حين انتصر موسيقيٌّ على نفسه فحجَّ بنا إلى عالمٍ آخر
نضال آل رشي
يُعتبر سيرجي رخمانينوف (1873-1943) أحد أعظم الملحنين وعازفي البيانو في التاريخ، جمع بأسلوبه الفريد بين الرومانسية الروسية الأصيلة والتقنيات الموسيقية الغربية الحديثة فأعاد تعريف الكونشرتو للبيانو وقدّم أسلوباً جديداً ومبتكراً في التفاعل بينه وبين الأوركسترا مستخدماً تقنيات موسيقية في الكونشرتو الثاني والثالث أثرت بشكل كبير على تطور العزف على البيانو، وأصبحت معيارًا قياسياً للعازفين في جميع أنحاء العالم.
كونشيرتو رقم ( 1 ) الفشل والانهيار
يتألف الكونشرتو الأول للبيانو (Op. 1) من ثلاث حركات وكان بدأ بكتابته في سن 18 عام 1891 وأكمله في عام 1892 حيث عرض للمرة الأولى ولم يتمكن من جذب انتباه النقاد أو الجمهور وتركز النقد على عدم النضج الفني والافتقار إلى التماسك في الهيكل الموسيقي.
بعد انتهاء العرض استسلم رخمانينوف لاكتئابٍ شديد فتدهورت حالته النفسية والصحية وتوقف عن التأليف لفترة ناهزت الثماني سنوات عاش فيها عزلةً تامة عن محيطه والمجتمع الموسيقي.
كونشيرتو رقم ( 2 ) العودة والانتصار
في العام 1900 في عزلته التامة كانت نغمات البيانو وحدها تملأ الغرفة وتملأ رخمانينوف بالأمل مجددًا. فبعد طول انقطاع بدأ يؤلف حكايةً عن الهزيمة والرغبة بالنهوض وأنَّ الإخفاق ليس نهاية الطريق، بل بداية لمرحلة جديدة من النضج الفني.
يعود الفضل في هذا التعافي إلى الطبيب النفسي نيكولاي دال، الذي استخدم العلاج بالتنويم المغناطيسي لمساعدة الملحن على استعادة ثقته بنفسه فقام بتأليف الكونشرتو الثاني للبيانو بين عامي 1900 و1901 ويُعد أبرز أعمال رخمانينوف وأكثرها شهرة وتأثيراً وأعاده إلى الساحة الموسيقية بقوة.
البنية الموسيقية للكونشرتو الثاني
يتألف هذا الكونشرتو من ثلاث حركات، كل منها تعكس براعة رخمانينوف في المزج بين اللحن العاطفي والتقنية العالية:
الحركة الأولى (موديراتو):
تبدأ بمقطوعة جذابة تتميز بتبادل ديناميكي معقد بين البيانو والأوركسترا يعكس الصراع الداخلي للملحن، اكتئابه وتوتره العاطفي.
الحركة الثانية (أداجيو سيستونيتو):
تُعد واحدة من أكثر الحركات الموسيقية روعة ورومانسية، حيث يبرز البيانو بأداء حساس ولحن شاعري يحاكي النجوى والتأملات الداخلية.
الحركة الثالثة (أليغرو شيرزاندو):
تنتهي بمزيج من الحيوية والطاقة، مما يعكس عودة رخمانينوف إلى الحياة بثقةٍ مجدداً.
توالت السنين ليؤلف بعدها رخمانينوف الكونشرتو الثالث والذي يعتبر من أكثر الأعمال تحدياً في تاريخ البيانو في الموسيقى الكلاسيكية ومع هذا بقي الكونشرتو الثاني الأكثر جماهيريةً وجماليةً ليذكرنا بأنه ليس مجرّد عمل موسيقي، بل قصة انتصار على اليأس وملحمةٌ عن النهوض استطاع من خلاله رخمانينوف أن يترك بصمةً لا تُمحى في تاريخ الموسيقى العالمية، مؤكدًا على أن الفن يمكن أن يكون مصدراً للشفاء ونوراً في أحلك اللحظات وتذكرة سفرٍ مجانية إلى عالمٍ آخر.