إشكالية الحرية.. مختصر تاريخ الحرية في الفلسفة

إشكالية الحرية.. مختصر تاريخ الحرية في الفلسفة

محمد فرَّاح

    هل نحن أحرار؟

إن الإجابة عن هذا السؤال بنعم، هو بمثابة جواب/دليل قوي على أنك -صاحب الجواب- حُرٌّ فعلاً.

لكن قبل التسرع في الإجابة، لنقف وقفة تأملٍ في حقيقة هذا الجواب المتسرع بـ “نعم”، ألا توجد كثير اللحظات التي يشعر من خلالها المرء بأنه حرٌّ فعلاً، ويريد أن يفعل ما يشاء أو يقول ما يريد، أو يقوم بشيء معين، فيتوقف لوهلة، من أجل التفكير في الحواجز والعوائق والموانع والعقبات والحرمان أو الاحتياج الذي يعاني منه، أو حتى الواجبات التي تنتظرها الأسرة والمجتمع معها منه؟

حتى أننا أصبحنا نفكر في حرية التعبير وقول كل ما نريد، لأن المرء يتعرض في الكثير من الأحيان، إلى القمع والضجر، لأنه يشعر بفقدانه البطيء لحريته في أن يفعل ما يريد، ويقول ما يشاء ومتى ما يشاء بدون حسيب ولا رقيب.

لكن سلطة الآخر تمارس عليه نوعاً من الإكراه والإلزام والمنع، فالآخر يتحول بالنسبة إليه إلى جحيم بعبارة سارتر، بعد أن كان نعيماً، لأنه يُغِلُّهُ ويسجنه ويحد من حريته.

فيشعر أنذاك هذا الكائن الحر أنه يلعب دوراً في مسرحية، ويتفهم أن الوجود يفرض عليه الضرورة بالقوة، لدرجة أن المرض يشكل بالنسبة إليه تقييدا وتقويضا وسجنا لنشاطه وحيويته الفعالة.

كما أن هذا الكائن الهش الحر، يكتشف فجأة عندما يقارن نفسه أو جسمه بجسم رياضي مثلا، يتبين له مدى ضعفه وفتوره وانكماشه، فتنتهي تصوراته للحرية، ويعي تدريجيا هذه الإحباطات المتكررة.

لكن عندما نعود إلى سؤال ما الحرية؟ فإن جواب الفيلسوف الألماني ليبنتز هو أن “لفظ الحرية لفظ جد ملتبس، فهو يعني، من جهة، الحق في الحرية، كما يعني، من جهة ثانية، الحرية الفعلية أو الممارسة.”

هل الحرية حق إنساني فعلاً؟ وهل الإنسان كائن حر بالطبيعة؟

إذا عدنا إلى تاريخ الفلسفة، فهو لا يحقق لنا شرط الحرية حق إنساني، لأن للعبودية تاريخ متأصل في الطبيعة الإنسانية، حيث لا نتحدث عن تاريخ للحرية بل تاريخ للعبودية.

في اليونان مثلاً، كانت الحرية رهينة بالممارسة السياسية، وكان العبيد محرومين من المشاركة السياسية لأنهم يفتقدون للحرية.

كما ارتبطت الحرية مع الأبيقورية باللذة، ومع الرواقية بالانسجام وقوانين الطبيعة.

أما مقولة أوغسطين المأثورة: “يمكن أن نكون عبيدا في العالم، ومع ذلك نكون أحراراً” تشكل مقولة العصر الوسيط.

أما في ثقافتنا العربية الإسلامية، فكثيراً ما نتساءل هل نحن مخيرين أم مسيرين؟ لهذا تحول التفكير في الحرية، إلى تفكير في صلة وعلاقة الفعل الإنساني بما هو فعل قد يكون فعل اختيار أم فعل تسيير وتقدير بالفعل الإلهي، ومن ثم هل حريتنا موصول بالإله عن طريق القضاء والقدر، أم مقطوعة مع الإله، وبالتالي الله لا دخل له في تصرفاتنا وأفعالنا وسلوكاتنا وتصرفاتنا وممارساتنا عموماً.

لكن مع كل من روسو وكانط، أصبحنا نتحدث عن علاقة الحرية بالإرادة الخيرة أو الشريرة، وطرح سؤال هل الإنسان مريد حر أم حر مريد؟

لهذا أقصى كل من كانط وشوبنهاور البعد الحسي-الغريزي الذي يقوم على الرغبة، من مجال الفعل الإنساني.

لكن اسبينوزا اعتبر أن الإنسان كائن راغب، وبالتالي فهو كائن حر بالضرورة.

لكن مع الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر، أصبحت الحرية شرطا إنسانيا، ورفض رفضا قاطعا، فكرة الحتميات الطبيعية والسيكولوجية والاجتماعية والثقافية والدينية والفكرية والإيديولوجية، إنها عوامل ليست ضروريات حتمية، بل عرضية متغيرة لا جوهرية ثابتة، يمكن أن تحدث أو لا تحدث، فالحرية الإنسانية تتجاوزها بكل سهولة.

لكن لو كان الأمر هكذا لما تحدثنا عن القانون والتشريع اللذان يشرعان وينظمان حياة الأفراد داخل المجتمع، لهذا فلا وجود لحرية بدون قوانين ولا يمكن أن توجد، فالإنسان يشعر بحريته الحقيقية لكن داخل العلاقات الإنسانية والاجتماعية والثقافية التي تحكمها وتؤطرها القوانين والتعاقدات، فالحرية هي ما يسمح لنا القانون بالقيام به داخل المجتمع.

لكن بالنسبة لدوركهايم وهو بالمناسبة سوسيولوجي فرنسي يؤمن بألوهية الظاهرة الاجتماعية، وقهرها الممارس على الأفراد، اعتبر أن “كلمة الحرية وعدم النظام متنافران”، فالحرية بالنسبة له تعني النظام ولا شيء غير النظام.

لهذا أشادت المنظرة السياسية حنة آرندت بهذا الموقف، ودافعت عن فكرة أن الإنسان يعي حريته جيداً، عندما يمارسها بشكل ملموس داخل المجتمع، في ضوء علاقاته بالآخرين، داخل مجالات عمومية محددة بدقة، فيتحرك أنذاك بشكل حر وآمن داخل ذلك المجال العمومي، وحتى عندما يعبر هذا الكائن الحر عن رأيه ومنظوره الشخصي، يعبر عنه بشكل حر وآمن، هذه إذن هي الحرية التحرر الحقيقين.

لكن الحديث عن تحرر المرء يجرنا إلى التساؤل عن تحرره من الغرائز والرغبات والنزعات  والشهوات والأفعال والانفعالات والنزوات والميولات والدوافع لأن أثناء التحرر منها يستطيع العيش وفق نظام العقل والطبيعة .

هناك بالفعل حرية داخلية كامنة في جميع الأفراد، هذه الحرية متعلقة بالضمير الداخلي لهم، ويمكن أن نشير إليها بالضمير الأخلاقي والقيمي أو الأنا الأعلى الفرويدي، هذا الأخير هو بمثابة سلطة أخلاقية عليا تمارس على الفرد.

لهذا فإشكالية الحرية هي إشكالية متعلقة بثنائية الجبر والاختيار، لهذا طرح سؤال هل الإنسان مجبر بالقيام بأفعال معينة أم مخير للقيام بها؟ والذي يذكرنا بالنقاش والسجال الذي أثير في السياق العربي الإسلامي بين فرقتين كلاميتين يندرجان ضمن مبحث علم الكلام الإسلامي، فبينما اعتبرت الجبرية أن الإنسان مجبر على القيام بالعديد من الأفعال رغما منه، رأت فرقة المعتزلة العكس، والتي قالت بحرية الأفراد للقيام بما يشاؤون، كما حاولت فرقة الأشاعرة بالجمع بين الموظفين واعتبرت الإنسان مجبر وبخير معا، وهو ما أشهر في نظريات علم الكلام بنظرية الكسب.

من هنا نقول إن الإنسان له كامل القدرات في القيام بالفعل، وقد يكون هذا الفعل خيرا يخدم مصلحة جميع الأفراد، وقد يكون فعلا شريرا يكسر وحدة الأفراد.

وتتجلى الحرية إذن في قدرة المرء على الفعل، بغض النظر عن فعله، إن كان خيرا شكرناه، وإن كان شرا نبهناه.

إن الإنسان في حقيقة الأمر لا يحتاج إلى كتاب أو موسوعة في الأخلاق والقيم ليعرف هل ذلك الفعل الذي يقوم به خير أو شرير، فقط يحتاج الأمر القليل من التبصر والتدبر في الفعل الإنساني لنصل إلى حقيقته.

كما لاحظنا إذن يطرح التفكير في إشكالية الحرية عبر تاريخ الفلسفة العديد من الرهانات والأبعاد الفكرية والأخلاقية والقانون والسياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والإيديولوجية… إلى آخره. لكن الحرية في الحقيقة، تشكل قيمة عليا يطمح إليها كل إنسان. ولا يمكننا أن نعيش بدون حرية، كما لا يمكننا أن نعيش في الحرية المطلقة، فما نحتاجه هو الحرية النسبية، أو الحرية في حدود وشروط القانون.

_______________________________________________

للتعرف على إشكالية الحرية لدى ليبنتز أنظر:

Gottfried Withelm Libniz, Nouveaux essais sur l’entendement humain, partie 8, Bulletin de Jacques Brunswick, Flammarion, Paris, 1999, p.  137.

للتعرف على إشكالية الحرية لدى كانط أنظر:

إمانويل كانط، أسس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة محمد فتحي الشنيطي، دار النهضة العربية، لبنان، 1970، ص: 160-165.

للتعرف على إشكالية الحرية لدى مونتيسكيو أنظر:

Montesquien, L’Esprit des lois, Club du livre français, 1968, p.184-186.

للتعرف على إشكالية الحرية لدى حنة آرندت أنظر:

Hannah Arendt, La crise de la culture, traduit par : B.  Lévy et A.  Faure, Gallimard, 1972, p.196-189.

للتعرف على إشكالية الحرية في السياق العربي الإسلامي أنظر:

أبو الوليد بن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، الطبعة الثانية، 2001، ص: 188-190.

Visited 36 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمد فرَّاح

حاصل على شهادة الإجازة في التربية تخصص التعليم الثانوي التأهيلي-الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة بالرباط