محمد بودية: زمن الشهادة…
جورج الراسي
نحن في أوائل صيف العام 1973. رن جرس الهاتف في منزلي في جبل لبنان. على الخط صديق عزيز مناضل في أحد التنظيمات، يسألني :
– جورج نحن بحاجة إلى خدمة …
– تفضل..
– لدينا “رفيق” نسعى إلى تدبير سفره خارج لبنان.. ونحن بحاجة إلى مكان آمن يأوي إليه… هل تستطيع استضافته عندك مدة يومين أو ثلاثة…
– أكيد… آتوا به متى تشاؤون… ما اسمه؟
– أبو عمر …
بالفعل، في صباح اليوم التالي أوصلت سيارة “الرفيق أبو عمر” إلى باب منزلي. شاب ثلاثيني، بهي الطلعة والطلة، أنيق، مهذب… استقبلته وأطلعته على مكونات الدار… ثم سلمته المفاتيح، وقلت له: – تصرف على سجيتك.. فمتى رتبوا أمر سفرك أخبرني…
تركت له مؤونة بضعة أيام وانصرفت إلى بيت أهلي، الذين قلما كانت تسمح لي الفرصة لزيارتهم..
لم أسأله لا ما هو اسمه، ولا ما هي جنسيته، ولا من أين هو آت، ولا إلى أين هو ذاهب…
وبالفعل، بعد انقضاء يومين، عاود الصديق الاتصال بي ليشكرني، ويقول لي إن الأمور “ترتبت” ويمكن لأبو عمر أن يغادر…
مررت لاستعادة المفاتيح واستودعته الله، متمنيا له رحلة موفقة… لا أعرف إلى أين…
أبو عمر.. محمد بن منصور…
عشر سنوات مرت. ربما أكثر… نسيت الموضوع كلية… العالم من حولنا انقلب رأسا على عقب.. لم يكن الجمر تحت الرماد… بل فوقه.. حرب تشرين مرت من هنا… وتدفق الفلسطينيون على لبنان، بخاصة بعد اتفاق العام 1969، الذي سمح لهم بالتمركز شرعيا في “فتح لاند”... وانفجر لبنان عام 1975، وتشتت الأحباب كل في طريق…
وانتهى بي الأمر في باريس، في أواسط الثمانينيات رأيتني أصدر مجلة أسميتها “الحوار”، لاقت نجاحا سريعا، وأصبحنا نطبع كميات ضخمة بالنظر إلى إمكانياتنا المتواضعة جدا. فقلت من الأفضل أن نؤسس لطبعات محلية في بعض العواصم العربية، تخفيفا لمصاريف الطباعة والشحن… ومن بين تلك العواصم: الجزائر.
سافرت لاستطلاع الأمر، فقال لي الأصدقاء هناك أن مطبعة واحدة قادرة على القيام بهذا العمل، وهي الـ ENAG، والمقصود Entreprise Nationale Des Arts Graphique، بما معناه (المؤسسة الوطنية للفنون الطباعية)، إذ جرت العادة في الجزائر أن يتم تعريف المؤسسات بالأحرف الأولى من اسمها اللاتيني.
أخذوا لي موعدا مع المدير العام للمؤسسة التي تقع على أطراف العاصمة، في ضاحية تدعى “رغاية”، على أن أناقش الأمر معه، فهو وحده من يستطيع أن يفيدني.
وبالفعل جاءني السائق في صباح اليوم التالي، لكي يأخذني إلى موعدي مع المدير العام.
كان “المدير العام” يعرف أنني آت للاجتماع به… أما أنا فلم أكن أعلم من هو “المدير العام”؟
وصلت إلى باب المؤسسة، لكي أقع على مفاجأة ما كانت لتخطر لي على بال.. المدير العام الذي ينتظرني على باب المؤسسة هو “أبو عمر”… ضيف الأيام الثلاثة، قبل أكثر من عشرة أعوام… عرفت للمرة الأولى اسمه وجنسيته: إنه محمد بن منصور..!
عانقني محمد… لم نتكلم كثيرا… أخذني من يدي إلى مكتبه، وضع ورقة بيضاء وقلما أمامي، وقال لي: “لا تقل شيئا… اكتب ماذا تريد…”!
لقد أبكيتني في ذلك اليوم يا محمد…
بعد عودته إلى الجزائر، وقبل تعيينه على رأس تلك المؤسسة الضخمة، لعب محمد دورا نضاليا في بدايات “العشرية الحمراء”، إذ كان أحد مؤسسي “المجلس الوطني للحفاظ على الجزائر ” Conseil national pour la sauvegarde de l’ Algérie ،(CNSA)، الذي جرى تأسيسه غداة الدورة الأولى من تشريعيات شهر ديسمبر / كانون الأول عام 1991، كما أنه كان عضوا في “المجلس الاستشاري الوطني” Conseil consultatif national (C C N .
لعب فيما بعد دورا قياديا في “الاتحاد الوطني للمقاولين العموميين ” L’ Union nationale des entrepreneurs publics ، قبل أن يقعده ذلك المرض العضال ويسلم الروح في أحد مستشفيات مدينة مرسيليا، في 3 – 2 – 1998، ويدفن في اليوم التالي في مسقط رأسه مدينة تلمسان غرب الجزائر.
محمد بودية.. مسكون بالمسرح…
لماذا أحكي لكم قصتي مع محمد بن منصور، وأغلب الظن أن كثيرين لم يعرفوه جيدا، لأنه في مثل هذا اليوم، منذ نصف قرن بالتمام والكمال، وفي 28 حزيران / جوان 1973، وفي مثل هذه الساعة التي أكتب فيها 10 و 45 دقيقة، سالت دماء بطل من أبطال هذه الأمة، محمد بودية، بتفجير قنبلة كانت مزروعة تحت مقعد القيادة في سيارة الرونو R 16 التي يملكها… في تكرار شبه حرفي لما جرى مع رفيق نضاله غسان كنفاني قبل سنة في بيروت…
وعندما لجأ محمد بن منصور إلى لبنان، فلأنه كان في خلية بودية، وعلى قائمة التصفيات…
عندما اغتيل بودية كان في الواحدة والأربعين من العمر (من مواليد 24 – 2 – 1932 في حي باب الجديد – القصبة العليا – على مقربة من قصر الباي..).
دخل السجن للمرة الأولى يافعا لخلاف على الأجر مع رب العمل الفرنسي، الذي كان يستخدمه. انضم في شبابه إلى جمعية “الكشاف المسلم”، وبعد اندلاع الثورة عام 1954 انضم إلى “فدرالية فرنسا” التابعة لجبهة التحرير الوطني. وقد أوفدته الجبهة إلى مدينة مرسيليا للقيام بعملية تخريب ضد المنشآت النفطية، وكان على رأس وحدة كومندوس عرفت باسم ” الخاصة ” La Spéciale..
عام 1958، أوقفه البوليس الفرنسي وحكم عليه بالسجن 20 عاما، وتنقل بين مختلف السجون الفرنسية، Fresnes – la Santé – les Beaumettes – Angers.. وكان يستفيد من هذه المناقلات كلها لشحذ همم المساجين الجزائريين ورفع معنوياتهم بلعب بعض المسرحيات أمامهم..
عام 1961، استطاع الفرار من سجن Angers وتوجه إلى بلجيكا، ثم إلى سويسرا، حيث استطاع التواصل مع دار نشر مساندة لحركات التحرير اسمها La Cité ومتواجدة في Lausanne، نشرت له عملين مسرحيين، هما: “ولادات” – Naissance، و “الزيتون، ” L ‘ Olivier، التي تحكي قصة تمسك شاب بزيتونة بلده…
التحق من ثم بقيادة جبهة التحرير في تونس، حيث أخذ على عاتقه الاهتمام بفرقة مسرحية، إذ كان المسرح عشقه الكبير منذ مطلع شبابه… وما أن حصلت الجزائر على استقلالها عام 1962 حتى تولى في العام التالي، إدارة “المسرح الوطني الجزائري”، وأصدر المجلة الثقافية Novembre.
لكن هذه التجربة لم تدم طويلا، ذلك أن انقلاب هواري بومدين في حزيران / جوان 1965، على الرئيس أحمد بن بله أعاد خلط الأوراق، إذ أن بودية كان محسوبا على بن بله، مما جعله يأخذ طريق السجن مجددا…
إلا ان بومدين ما لبث أن أطلق سراحه، بفعل ارتباطه الجديد بالثورة الفلسطينية… فانتقل إلى فرنسا، حيث ركز اهتمامه على “مسرح الغرب الباريسي ” Théâtre de l’ Ouest في ضاحية Boulogne- Billancourt.
وفي باريس، جمعه الفن مع مغنيين مغربيين أصغر منه سنا، سيكون لهما شأن كبير فيما بعد، هما بوجمعة احكور (المشهور باسم بوجميع)، والعربي باطما، اللذين سيكونان لاحقا العنصران الرئيسيان في تأسيس فرقة “ناس الغيوان” .
لكن سوسة السياسة لم تفارقه أبدا، فأسس تنظيما جديدا أسماه “جبهة التحرير الوطني السرية / التجمع الوحدوي للثوريين Front de Libération National – Clandestin / Rassemblement Unitaire des Révolutionnaires ، الذي أخذ توجها وطنيا- ماركسيا. وأصدر نشرة أطلق عليها اسم “الميثاق ” La Charte تيمنا بميثاق جبهة التحرير المعلن عام 1964..
لكن عشقه الجديد كان اسمه.. فلسطين…
أيلول الأسود… ووديع حداد …
لكن ” أيلول الأسود” كان قد مر من هنا… والمقصود شهر أيلول/ سبتمبر 1970، حين جرى الصدام الكبير في الأردن بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية، مما انتهى بخروجها من المملكة… وتولد عن هذه التجربة تنظيم فلسطيني جديد أطلق على نفسه “أيلول الأسود”. وقد حاول جمال عبد الناصر حينها رأب الصدع بالدعوة إلى قمة عربية في القاهرة، وقد بذل جهدا كلفه حياته، إذ توفي على إتلك القمة…
وقد جاءت تلك الأحداث بعد ثلاثة أعوام على كارثة حرب 5 حزيران / يونيو 1967، مما جعل الفلسطينيين يأخذون على عاتقهم مهمة التذكير بقضيتهم، كما هم فاعلون اليوم.
لم يفكر بودية كثيرا بالطريق الجديد الذي سيسلكه، بخاصة بعد لقائه مع وديع حداد في كوبا، فأصبح قائد العمليات الخاصة للجبهة الشعبية في أوروبا تحت اسم “أبو ضياء”…
وديع حداد “أبو هاني” من مواليد صفد عام 1927، كان الرأس المنظم لمعظم العمليات الفدائية في “الخارج” وفي أوروبا على وجه الخصوص، وكان ارتباطه وثيقا مع بودية ومع كارلوس، ولو أن علاقة وديع حداد مع هذا الأخير توترت في أعقاب حادثة فيينا (احتجاز وزراء نفط أوبك)، فيما كان بودية قد أقدم على تنفيذ عمليات عديدة في عدة دول أوروبية.
أما “أبو هاني” فقد توفي في أحد مستشفيات ألمانيا الشرقية، في برلين في 28 – 3 – 1978.
وفي 5-6 أيلول/ سبتمبر من عام 1972 حصلت حادثة هزت العالم، عندما أقدمت منظمة “أيلول الأسود” على احتجاز الفريق الرياضي الإسرائيلي المشارك بالألعاب الأولمبية في ميونخ بألمانيا (الغربية حينها)، للمقايضة على إطلاق سراح مئات السجناء الفلسطينيين وبعض الثوريين الألمان المناصرين للحق الفلسطيني. وانتهت المحاولة كما هو معروف بمقتل 11 رياضيا إسرئيليا وخمسة من عناصر الكومندوس وشرطي ألماني…
لائحة غولدا….
بعد عملية ميونخ تسرب ما عرف “بلائحة غولدا” لاغتيال كافة المتورطين بالعمليات الخارجية، أو مجرد المناصرين للقضية الفلسطينية أينما وجدوا…
أبرز ضحايا تلك الحملة التي امتدت على سنوات، كان علي حسن سلامة “أبو حسن”، الذي كان قد أوفده أحد قادة فتح “أبو إياد” – صلاح خلف” إلى القاهرة لكي يتلقى تدريبه، وأصبح فيما بعد على رأس الأجهزة الأمنية التابعة لفتح، والمسؤول عن آمن عرفات. وقد تزوج ملكة جمال الكون لعام 1971 اللبنانية جورجينا رزق. ولم يخف على المخابرات الإسرائيلية أنه العقل المخطط لعملية ميونيخ، وأن بودية كان ضالعا معه. وهو من مواليد مدينة اللد في فلسطين عام 1940. وقد تم اغتياله في بيروت في 22 – 1 – 1979 عن عمر 39 عاما…
وقد رثاه حينها أبو عمار بقوله: “عرفت كيف تحميني لكنك لم تعرف كيف تحمي نفسك”..
وكانت سبحة التصفيات قد طالت الكثيرين من الكوادر الفلسطينية:
-عبد الوائل زعيتر (المستشار في سفارة ليبيا) في روما في 16 تشرين الأول/أكتوبر عام 1972
– محمود الهمشري في باريس في 8 كانون الأول/ ديسمبر 1972، rue d’ Alésia بتفخيخ هاتفه ( توفي فيما بعد في 9 كانون الثاني/يناير 1973)
– باسل الكبيسي في 6 نيسان/ ابريل 1973 ، rue chauveau – Lagarde
– حسين البشير في 10 كانون الثاني /يناير 1973…
وغيرهم … وبالطبع محمد بودية في 28 حزيران / يونيو 1973… تلك هي السكين التي كانت تلاحق محمد بن منصور … في زمن الشهادة…