلى الملوك الأوروبيين داعيًا إياهم لتنظيم حملة صليبية جديدة واسعة النطاق، والتي انضم إليها أيضًا حاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة كونراد الثالث. كان لهذه الحملة الصليبية وقرار كونراد الثالث بالانضمام إليها تأثير كبير على التطور السياسي للإمبراطورية الرومانية المقدسة في القرن الثاني عشر. وهكذا، بدأ أحد الأمراء الألمان فولف الرابع الحرب ضد ستاوفين (سلالة كونراد الثالث). عند عودة كونراد الثالث من الحملة الصليبية الفاشلة، استمرت الحرب. لم يتمكن كونراد الثالث أبدًا من استعادة مكانة السلطة الملكية الألمانية في البلاد. بالتالي، غياب كونراد الثالث وفشل الحملة الصليبية ساهما في ضعف السلطة المركزية في الإمبراطورية. فقط خليفة كونراد الثالث، فريدريك الأول بارباروسا، سيكون قادرًا على تحقيق السلام داخل الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
بحسب عدد من العلماء، فإن الأعمال العسكرية التي قام بها النظام الليفوني ضد الأراضي الروسية في القرن الثالث عشر. ينبغي اعتبارها حروبًا صليبية تهدف إلى نشر الكاثوليكية في أراضي “الهراطقة والزنادقة الأرثوذكس”. هزم أمير نوفغورود ألكسندر نيفسكي الصليبيين خلال معركة الجليد، مما عزز سلطته الأميرية. وأدى ذلك إلى تعزيز سلطته في نوفغورود، ومن ثم ساهم في حصوله على حكم فلاديمير العظيم.
أدى نجاح الحملة الصليبية الأولى إلى إنشاء طرق تجارية تربط أوروبا وآسيا عبر دول الصليبيين في الشرق الأوسط. وفقًا لآراء العديد من المؤرخين، ساهم هذا الأمر في تراجع الطريق التجاري “من الفايكنغ إلى اليونانيين”، وبالتالي إلى تراجع الدور الاقتصادي لكييف كنقطة مهمة على هذا الطريق التجاري. وفي نتيجة لذلك، أدى هذا التراجع إلى ضعف الدور السياسي لإمارة كييف، التي بدأت تنظر إليها الأمراء الروس بشكل أقل كمركز للأراضي الروسية. على سبيل المثال، بعد أن احتل أندريه بوغوليوبسكي كييف، نهب المدينة دون أن يتولى حكمها.
أدت الحملات الصليبية في البلطيق ضد القبائل الوثنية المحلية إلى توحيد بعض هذه القبائل حول إمارة ليتوانيا. على خلفية مكافحتها للصليبيين، بدأت ليتوانيا تكتسب تدريجيًا القوة والسلطة الدولية، مما سمح لها في القرن الرابع عشر بضم العديد من الإمارات الروسية الغربية والجنوبية مثل بولوتسك وكييف وغيرها.
لقد أدت الحروب الصليبية في دول البلطيق وتشكيل النظام التوتوني إلى تنظيم مقاومة لهذه الدولة من بولندا وليتوانيا وجزء من الأراضي الروسية. وبعد مدة من الزمن وفي معركة جرونوالد عام 1410، مني الجرمان بهزيمة ساحقة على يد الجيش البولندي الليتواني الروسي، الأمر الذي حدد مسبقًا تعزيز نفوذ ليتوانيا على الأراضي الروسية الغربية كإحدى الدول الإقليمية التي تصدرت المشهد .
بعد أن تمت الدعوة إلى حملة صليبية، تطوع العديد من الألمان الجنوبيين بالانضمام إلى الحملة المتجهة إلى الشرق. في حين تردد الألمان الشماليون من الساكسون. وأخبروا برنارد بأنهم يرغبون في شن حملة ضد السلاف. وأصدر البابا إيجين الثالث مرسوماً بابوياً بالموافقة على طلب الساكسون، وعرف هذا المرسوم باسم التوزيع الإلهي. وقد أوضح ضمن هذا المرسوم أنه لا فرق في المكافآت الروحية بين الحروب الصليبية. وتطوع بشكل أساسي في الحروب ضد السلاف كل من الساكسون والدنماركيون والبولنديون مع وجود بعض البوهيميين. وقد تمت قيادة الحملة من قبل العائلات الساكسونية.
قام اتحاد القبائل السلافية بحرب استباقية فقاموا بغزو فغاريا في يونيو 1147،مما أدى إلى تأخر الحملة الصليبية ضد السلاف إلى آواخر الصيف، حتى تم طرد السلاف من الأراضي الألمانية. وبدأت الحملة الصليبية باستهداف دوبين وودمين. توجه الدنماركيون والساكسون بقيادة هاينريش الأسد لمحاصرة دوبين، لينسحب هاينريش بعد موافقة قادة المدينة على الخضوع لحكمه. في حين أن حصار دمين فشل، تحولت الحملة باتجاه بومرانيا. وبعد أن وصلوا إلى هناك تفرقت الحملة بعد اجتماعها مع أسقف بومرانيا. ومع هذا لم تحقق الحملة الأهداف المنشودة منها، فبعد أن نجح الساكسون في تحويل قسم كبير من سكان دوبين إلى المسيحية إلا أنه بعد أن تفرقت الجيوش الصليبية عادوا من جديد إلى الوثنية. كان لهذه الحملة أثر كبير على مستقبل القبائل السلافية حيث خسروا قدرة مقاومتهم مستقبلاً.
أدت الحروب الصليبية في دول البلطيق، وتشكيل النظام التوتوني هناك بشكل رئيسي من قبل المهاجرين من ألمانيا، إلى زيادة التناقضات بين النظام وبولندا، والتي تجلت في عدة حروب بمشاركة هذه البلدان. وكانت هذه الحروب لصالح الإمبراطورية الرومانية المقدسة، لأنها ساهمت في إضعاف أو على الأقل تشتيت انتباه العدو التقليدي للأباطرة – أي ملك بولندا.