فيليب سوليرز: نجاحات وإخفاقات الطليعة
ترجمة: سعيد بوخليط
دأب فيليب سوليرز، بوتيرة منتظمة، طيلة ستين عاما،من خلال عدَّة حوارات، على استحضار تاريخ وكذا استراتجية المجلَّتين اللَّتين أشرف عليهما، أقصد “تيل كيل” و”اللانهائي”. يعود تاريخ هذا الحوار إلى ربيع 2019، أربع سنوات قبل موته، أجراه معه الفيلسوف مهدي بلحاج قاسم، صدر ضمن موضوعات العدد المزدوج 7/6، وانصبَّ النقاش على”تشريح أطياف وأشباح الطليعة التاريخية، متسائلا عن نجاحاتها وكذا إخفاقاتها”.
تاريخ الطليعة، أو الطلائع بصيغة الجمع مثلما فعل غودار مع تواريخ السينما، بحيث حاولت مجلة ”بالصدفة” خلال مناسبات متواترة إعادة طرح المفهوم.
اختتم سوليرز الحوار الحالي، بنفس مقولة عنوان لقاء صدر سنة 1978 بين صفحات ”ارتجال”، مستشهدا بأرثر رامبو: ”الانتقاء. نعيش حقبة فرز. على أيَّة حال، الساعة الجديدة، صعبة للغاية. هي الفرز”.
س – أشرفتَ السيد فيليب سوليرز، على مجلة تيل كيل لمدة ثلاث وعشرين سنة، وقد اعتُبرت بالتأكيد أهمَّ مجلة أدبية ”طليعية”، أصدرتْ لبعض كبار كتَّاب النخبة خلال فترتهم، مثل بيير غيوتا، موريس روش، جان جاك شوهل، وأنت بجانب جامعيين آخرين لم يكونوا معروفين كما الشأن مع جاك ديريدا، رولان بارت، و جيرار جينيت. نشرت أيضا كتابات لبيير بوليز، جان لوك غودار، والذين جَسَّدوا صحبة هؤلاء الكتَّاب والمفكرين، رموز واجهة النخبة على مستوى مجالات كل واحد.سنة 1983، غادرتَ منشورات سوي، حيث صدرت المجلة ومؤلفاتكَ لدى مكتبة غاليمار، كي تبادر إلى تأسيس مجلة ”اللانهائي” التي اختلف عنوانها عن ”تيل كيل”. انعكس هذا الانتقال على مساركَ الأدبي عبر التحوُّل الذي عكسته روايتكَ ”جنَّة” (1981)، نصّ روائي متدفِّق دون علامات ترقيم طيلة ثلاثمائة صفحة، ثم روايتكَ الأخرى ”نساء” (1983)، وقد استعادت أسلوبا وصفيا، نفسيا ورائيا ”كلاسيكيا” نسبيا (أودُّ الإدلاء بهذه التصورات دون إضمار نيَّة إصدار حكم. وفق معنى معين، فـ”شكل”رواية النساء يعكس ”محتواها”، الذي انطوى سلفا على نهاية فترة النخبة). غالبا ما أُوِّلَ مساركَ كخيانة لتلك الحقبة، وضمنها فكر ”طليعي” معين يمتثل إلى ”الاتجاه العام”. عموما، أعتقد، بأنَّ إحدى الوقائع ”البارزة” لانهيار النخبة، يكمن في نهاية مجلة ”تيل كيل”، التي صاحبها تخلٍّ شبه تامّ عن كل تقنية ”تجريبية” في كتابتكَ، ثم إحدى الإشارات التاريخية الأكثر إثارة بخصوص تفكُّكِ منظومة النخبة. بالتالي، سنحاول هنا إخضاع ما تبقى منها لتشريح أوَّلي. خلال بداية الستينات، أسَّسْتَ مع جان إيديرن هاليير مجلة تيل كيل، التي صارت فيما بعد أكبر مجلة أدبية لطليعة تلك الحقبة. لم ينظر إليها، إبان سنواتها الأولى، كمجلة للنخبة. بل جاء النموذج بالأحرى، على أنها مجلة فرنسية جديدة، شَكَّلت منبرا لإلهام غاليمار طيلة القرن العشرين. اليوم، نصادفك ثانية داخل بناية غاليمار وأنت تشرف على مجلة ”اللانهائي” وكذا عناوين السلسلة طيلة ثلاثين سنة. إذن، كي أضع بداية لهذا السؤال: أين تحدِّدُ المنعطف ”الطليعي” لجماعة تيل كيل؟
ج-(صمت). أولا، وقبل كل شيء، يتجه جوابي فورا نحو دحض التصنيف الوارد أعلاه، الذي يعتبر بعمق حسب اعتقادي، معياريا، أكاديميا، وملوَّنا بخلفية طليعية. لذلك، يمكنني إعادة تشكيل ماأتوخى الاستمرار في مواصلة إبداعه: قائمة حقيقية، أو قصد التعبير بشكل أفضل، موسوعة حقيقية، بخصوص ماجرى حقا انطلاقا من القرن العشرين. فعلا، منذ فترة بعيدة جدا. إدراك الزمان هنا مصيري. بل يمكننا تحديد، إذا اتسمنا بالانتباه، طبيعة مفهوم زمان، اتَّسمت خلاله الطليعة أو بالأحرى الطلائع بكونها واعدة. الجواب مباشر جدا :يبدأ من فترة غيبوبتها، التي تجلَّت مثلما قلتَ انطلاقا من سنوات السبعينات، غاية انهيارها التام. هذا ماتبنَّيْتُهُ موضوعا لي. كيفما تجلَّى مفهوم الزمان، الذي حكم المسار التاريخي للطليعة، فإنه مرتبط على نحو عميق بتمدَّدِ الثورة السوفياتية.
س- تستبق أسئلتي!
ج- إنَّه نواة الإشكال، ولم يحسم قط. بالتالي، انطلاقا من ذلك، يمكننا تبيان خلاصات مهمَّة قياسا لما أُهْمِلَ منهجيا فيما يتعلق بالزمان على نحو خاطئ، نتيجة غياب رؤية تأملية شاملة حول الزمانية. لقد صدر قبل ذلك كتاب أساسي حول موضوع ”الوجود والزمان”. بالفعل، اتَّجهت طليعة ”تيل كيل” نحو الاقتراب من الفلاسفة بأن تطرح عليهم سؤال الزمن. السؤال دائما نفسه، ولايشكِّل جزءا من الأدب. لماذا يفكِّر الأدب أكثر من الفلسفة؟ هكذا، الإشكال. إذا استبدلنا كلمة ”أدب” بـ”قصيدة”، نصل إلى شخص يقدِّم لنا كما يفعل الفيلسوف (رغم رفضه حتى آخر رمق في حياته، إيتيقا الفيلسوف)، أشياء جوهرية. أشياء تسمَّى طريقا نحو الكلام، أو مقاربة هولدرلين، لاسيما من طرف هيدغر، أكثر من لحقه استهجان دائم، جراء هذه القضية. إذن، انطلاقا من لحظة درامية، مع الكتابة وتجربة الحدود، التي تضمَّنت سنة 1965، نصَّا أساسيا حول أليغري دانتي: ما الذي أتي بدانتي لدى الطليعة؟ نعم. خلال تلك الحقبة، دانتي بمثابة الطليعة. الدليل الملموس، بهذا الخصوص، يعيدنا إلى الترجمة المزدوجة لدانتي التي أنجزتها جاكلين ريسيت، وقد توفيت منذ فترة قليلة. لحسن الحظ، دانتي مثلما اشتغلت عليه ريسيت، قدَّم بديلا لترجمة أندريه بيزار الفظيعة الماثلة داخل مكتبة لابلياد. لذلك، فالسؤال الواجب طرحه، يهمُ دواعي تمثيل دانتي للطليعة؟
س- على أيَّة حال، إنَّه إشكال هائل. ألا ينتمي يوهان باخ أو سوفوكليس إلى الطليعة (ضحكات)؟
ج- منذئذ، أمكن تشكيل وامتلاك رؤية بخصوص استراتجية مستقبلية. مع كتاب ”الكتابة وتجربة الحدود”، ثم فيما بعد، “نظرية الاستثناءات” (1985)، تجلى أفق نوعي جدا: خصوصيات متفرِّدة أثرية. منذ زمن طويل، ألحُّ على المزايا الخاصة وأتجنَّب الانسياق خلف الحشد. خطأ أو بالأحرى حماقة النخب، ارتكازها نحو ترسيخ بكل الوسائل للكائن –الجمعي.
س- يظلُّ جورج باطاي استثناء
ج-نعم، لكن بهذا الخصوص، أريد الإشارة إلى أنَّ باطاي قدَّم نصَّا إلى تيل كيل، ولم يكن حينها يدرك طبيعة وجهته. جلس على مقعد صامتا، بكيفية مهيبة للغاية. بالتأكيد، حرص على اختيار ”الحيِّز والصيغة” ثم وضع عنوان ”محاضرة حول اللامعرفة”، وصدرت المقالة بين صفحات العدد العاشر من مجلة تيل كيل. مسألة، توضِّح القناعة التي ينبغي التحلي بها، قصد اختيار ممكنات التفرُّد بكيفية مثابرة جدا. أريد أن أجعلك تدرك بأنَّ الطليعة عاشت فقط وفق تصور تيل كيل، بحيث تلاشى الآخرون، بينما استمرت تيل كيل. صمدت، لا نعرف كثيرا سبب ذلك، لكن في نهاية المطاف، أبرزت القواميس الدليل. يمثِّل، إعادة استحضار سياق مختلف ذلك، لعبة معقَّدة للغاية، لأنَّه يلزم تغيير موضع أجزاء بدت متناقضة أو متعارضة أو أظهرت عجزا جدليا بطريقة جديدة. استعادة نموذج أنطوان أرتو، ندرك من خلاله إمكانية الاهتداء بعيدا جدا. فيما يخصني، قادني ذلك إلى المحكمة، بسبب تهمة عدم قانونية نشر محاضراته المعنونة بـ”أبراج حمام عتيقة”. كل هذا سيقود نحو فهم، من يتراءى ضمن الطليعة؟
س- نماذج متفرِّدة
ج- سيكون حتما جيمس جويس! بوسعنا إعادة وصل دانتي مع جويس، ثم باطاي مع أنطونين أرتو… ومن الذي يمثِّل طليعة الفن التشكيلي؟ حتمابيكاسو! لا جدوى من الاختباء خلف مارسيل دو شامب وكونزور، وقد أخطأت الطليعة نتيجة تمسكها بالترسُّخ.
س- إذن أنتَ مخطئ؟
ج- لا !مادمتُ رفضتُ دائما التمسُّك بالعقيدة الطليعة. وماسمِّي بـ”الفن المعاصر” وباء على الطليعة. الفنُّ مثل الأدب، حينما يسيطر عليهما التسويق.
س- بالعودة إلى سؤال الزمن، أعتقد بأنَّنا سنبلغ في نهاية الحوار شيئا ما عاما في الوقت ذاته ثم دقيقا جدا. أحبُّ إذن إعادة طرح سؤالي، لأنه لازال بلا جواب: لم تطرح في البداية تيل كيل نفسها مجلة طليعية. وقع بالضرورة منعرج، مادمنا نتحدث عن الزمن.
ج- قدَّمت نفسها باعتبارها كلاسيكية تماما. أعددتُ وفرانسيس بونج مقدمة حول حديقة لوكسمبورغ. فرانسيس بونج كاتب طليعي؟ لم ينظر إليه على هذا المنوال من طرف النخبة. لكن انتهى الوضع بأن اعتُرف له بهذا الانتساب، لاسيما من طرف الفيلسوف سارتر. ينصبُّ السؤال الفوري على معرفة كيفية تكلُّم الفلاسفة عن الأدباء. هل ضمن المطلوب؟ حقا؟ كيف؟ غاية أيّ مستوى؟ رسمت تيل كيل حركة متواصلة، لا نلاحظها غالبا. بناء على هذا التصور، تجسَّد دليل مذهل، إذا سمحتَ لي بتوظيف التوصيف. باختصار: كان ميشيل فوكو، أول محاضر ضمن ندوة تيل كيل داخل المركز الثقافي في سوريزي، وقد صدرت أعمالها بين طيات العدد الخامس عشر. آنذاك أنجز فوكو عملين مهمين جدا،هما ”ولادة العيادة” و”تاريخ الجنون”. ثم تواصل سريعا حضور كتَّاب آخرين، أشير تحديدا إلى جاك ديريدا، ثم جاك لاكان. أساسا، انصبَّت خصوصيتي باستمرار على أن أشكِّل مايشبه فتيلة مشتعلة ضد مايتبلور باعتباره أكاديمية الطليعة. لاسيما مع جاك لاكان، المؤمن بالتصور نفسه. لذلك، حضرتُ كل يوم ثلاثاء درسه الرائع.
س- تتكلم في هذا الإطار عن شخص لم يكن جامعيا. حينما تقول ”فلاسفة”، تستحضر جامعيين. هذا لعب دورا محوريا على مستوى رحلة تيل كيل، وكذا مساركَ الشخصي.
ج- بالعودة إلى تاريخ الطليعة وسؤال الجامعة، فقد ارتبط أمرهما بخدعة ووَهْمٍ كبيرين، مصدرهما الثورة السوفياتية.
س- سأركِّز تحديدا على هذه النقطة، وكذا مسألة أنَّ نواة إشكالية الطليعة بمثابة نواة تجمع بين الفنِّ والسياسة
ج- نعم.حتما.
س-مفهوم الطليعة مصدره لينين، وليس الدادائية.
ج- بهذا الخصوص، تكمن محورية حركة يونيو 1971، لماذا؟ لأنَّ جل ما نودي به، أساسا داخل الجامعة، فيما يتعلق بالانخداع المشار إليه، الطليعي تحديدا، انتهى بها المطاف كي تعثر مع تيل كيل على فضائها الملائم.
س- أريد أن أطرح سؤالا حول الخصام العاشق مع الجامعة. نموذج جيمس جويس، الذي صار مهمّا جدا، تقريبا بمجرد انفصال الصلات مع الجامعيين، فالنصوص التي كرَّستها إلى جيمس جويس تعتبر الأفضل غاية اليوم في مجالها. حسب تصوري،لعب ذلك دورا عَرَضيا، بل ”سينتوم”، مثلما يقول جاك لاكان (السينتوم بالنسبة للذُّهان مثلما الشأن مع العَرَضي قياسا للعُصَاب). لذلك، فإحدى استثناءات تيل كيل قياسا إلى المجلات ”العادية”، إذا أمكني توظيف هذا الوصف، كونها أذاعت أسماء عدَّة جامعيين، مثَّلوا بدورهم نوعا من الطليعة داخل الجامعة.
ج-حتما. بالتالي، لماذا تظنُّ بأنَّ الجامعيين يكرهونني؟ بالعكس، لقد أدركوا تواجدهم عند المكان الجدير بهم! تماما على شاكلة الوضع الذي عاشته الجامعة بعد ماي 1968، حينما انتهى زخم الجامعة بين أيادي الشيوعيين، وتمَّ بيعها إلى كل من صُنِّفَ باعتباره طليعة يسارية. هكذا جرت الأمور مثلما تعلم؟ تبلورت حينها فكرة سياسية مذهلة، ترمي إلى وضع مختلف ذلك داخل غيتو سُمِّيَ بجامعة فانسين، بالتالي أقصى ماوجب القيام به، انتظار تحلُّلِ المنظومة. من هم القياديون؟ كان هناك إيلين سيكسو، وجاك ديريدا. هكذا، حدث الاضطراب.
س- سنة 1972، نتيجة ”التحوُّل” صوب اعتناق المرجعية الماوية، خلال تلك الحقبة انفصلتَ عن العالم الجامعي. غريب، يتَّضح لي تدريجيا بأننا بصدد خوض نقاش.
ج- ليس سنة 1972، بل تحديدا 1971. يلزم تدقيق التواريخ. حركة يونيو 1971 مع منشورات مهمَّة، شكَّلت علاوة على ذلك طليعة. ليس بحسب دلالة التاريخ الأكاديمي للطليعة، الذي يعتبر مهمَّا في ذاته، يعزف إيقاعها على سبيل المثال من طرف مارك داشي. كنت سعيدا بأن أصدرتُ له.
س- أريد الاستمرار في طرح أسئلتي الصحفية الحادَّة شيئا ما، لكنَّكَ آثرت إشكال منعرج الطليعة وقد حدَّده البعض انطلاقا من سنة 1966، أساسا مع رفض مجلة تيل كيل لحرب فيتنام. سنتان بعد ذلك، إذا لم أخطئ، الانحياز إلى صفِّ الحزب الشيوعي الفرنسي. بعد مضي أربع سنوات، حدثت القطيعة مع الحزب، والاقتراب من الماوية. هنا تكمن، حسب اعتقادي، النقطة العمياء في تاريخ الطليعة، بمعنى العلاقة التي تشرح في الوقت ذاته أقصى حيويتها وكذا اختفائها المبكر. لقد، شكَّلت إيديولوجية الطليعة خلال القرن العشرين مصدر طاقة مدهشة. لايمكننا حقا إنكار ذلك، مثلما الشأن مع رومانسية القرن العشرين. لم يكن هولدرلين أو بودلير برومانسيَيْن، غير أنَّهما أضحيا هولدرلين أو بودلير بفضل الموجة الرومانسية التي سادت القرن التاسع عشر.
ج- ينبغي التأكيد على أنَّ الواقعة الأكثر أهمية تجلَّت مع السوريالية.
س- كانت هناك أيضا الدادائية.
ج- نعم. يقول الدادائي: ”أبدعتُ الحركة الدادائية”. ”أبدعنا الحركة الدادائية”. هكذا، تبلورت الحركة على أرض الواقع. أستعيد بهذا الخصوص، قصيدة صغيرة للويس أراغون. لقد كان إخلاصي نحو أندريه بروتون راسخا. اعترفتُ دائما بأنَّ أجمل إهداء تأثرتُ به كثيرا، جاء كالتالي: ”إلى فيليب سوليرز، معشوق الساحرات”، من خلال الطبعة الجديدة لـ”بيان السوريالية” سنة 1962 .
س- إذن، قصد إتمام سؤالي: التفسير في الآن ذاته لقوة الطليعة خلال القرن العشرين وكذا موتها الموجع. لذلك، أتكلَّمُ عن صدمة،بمعنى موت مباغت جدا لايرغب شخص في الإقرار به.خلال تلك الحقبة، لم يتجلَّ الاضطهاد، حسب تعبيرات جاك لاكان بل سقوط حقٍّ. تناول الأفراد الطليعة وكذا التقدميين من منظور إيديولوجي. الالتواء التأويلي نواة تعيد ربط الفن بالسياسة. في هذه الحالة، الأدب والسياسة. أكرِّر ذلك، لأنَّها نقطة مهمة،لكن أيضا مرة أخرى، لينين من أبدع المفهوم وليس الدادائية.
ج- نعم، في مدينة زيورخ. ماينبغي معرفته بخصوص لينين، رغم كل شيء، ملاحظاته حول الجدل الهيغيلي. هنا توجَّه اهتمامي إلى الفلسفة، مادامت تشغلني أولا طيلة الوقت. الفلسفة. يا إلهي بفضل هوسرل، الذي قرأته باكرا جدا، ثم هيغل. وقد كتبتُ عملا اسمه ”حركة”يرصد حيثيات ذلك، مثلما ينبغي،وانتقاد الخطأ المزعج لماركس، الذي تداوله العميل السوفياتي ألكسندر كوجيف، فقد ”أعاد وضع الجدل على قدميه”، جميل جدا،لكنه خلال هذه اللحظة، لم يعد يملك رأسا، إلخ. أيضا، ركَّزتُ على نيتشه، الذي جَسّد صدمة مطلقة.
س- من الاسم الفلسفي الذي وضعته مجلة تيل كيل في الواجهة خلال بداياتها؟
ج- حتما. هيدغر سريعا جدا، وبكيفية مبكرة للغاية.لكن لم يهتم أحد بمجلَّدين صدرا حول نيتشه وهيدغر، بما في ذلك مترجمهما الفرنسي بيير كلوفسكي.بخصوص هيدغر، فقد أحاطه إبعاد وتجاهل غير عاديين، ثم تكرَّس الموقف دون مبالغة جراء تاريخ موقفه السياسي المساوِم. أيضا، ينبغي استحضار اسم كاتب حتما طليعي، مهمٍّ للغاية، أقصد تحديدا فرديناند سيلين! وأيّ ”كاتب طليعي” فقد حَرَّكَ اللغة مثلما الشأن مع لوي فيرديناند دوستوش؟
س- نعم، اتخذت الأمور إيقاعا متوازنا بحيث”أخرجتَ إلى القارئ”نصوص جيمس جويس وسيلين بعد ابتعادكَ عن المحيط الجامعي وأخذكَ مسافات حيال الماوية.
ج- أيضا أضفتُ إلى حلقة الطليعة حضور مارسيل بروست، الذي أهْمِلَ وعرف مقاطعة من طرف النُّخب،مما شَكَّل خطأ مضاعفا.
س-صحيح، لكن خلال فترة تيل كيل، لم تتكلم قط عن بروست.
ج- انتظرتُ فقط موعد ذلك.ينبغي امتلاك نظرة شاملة قصد تحديد طبيعة الاستراتجيات التي تستدعي الرهان عليها.حاليا،لديكَ موسوعاتي (قهقهات).نفس الأمر بالنسبة للسينما، وقد اعتبرتُ هيتشكوك أكبر الطليعيين وبكيفية مطلقة. ذكرتَ ”الماوية” تلك المداخلة الصينية القصيرة.يا إلهي! فظيع !لم يتوقف الحديث عن تلك اللحظة غاية اليوم. ومن أتى بعد ذلك؟ لقد سردتُ الحكاية انطلاقا من بيكين. يالها من قصيدة جميلة. أثارت اهتمامي الثورة الصينية.دون الصين، لا وجود للماوية. هناك فلاسفة ماويون.لن أشير إلى اسم معين (قهقهات)، لكن فكرهم افتقد إلى الجوهر الصيني عن المعطيات بالتالي عجزوا عن تمثُّل ماعاشته الصين. سافرتُ إلى هناك سنة 1974 رفقة جوليا كريستيفا، مارسيلين بلينيت، رولان بارت، قارب سكان الصين آنذاك سبعمائة مليون، بينما تضاعف هذا الرقم ثلاث مرات. سيكون الناتج المحلي الإجمالي الصيني الأعظم في العالم سنة 2030، هذا يعني بأنَّ الطليعة لم تتوقع شيئا تماما. طبعا، الطليعة موجودة بطوائفها إذا أردتَ ورؤيتها التاريخية، لكنها تحتاج إلى خلفية فلسفية، هنا تكمن الإشكالية. كذلك، وجبت الإشارة ضمن سياق كلامي إلى فضيحة أخرى، فأنا حقا متخصِّص في هذا المجال، أقصد حكايتي مع البولوني جان بول الثاني. إبَّانها، حُشِرْتُ تقريبا في الزاوية. فقد أهديتُ لبابا الكنيسة كتابي حول ”الكوميديا الإلهية”، ألا تلاحظ مدى العناد.أتساءل في هذا الإطار، عن الجهة التي بوسعي أن أهديها منجزا من هذا النوع- إمكانية في غاية الرِّفعة- أليس إلى شخص البابا؟ فعلا وضعته بين يديه، وتوجد صورة توثِّق للقائي به الذي أثار حيثيات الضجة. هكذا، حظيتُ منذئذ ببركة المقدَّس، ولازلتُ غاية الآن أشعر يوميا بإيجابيات المفعول (قهقهات)! أؤكد لك، بأنَّ النخبة من ادَّعت مثل هذا التأويل.نعم،هكذا تسير الأمور.
س- الإشكالية، أنَّ مختلف إجاباتكَ تنطوي أصلا على أسئلتي. توقعتُ ذلك،بالتالي أحبُّ أن أواصل بسؤال قد يكون مفيدا جدا لك.لقد كنتَ باستمرار لاعبا كبيرا للشطرنج (ضحكات).إذن،بخصوص علاقة الفن والسياسة التي تفسِّر في الوقت ذاته قوَّة الطليعة وكذا احتضارها قبل الأوان،من خلال كل تعبيراتها،هناك مجلة ثانية طليعية صدرت بين سنوات (1957- 1972)،خلال حقبة تيل كيل،أسالت مدادا كثيرا.لقد حملت اسم”الوضع الدولي”، منطويا على دلالة الطارئ العَرَضي لدى أعضائها.استند تصوُّر مفهومه، على”نواة صلبة”، إذا صحَّ القول، قياسا لعنوان تيل كيل. أو بدا في كل الأحوال، مختلفا تماما. عموما، لن أستعرض هنا اختلافاتهما، فمن شأن ذلك الانزياح بنا بعيدا عن جوهر النقاش. مبرِّر حديثي بهذا الخصوص،علاقتكَ الطويلة والمعقدة للغاية مع الذي أطلق عليه لقب ”بابا” مجلة ”الوضع الدولي”، أقصد اسم ”غي إرنست ديبور”.
ج- مهمٌّ جدا. الإقرار الأوَّل: سواء مجلة الوضع الدولي وكذا صاحبها غي ديبور نفسه، لم يكن في وسعهما تقديم شيء جوهري حول فن الرسم.
س- هكذا الطليعة (قهقهات)
ج-الإقرار الثاني: غي ديبور، الذي أحببتُهُ رغما عنه.
س- لم تكن علاقته بكَ ودودة بما يكفي.
ج-لم يقرأ أعمالي. بينما أنا اقرأ عن كثب. لقد استمر غي ديبور، رغم كل شيء، وفيّا لمفهوم البروليتاريا حينما أعاد إصدار الطبعة الايطالية لكتابه ”مجتمع الاستعراض”. منذ ذلك الوقت، عايننا باندهاش ليس فقط اختفاء المفهوم بل وحقيقة الشيء نفسه. وأريد منكَ العمل على تحديد نفس الرهان: سؤال الزمان؟ مع التسليم بوجود ”فرضية شيوعية”، في خضمِّ إعجابي بشخصية وطاقة غي ديبور، ثم عبر أسلوبه، لكنه كلاسيكي جدا! بالتالي نحن أبعد مانكون عن التقدمية.
س- وجَّهتني صوب التفكير في إشكالية أساسية جدا لم أتوقع طرحها.منذ سنوات مراهقتي،لعبت مجلتا ”الوضع الدولي”و”تيل كيل” دورا أساسيا على مستوى تكويني. تجلى شدّ وجذب بين مااستلهمتُه من كتَّاب المجلتين.بين التحديث اللغوي ”النصِّي”الرائع،مثلما وصفتَهُ خلال تلك الحقبة،بحيث قَدَّمَ كتَّاب ”تيل كل”بهذا الخصوص أفضل الأمثلة،لكنهم لم ينجزوا إشعاعا خارج إطار الكتابة،مقابل تلك ”الحركية الفعالة”بكيفية جلية للغاية وجامحة لدى كتَّاب مجلة ”الوضع الدولي”،مع تدبيجهم مضامين نظرياتهم بأسلوب كلاسيكي للغاية. ثم بلغت عقدي الثالث،مع ذلك اعتُبر الانجذاب بين المجلتين محوريا بالنسبة إليَّ.أودُّ منكَ،استطرادا بهذا الخصوص.
ج-لازال الحديث غاية اليوم عن إشعاع تيل كيل،مثلما عبَّرت عنها مواقفها المنحازة إلى جانب الصين والبابا،التي توخَّت أن تزعج كثيرا الاتحاد السوفياتي سابقا والحزب الشيوعي الفرنسي. تجلى مختلف ذلك بشكل واضح حين قراءة روايتي”فردوس”جيدا. تبنَّت مجلة”الوضع الدولي” أسلوب حرب العصابات، وقد كان رائعا لكن غي ديبور من أنجز كل لبنات المشروع.مخطئ بخصوص تقييم رصيدي، من يحاول إثبات إدماني كتابه ”مجتمع الفرجة”، من ثمَّة الاعتقاد بأنِّي كنتُ مجرَّد دمية، بينما راكمتُ في الوقت ذاته منجزا مختلفا. غي ديبور، لواء كبير نجح بفضل قدراته الذاتية، على الإيحاء بوجود جيش شبح خلفه. إنَّه فنُّ اليومي الكبير. كانت نهاية ديبور مؤثِّرة جدا، أبانت عن رِفعة الإخفاق.
س- تحدثنا منذ قليل عن لينين، تعكس الطليعة أساسا مفهوما عسكريا.
ج-نعم. أنا بالأحرى كاردينال خاص (قهقهات). كان غي ديبور لواء كبيرا، اتَّضح له بأنَّه يتواجد وسط منطقة أوفرن Auvergne المنكوبة، وحيدا، محاصرا، يتألم، ويلزمه الاستمرار غاية النهاية. هكذا، تبدو حيثيات المشهد.المزعج، بخصوص نهج من هذا النوع يكابد، أنَّ صاحبه يختبر تحديدا لمسة مفرطة في الرومانسية.
س- بالتأكيد
ج- أكثر من ذلك، يظلُّ طبعا فيلم (1) أفضل تعبير عن هوية غي ديبور، بحيث أصغينا من خلال متوالياته إلى نبرة صوته، التي أبانت شيئا ما عن سوداوية ثم سوداوية فسوداوية. كأنَّنا في حضرة النشيد الثالث عشر من جحيم دانتي!
س- في مدينة البندقية
ج-نعم،لكنها مدينة بالأسود والأبيض،دون ألوان قط (قهقهات)،انتبه ! انتبه !كل جزئية مهمة،يلزم أخذها بعين الاعتبار : دارت بنا الدوائر ثم التهمتنا النار. حسنا. تناظر، إذا أردت،جميل للغاية. لكن في نهاية المطاف، نعيش بالأحرى في الجحيم. مسألة مهمَّة بالنسبة إلى دانتي. شخص مثل صامويل بيكيت، لم يتجاوز المَطْهَرِ. بينما، يصادف غي ديبور ثانية الجحيم، ضمن حدود جحيم بطولي! أخيرا ،لايلزم العبث! أنا، أهتم بالجنة لكنها غير موجودة.
س- ألا يوجد مستأجِرٌ
ج-أبدا.نعيش عزلة متقدِّمة، في خضمِّ حشد من الأشياء، ثم تداخل الأصوات، الأشكال، الرموز، إلخ. لذلك، حينما أدركتُ المعطيات مبكِّرا، قلت مع نفسي، يجب خوض الرهان التالي: تتجسَّد الطليعة، من خلال أليغري دانتي! يتعلق الأمر بشيء معين بوسعه إرباك الجميع. نتيجة مبرِّرات الجهل أساسا الديني، بل الجهل بكل بساطة، عموما لابأس.
س-حضرني آنيا تصور،مفاده إمكانية اعتبار بيير غويوتا دانتي معاصرا،مع جهنَّم واحدة؟ تساؤل قد يفسِّر فعلا بعض حيثيات علاقتكَ مع غويوتا.
ج-لكن عدن، عدن، عدن !
س – (قهقهات)، نعم صحيح.
ج- لماذا كرَّرْتُ الكلمة ثلاث مرات؟ (قهقهات) لقد وجد غويوتا في مجلة تيل كيل سندا كليا. لازالت صداقتنا مستمرة،مسألة ليست باستمرار في غاية السهولة.إضافة إلى عمله ”حيوانات البؤس السعيدة”، أو شيء ثان ضمن نفس النوع، بوسعنا الحديث عن كتابه الآخر”غيبوبة”.بيد أنه، عموما، يتعلق الأمر دائما بمنظورات رومانسية جدا.
س- هل الطليعة ابنة الرومانسية
ج- يلزم فحص الطليعة بالمنظار،ثم القيام بنفس الشيء مع أنصار قضايا النسوية. أعتقد، بأنَّ مكمن تميُّزي، تركيزي على هذه النقطة منذ فترة مبكرة وبأداء فعال. مادام امتلاك شيء مؤثِّر، بناء على مختلف الحالات، يعمل في نفس الوقت على تبيان شيء مؤثِّر آخر. لنترك لوي أراغون جانبا، والإشارة في المقابل إلى أندري بروتون الذي بمجرَّد أن رمق امرأة حتى عشقها بجنون، واقتضى منه الوضع الزواج بها خلال اللحظة نفسها، إلخ. هناك أبحاث شهيرة حول السورياليين والجنس، معطيات طريفة في نهاية المطاف. لاجدوى من الحديث على أنطونين أرتو، والتركيز على ذلك. لكن، مختلف ذلك، يبعث الشعور بالإحباط الجنسي والتزمت. إحدى فرضياتي، أنَّ الإشكالية تكمن في بودلير، فلماذا مُحِيَ تماما من”القُرْصِ الصلب” لزمرة الطليعة حسب التعبير المعاصر؟ أليس نصوصه الشعرية ”أزهار الشر” بقضية كبيرة؟ ولماذا هذا العنوان؟
س- أطرح باستمرار نفس السؤال بين طيات عملي.
ج – انطلاقا من ذلك،أصغي بتمعُّنٍ إلى ماركيز دي ساد وما كتبه عن الكائن الأسمى. أحاول الخوض، في كيفية التفكير وكذا كتابة شيء جديد تماما تاريخيا حول ماركيز دي ساد ونصوصه؟ فقد عرفت وجهة النظر حوله تطورا. في هذا الإطار، أتشرَّف بأنِّي كنتُ فعالا على نحو ملموس ضمن صفوف الطليعة، حينما بادرتُ إلى إصدار ماركيز دي ساد داخل مكتبة لابلياد، بعد أن اقترحتُ المشروع على أنطوان غاليمار، وقد جاءت أوراق الطبعة شبيهة بورق الكتاب المقدَّس (قهقهات)، ولم ينته السعي عند هذا الحد، بحيث ارتأيت ضرورة إنجاز دراسة تتطرَّق إلى الكونت لوتريامون، مهمَّة أنيطت إلى مارسيلين بلينيت، أهمَّ شعراء حلقة تيل كيل، فهيّأ كتابا عنوانه ”لوتريامون مثلما هو”، خرج إلى المكتبات سنة 1967، ثم أعيد طبعه. خلال تلك الحقبة استفاق لوي أراغون قليلا، بعد انغماسه في تأملات، كتب”لوتريامون ونحن” في إطار حديثه عن تجربة أندريه بروتون. ينشدان معا بأعلى صوتهما شعر لوتريامون صحبة المجانين خلال خدمتهما داخل المستشفى العسكري ”فال- دو- غراس”، إبَّان فترة قصف باريس. هل تعلم؟ ما ذكرتْهُ مؤخَّرا، المتخصِّصة النفسانية، التي تشرف على الطبِّ النفسي، داخل سجن فريسنيس وتعيش بالتالي هناك أكثر اللقاءات قسوة بجوار المجرمين الأكثر وحشية، والسفاحين؟لقد أكدت السيدة بأنَّ أشعار لوتريامون أو مجموعته ”أغاني مالدورور”، تظلّ أعظم كتاب !
س – نعم، كلام في غاية الأهمية. لا أطَّلع كثيرا على الجرائد، لكني صادفت الحوار الذي أجرته معها جريدة”لوموند”. إنها امرأة مذهلة، وجلّ ما أخبرت عنه يعتبر مبهرا.
ج-لقد استنتجت تحليلا امتدَّ خمسة عشر سنة. بوسعنا افتراض أنَّ جاك لاكان ليس ببعيد عن ذلك.يجب النظر إلى ذلك من زوايا متقاربة. هكذا، الطليعة في تصوُّري، إنها تكتشف باستمرار شيئا جديدا بن طيَّات مانظنُّه معلوما، لكننا لانعرفه. ستلامس قصدي ومنتهى كلامي، حين استدعاء خلاصة، أنَّه لاشخص يقرأ والجميع يعيش جهلا مطمئنا.
س- بالتأكيد، صحيح جدا.السؤال الذي أودُّ طرحه الآن، يتعلق بالاختلاف بين مجلتي “تيل كيل” و”الوضع الدولي”، بحيث نعاين أيضا خاصية العداوة الحربية نحو عالم الجامعة. ما أريد قوله، عندما نتكلم عن”الفلاسفة”، نتكلم ضمنيا عن أساتذة الجامعة. حتما، يوجد كتَّاب من صنف كيركجورد، شوبنهاور، نيتشه، باطاي…، هم كتَّاب قبل كل شيء. تسير تلك الحقائق، بكيفية متوافقة. أريد على أية حال العودة ثانية إلى العلاقة بين ”تيل كيل” و الجامعة، مثل تجلٍّ بخصوص اختلافها مع مجلة”الوضع الدولي”، التي تجنَّبت جذريا كل تواصل مع الجامعات، سوى في حالة إثارة ضجيج على طريقة الدادائيين مثلما حدث في مدينة ستراسبورغ. مختلف ذلك انتهى بأحداث ماي 1968. حتما، لم تكن ”تيل كيل” باللحظة الهيِّنة، بل شكَّلت فترة نوعية جدا ضمن مسار تاريخ الفلسفة وما سمي بالنظرية الفرنسية.أقصد متون فوكو، ديريدا، بارت، جينيت، كريستيفا (دون الحديث عن أسماء أخرى اشتهرت بفضل منشورات تيل كيل). عموما، لم يوجد نموذج تاريخي ثان طليعي احتضن جامعيين. لذلك، تبقى تجربة تيل كيل استثنائية تماما على امتداد تاريخ الطليعة، تستحق التكرار والشرح.
ج – فعلا، فعلا، القضية بسيطة، سنقاربها بتوظيف الصراع الطبقي (قهقهات). ينحدر أغلب الجامعيين من أوساط البورجوازية الصغرى أو الطبقة المتوسطة. لم يتسامحوا حتما مع سخاء حظِّي فقط نتيجة أصلي البورجوازي، هنا يكمن أصل المشكلة وليس شيئا ثانيا. لذلك، كنتُ مجبرا كي أردِّدَ باستمرار بأنَّ حياتي لم تبدأ مع كتابي الأول، الذي أشاد به فرانسوا مورياك ولوي أراغون، لكن قبل ذلك في عمق خلفية مدينة بوردو. لقد ترعرعتُ هناك ضمن تجارب الصَّقل والترفيه، واستقيتُ منها بانتظام كل الطاقة قصد التخلص من الحقد الطبقي، وقد تحرَّرتُ من ذلك خلال بداياتي الأدبية ولازال السعي مستمرا غاية اليوم. قضية لم يتطرق لها أيّ شخص من الطليعة. لاحقا، أثار غي ديبور فعلا حيرتي، فقد انهار سريعا، بالتالي لاينحدر من البروليتاريا، بل أبعد عن ذلك. من ثمَّة، بدت لي دائما غريبة جدا طريقة تمسُّكه ببروليتاريا مستقبلية. إذن، قطعا ينتمي المدرِّسون إلى بورجوازية صغرى رجعية، أي اليسار (قهقهات).
س- طيب. أريد أن أطرح سؤالا، لكنه بالكاد تبلوره،يغدو خطّا للبحث، مرة أخرى حسب منظور جاك لاكان.ما أودُّ قوله، يعكس مدى صعوبة الأمور بين الفلسفة والأدب؟ مثلما الوضع بالنسبة للحياة، هناك حكايات عشق، وكما تعرف (قهقهات) لا تنجح غالبا وأحيانا تنجح، بل وبشكل رائع.أكثر من ذلك، قد نعيش النعيم في غضونها. لكن العلاقة بين الفلسفة والأدب، دون أن نفصل بينهما على مستوى جنس المرأة أو الرجل،لايبدو قط أنها تعمل.
ج-بالعكس، تشتغل جيدا (قهقهات). إنَّها مسألة سلطة. هذا ماجعلني أدرك مبكرا جدا وبكيفية سريعة للغاية، ضرورة شذِّ آذان الفلاسفة (قهقهات) كي نرى كيفية تعاملهم مع الأدب. لقد تبنَّيت حملة بخصوص هذا الموضوع، كانت كلاسيكية حقا. حرب عصابات مقدَّسة. بناء على طلبي، التفتوا جميعا إلى مقاربة الموضوع. وجب التذكير، في هذا الإطار بكتاب جاك ديريدا “التَّبعثر”، الذي اهتمت بدراسته مختلف جامعات العالم، بينما رواية ”أعداد” التي أصدرتُها واشتغلت صفحاتها على هذا الأشكال، لم تحظ بأيِّ ترجمة بما في ذلك الانجليزية، بالتالي هل يمكن التعليق على كتاب لم يترجم؟ هنا تكمن إشكالية اللغة الفرنسية كفرنسية. متى تعدُّ رائعة هاته المسماة فرنسية، عبر كل عباقرتها المتعاقبين، من ماركيز دي ساد غاية بودلير وقائمة اللائحة تزخر بأسماء أخرى، مثلما الشأن مع ميشيل دي مونتين ابن بلدتي…، بدأت أشعر بأنّ النخبة الفرنسية المفترضة ليست حقا جيدة على مستوى اللغة الفرنسية؟ تقييم يدفعني إلى طرح سؤال صعب جدا. وحده أندري بروتون، لم يواجه مشكلة تذكر بخصوص اللغة الفرنسية، ودبَّجها بطريقة رائعة. أما لوي أراغون، وبغضِّ النظر عن روايته ”الشيوعيون” غير المقروءة، فقد قدم أفضل مالديه في عمله الآخر ”الأسبوع المقدَّس” الصادر سنة 1958، هنا اكتشف بأنِّي لامستُ العبقرية، ينبغي أن أخلِّده. أما غي ديبور فقد كانت فرنسيته رائعة، لكنه اعتبرها سلفا عن صواب، بكونها تضمر إمكانية لغة ميِّتة، ينبغي كتابتها بكيفية فاحصة. تصور رائع. إذن، تعني اللغة الفرنسية: بودلير، رامبو، مالارميه، وأيضا لوتريامون، علما بأنه لا يوجد شيء كبير خارج إطار هؤلاء، أليس كذلك. يلزم حقا، أن تكون أخرس وأعمى كي لاترى ماتستحقه هذه اللغة.
س- عناية
ج – التضحية من أجلها. وذلك مافعلته.
س – سؤال بديهي: الطريق ”المشؤوم” لمجلة تيل كيل، نحو نسختها الأخرى المعروفة ب “اللانهائي”حسب البعض، ما العنصر الجوهري بالنسبة إليكَ حسب الكيفية التي حدثت بها التطورات؟ تفاجأتُ لأنه لم يسبق لأحد أن طرح عليكَ سؤالا من هذا القبيل؟على الأقل في حدود معرفتي .هل بالإمكان الحديث عن لحظة معينة؟
ج – الأمر بسيط للغاية. نعم، هناك لحظة معينة.تمتَّعنا باستقلالية تامة داخل تيل كيل. أولا، غريب جدا أنَّ ناشرا أسَّس ثلاث مجلات قصد مهاجمة الثالثة! شغلت منشورات “سوي”موقع القيادة، نتيجة مجلات ”تحوُّل” لـ(جان بيير فاي)، شعرية (جيرار جينيت)، ثم هيلين سيكسوس، إلخ. كنَّا محاصَرين، لكننا امتلكنا منقذَيْنِ مهمَّيْن جدا، رولان بارت كاتب تيل كيل بعد كل شيء، وصديقي غاية أبعد الحدود، فقد كان شخصا رائعا، وقد أنجزتُ كتابا بهذا الخصوص تحت عنوان”صداقة رولان بارت” تضمَّن رسائلنا المتبادلة، وتعلَمُ بأنَّه كتاب جيد إلى حد ما.تعلق الأمر بصداقة عميقة. أما المنقذ الثاني،فأقصد به جاك لاكان.وضع جعلنا محصَّنين. ماذا؟ فيليب سوليرز؟ تيل كيل؟ ما المشكلة؟شيء ما ليس على مايرام (قهقهات)؟ ثم توفي الاثنان!
س – صحيح. لم أنتبه إلى هذا التأويل، لكنها البداهة نفسها. لقد شَرحَتْ ذلك صفحات روايتكَ ”نساء”، مثلما الشأن في ”الرسالة المسروقة” لجاك لاكان.
ج- مات رولان بارت وجاك لاكان. خلالها شعرتُ على الفور بأنَّ الوضعية بصدد التدهور: لقد انتهى السَّند وافتقدتُ كل شيء. هكذا، أضحيتُ وسط خندق، محاصَرٍ عبر كل الجهات (قهقهات)، في خضم لحظة ذهول عام، أتينا بشاحنة صغيرة تبلغ مائتي ميتر، كي تُشْحن بمخزون من الوثائق، مررنا أولا عند دار النشر دونويل المنتمية إلى مجموعة غاليمار، قصد التطهير. كيف كان ذلك ممكنا؟ آه ياللروعة (قهقهات) !
س- إحدى كتبكَ الحوارية الصادرة سنة 1978، تحت عنوان”نظرة إلى نيويورك”، تشعرنا بأنَّكَ تتكلَّم باستفاضة عن روايتكَ ”جَنَّة”، لكن تبيَّن لنا وفق معنى آخر حديثكَ عن روايتكَ الأخرى ”نساء”، هل بالغتُ شيئا ما؟
ج- لا.بالتأكيد.هل تعلم بأنَّ رواية ”نساء” نصّ مقترح. لقد بدت الحياة السياسية على المنوال التالي، إن لم أكن مخطئا. أعود إلى باريس سنة 1981، حيث الجميع يصرخ: ”لقد ربحنا، لقد ربحنا”، يتعلق الأمر بانتخاب فرانسوا ميتران رئيسا للجمهورية. لاجدوى من إخباركَ، بأنِّي تواجدتُ حينها داخل منزلي منغمسا في التأمل.كانت مسودة رواية ”نساء”جاهزة، قُرِئَ نصفها تقريبا من طرف فرانسوا وول داخل مؤسسة سوي.
س – حاليا، فهمتُ كل شيء
ج – بالتأكيد. هي الرقابة!
س – لو كنت أعلم
ج- الرقابة. وضع هَزْلِي، إذا أردنا. لكن خلال يوم يغدو الوضع غير ممكن، وتشعر بأنَّ الأمر ليس على مايرام، بينما الجميع يهرطق بخصوص قدوم فرانسواز فيرني إلى غاليمار، جلُّ الوسط الأدبي، ذلك الوسط الاستعراضي الكلاسيكي، وفق تصور غي ديبور، الذي لم يهتم قط بأيِّ شيء، مما يؤكد القدرة على خوض حرب العصابات في خضم طمأنينة مثالية. يتعلق الأمر بالمعرفة، إنّه فنّ السرية، ينبغي إدراك ذلك.
س- ينبغي إدراك مانقوم به
ج-يلزم إدراك مانقوم به، وكيفية القيام به، حدث أنِّي أصبحتُ صديقا لأنطوان غاليمار، بحكم تسكعنا معا كثيرا خلال ليالي 1968 وسط الغازات المسيلة للدموع، لم يصل بعد إلى مركز القيادة (يضحك كثيرا)، لكن في نهاية المطاف، أضحى الأمر كذلك. أستعيد دائما كلام جيروم لندون، خلال لحظات تجولنا ضمن محيط حديقة لوكسمبورغ، وهو يقول لي: “لن ينجح أنطوان قط، بل أخوه كريستيان”. أجيبه بموقف مخالف. أنجزتُ كتاب ”حماقات فرنسية”، وأهديته إلى أنطوان غاليمار باعتباره صديقا. إذن،سبب ما وقع معه، نتيجة الكلام السيِّئ الذي قيل له كثيرا عني، في اللحظة التي يفتح نافذة مكتبه، ثم يقول للشخص الجالس بجانبه:”سوليرز وغد،سينتقم منه الشعب” بحكم إصغائه لتكرار ذات الرأي .وهنا يضيف:”مثلما تلاحظ؟ لقد اعتنيتُ ثانية بنبات إبرة الراعي”. هكذا، ”أضحى الاستبداد مضاءً” رغبة وَرِعة، بالتأكيد، لكنها ملموسة. نشغل حيِّزا، تكاثرت ضمنه على امتداد قرن، أشباح، لاتتكلَّم أو تتبادل التحايا، في ظلِّ سيادة تشويش بينها (ضحكات)، سارتر وسيلين، بروتون وأراغون، إلخ. أستعيد عبارة لغاستون غاليمار: ”لكن كيف فعلتَ وأصدرتَ هذا العدد الكبير من الأسماء المتناقضة؟”
س- إنَّه الجدل
ج- هل قرأت الميثاق مع الفكر. جيد، تأويل يشبه العقل المطلق عند هيغل.
س-إشارة أخيرة، لاتقلّ أهمية: سلَّطت تيل كيل الأضواء على كتَّاب من الماضي، انطلاقا من قناعة مفادها أنَّها أسماء لازالت تجسِّد الطليعة نفسها: لوتريامون، مالارميه، جيمس جويس، أنطونين أرتو… إجمالا، أردتَ قول التالي:”هكذا، يتحقَّق الوضع”. بدا الهاجس جديدا للغاية، قياسا إلى مسعى الرؤية التقدمية، المتمثِّلة بالأحرى في تبنِّي موقف الصفحة البيضاء، ويتكرَّر المنحى آنيا وفق نموذج محاكاة ساخرة، مثلما قلت سابقا عن الفنِّ المعاصر، بحيث لانعلم هل يلزمنا أن نضحك بهذا الخصوص أو البكاء.
ج – آه، يلزم امتلاك قناعات، وأنا امتلكها بكيفية قوية جدا.
س- وَسَّعْتَ مع أعداد مجلة ”اللانهائي”، مجال النقد الأدبي بشكل كبير،بحيث دافعتَ ضمنيا عن كل ماقرأته خلال حقبة ”تيل كيل”، مثل بروست وسيلين، لكن أيضا، زيلدا ساير فيتزجيرالد، إرنست همنغواي، فقد تبنَّيْتَ دائما الأسماء التي قرأت أعمالها.
ج- نعم بمنتهى البساطة.
س- هناك على أيَّة حال،جانب يشير إلى عودة المكبوت.
ج- حتما! ما دمت أتوقَّع بأنَّها مرجعيات ستشكِّل الرهان الأساسي للحرب: لاشخص يقرأ. هكذا، صار الانقياد وراء المنظومة الرقمية والتواصل، وضعا غير قابل للارتداد. وجَّهت اهتمامي كثيرا نحو هذا الجانب، كي أستشرف الوجهة التي نسير إليها. بالتالي، أستعيد بهذا الخصوص فكرة تقاسمتها مع رولان بارت: يجب استرجاع الموسوعية. لقد أصدر كتابا رائعا حول لوحات الموسوعية. ينبغي التركيز من جديد على أفق الموسوعية، وهذا ما توخيتُ القيام به.
س – سياق يقودنا إلى لقب ”سوليرز الوسيط الإعلامي”، الذي أنجز أشياء مهمَّة (و اقترن بـ”خيانة”الطليعة). كان سوليرز، خلال سنوات الستينات والسبعينات، مشهورا إعلاميا للغاية من خلال مجلة تيل كيل تحديدا (”إرهاب فكري”، إلخ)، لكن مع إصداركَ رواية ”النساء”وكذا انطلاق مشروع مجلة ”اللانهائي” لاحقكَ لقب ثان من طرف الجميع: ”سوليرز، بهلوان الإعلام الفرنسي” ،إلخ.دوما، تساءلتُ عن سبب نعتكَ بهذا الوصف، دون غيركَ من الكتَّاب الفرنسيين الآخرين المتداولة أسماؤهم خلال تلك الحقبة، كأنَّكَ جسَّدتَ كبش فداء معين بالنسبة للكثيرين: لكن مِمَّا؟ سؤالي، شخصي جدا: كنتُ مراهقا، أفتح التلفيزيون وبفضلكَ اكتشفتُ مبكرا أسماء جورج باطاي، أنطوان أرتو، غي ديبور. أفق ساعدني على التكوين كي أتمثَّل طبيعة الأفضل والأسوأ، يكمن جانب سقراطي أدبي”مفسد الشباب”، بالتالي السؤال كالتالي: في نهاية المطاف، بسبب الحقبة التي دشَّنتها روايتكَ”النساء” ثم مجلة ”اللانهائي”، ألم تصبح هذه اللحظة بمثابة انتقال صوب نفس مشروع مجلة ”الوضع الدولي ”تعاكس الزمان (ضحكات)، وعلى طريقتكَ؟
ج- انطوى المشهد دائما حسب دلالة غي ديبور، على قوة هائلة، يقتضي العيش بين طياته، إذا أمكنني القول، جهازا عصبيا خاصا جدا. أدركتُ فورا خلال سنوات 1981، ضرورة التأثير حول رافدين متباعدين تماما، يعتبران ضروريان بالمطلق لدى ملاحظ يستوعب الجدل. من جهة، إمكانية فيزيولوجية كبيرة: بوسعي توظيف جسدي، ضمن سياقات معينة، وقد بادرت إلى ذلك مرارا، وأواصل استثماره غاية المنتهى. بمعنى، مثلما نعلم فصناعة المشاهد تمتلك وسائلها: المذياع، التلفيزيون، الجرائد، وظَّفتُ مختلف ذلك. فعلته بجرعة مرتفعة، ويلزمني القول، دون ضغط كبير، لكني فهمت سريعا جدا، بأنَّ الصحافة المسماة ورقية سلكت منحدر تحلُّلٍ نهائي. كتبتُ كثيرا عبر صفحات جريدة ”لوموند عالم الكتب”، ”لونوفيل أوبسرفاتور”، محتفظا دائما بما يمكنني القيام به في مكان ثان. يتعلق مرة أخرى، بالاشتغال على الزمن وإدراك كيفية العيش ضمن أزمنة بالمطلق متباينة. إذا عجز المرء، يكابد تثبيتا داخل المجتمع الذي يشمئز من عجزه على التثبيت والتحديد. إذن، كنتُ متوقِّعا، لأنِّي حدستُ نهاية الصحافة، النقد الأدبي، حسنا يا إلهي، لم يعد هناك وجود للصحافة الورقية، نظرا لتوقف الأفراد عن القراءة أو بكيفية محدودة جدا، فقد تراجعت تماما، أمام ما ما تزخر به حاليا شبكات الأنترنيت، اللوائح الاليكترونية، إلخ. أيضا، لم يكن بوسعي الاستمرار في خضمِّ الرقابة الصارمة التي كنتُ أكثر فأكثر موضوعا لها، سواء من جهة الوسط الأدبي البورجوازي الصغير لـ”اليسار”، لو عجزتُ عن امتلاك قدرة تحريك الدُّمى، مما يتطلَّب وسائل الإعلام. هنا، أمكنني القيام بذلك ثم إعادة القيام به،وصدِّقني بأنَّ الوضع لاءمني جدا: ليس بالضرورة الحديث مع النقاد الأدبيين، بالتالي التفكير في برامج أخرى من عيِّنة البرنامج الأثيري ”لازلنا مستيقظين” ليان يارتيس، فأبادر إلى القيام بكل شيء، لكن لااهتمام يذكر. متعب الأمر قليلا، أعود إلى المنزل، وأنام ثم استيقظ صبيحة اليوم التالي كي أواصل كتابة ما انتهيت عنده. هكذا، تسير وتيرة يومياتي.
س – طيب، السؤال الأخير، عبارة عن مقطع مأخوذ من كتابكَ الأخير، عبارات مذهلة حول تاريخ صلاحية الطليعيين، وبما أنَّكَ تمثِّل في نهاية المطاف طليعيا خلال نهاية الطليعيين، يمكن تعريفكَ تاريخيا. حسب منظور معين، أديتَ الثمن من خلال اتهامكَ بأنَّكَ حَفَّار قبور الطليعة الأدبية (أستحضر بهذا الخصوص مجلتي” TXT”، و”الأدب العام”). عموما، أستشهد بالمقطع الذي كتبته، لأنَّها تأملات مثالية بخصوص ماحدث: ”مع ذلك، فالاكتشاف الذي تطوَّر بكيفية مضمرة،وأخبر عنه فرويد، أنَّ الماضي قد صار حاليا مستقبلا.ليس الماضي الخطِّي الذي يرويه المؤرِّخون والمدرسة، لكنه ماضي انفجاري، حيث أدركنا بالكاد تفكيك شفرة الحمض النووي، ويمثل سلفا القرن الواحد والعشرين، بين طيات حاضر وراثي حاضر بشكل كبير، علاجا لإزالة السموم قاسية، تظهر معها مختلف خصوصيات الماضي وماقبل التاريخ غاية أيامنا. تنتظرنا فقط مفاجآت!كم رائعة هذه الموسوعية!”.
ج-صحيح. إنَّها عملية الفرز. نعيش حقبة الفرز ”الساعة الجديدة على الأقل صارمة جدا ”، إنَّه الفرز وبالتالي مثلما قلت لانعرف قط من هو ”حفَّار القبور”. ولكي يتحقق أمر من هذا القبيل، يلزم وجود جثة.
س – حسنا، أظنها كلمة الخاتمة.
ج – فلتكن مثلما أريد ذلك جدا”حفَّار قبور النخب”. هل تذكر حوار حفَّاري القبور في مسرحية هاملت؟
س – حقيقة، لا.
ج- كم هو رائع. بل في غاية الروعة ”إنها أقدم مهنة في العالم”، يقول أحد المتحاورين ”إنَّها مهنة آدم” (قهقهات).
مرجع الحوار:
L ‘ infini : numéro 144.Printemps 2019.
(1)عنوان الفيلم: in Girum Imus Nocte et cosumimur igni