النقد الأدبي وجوهرية التحليل النصي

النقد الأدبي وجوهرية التحليل النصي

الصادق بنعلال:

“أبرزت التجارب النقدية العميقة أن التحليل هو محك كل ادعاء نقدي، على أساس أن يكون التحليل مقنعا ومنسجما”، محمد أنقار.

الأدب وتعميق الوعي الإنساني:

    شهد النقد الأدبي العربي في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين صحوة بالغة الأهمية، بفضل انفتاح الدارسين والمعنيين بمقاربة المعطى الأدبي على الفكر النقدي العالمي، ونجاحهم في أكثر من محطة في التوفيق الإيجابي بين ما يزخر به تراثنا الأدبي من رؤى نقدية راجحة وبين اجتهادات إنسانية معاصرة، توخت الانتقال بالمنجز النقدي من وضعية التناول العفوي وربما الذاتي إلى وضعية النزعة العلمية العقلانية، وفي هذا السياق هيمنت في هذين العقدين الساخنين تيارات نقدية رامت ملامسة نصية العمل الأدبي ”داخليا”، وذلك بالانطلاق من ”قناعة” مفادها أن العمل الأدبي شعرا أو سردا أو مسرحا يكفي ذاته بذاته، وبالتالي فإن مهمة النقد الأدبي تنحصر في الغالب في استجلاء ”أدبية الأدب”، أي المكونات الأدبية الثابتة في النصوص الإبداعية، ابتداء من مساهمة الشكلانيين الروس، مرورا بالجماعات النقدية البنيوية والنزعات السيميائية والتفكيكية…

    ولئن كانت مختلف هذه الجهود المعرفية قد استقرأت جل الآليات المتحكمة في التكوين والتكون الأدبي الداخلي وبشكل يثير الإعجاب، إلا أنها ظلت دون مستوى تطلعات النقد الأدبي بحصر المعنى، ذلك النقد الذي لا يقبل الاقتصار على إعادة بناء جزئيات النصوص والدوران في محراب هيكلها الثابت، بقدر ما يروم محاورة الإبداع الأدبي لتعميق الوعي البشري بوجود الإنسان والعالم المحيط به. ولعل الناقد المغربي محمد أنقار (1946 – 2018) من النقاد العرب القلائل الذين كانوا مدركين لمخاطر المواكبة غير المحكمة للمناهج النقدية الحديثة، والمبالغة في القراءة المبتسرة للإنتاج الأدبي.

بلاغة النص الأدبي إشكال مخصوص:

    في هذا السياق، خاض الأديب والناقد محمد أنقار غمار المعاينة النقدية من زاوية مخالفة بشكل نوعي لما زخرت به الساحة الأدبية، من مساءلات نقدية نمطية عبر اجتراح مفاهيم، ومصطلحات، وإطار مرجعي محكم البناء، صادر عن قناعة محورية مؤداها أن أي مقاربة لعمل أدبي لا يمكن أن تندرج في سياق النقد الأدبي إلا إذا استجلت كنه النصي واستكنهت بنياته الأسلوبية المخصوصة وسياقه النوعي.

    ففي مؤلفه النقدي الأول “بناء الصورة في الرواية الاستعمارية”، طرح تصورا راجحا ونادرا تمثل في الدعوة إلى أولوية إغناء النقد الأدبي بأدوات وآليات تحليلية أقرب إلى لحمة النصوص الأدبية وسداها، على رأسها عنصر الصورة الروائية، حيث اعتبرها وسيلة فنية مسعفة على الغوص في ثنايا البنية اللغوية – الدلالية للعمل السردي، والقطع مع “القناعات” المفضلة للصور الشعرية لطابعها الانزياحي الوارف، ليبرز بما لا يدع مجالا للشك أن الصورة السردية المحبكة لا تخلو من جمالية وتوتر درامي، شريطة استحضار خصائص الأنواع الأدبية وعدم السقوط في فخ المفاضلة “الأجناسية” غير اللازمة.

    وتوضيحا لهذه الخلفية النقدية الخصبة، يحيل الكاتب محمد أنقار في مؤلفه “بلاغة النص المسرحي” إلى أنه يفترض أن “تصبح بلاغة النص إشكالا مخصوصا، وتكون الحاجة ماسة إلى مبادئ أو معايير أو حدود مستمدة من الطبيعة التكوينية للنصوص المقروءة”، مما يعني من جملة ما يعني أنه لا مجال لفرض معايير نقدية مسبقة مهما بدا توهجها ولمع بريقها، على عمل أدبي زاخر بعلامات بلاغية متشابكة ومتساندة ومواقف إنسانية تستدعي الاستقراء النوعي والمساءلة المخصوصة.

الواقع الأدبي والإحالة الذاتية:

    وعلى الرغم من الاختلاف العريض بين رؤية الكاتب المجتهد محمد أنقار وبين عدد غير قليل من النقاد العرب المعاصرين، إلا أنه لم يتوان عن المطالبة بالتحاور الثقافي الرفيع وضرورة الاعتراف بالاختلافات الرؤيوية والمنهجية في حقل أدبي حافل بالتقاطبات و الاصطفافات الأيديولوجية والسياسية المتعارضة كليا مع الصوغ الأدبي الإنساني المنفتح، من أجل بناء جسر التقارب بين الاجتهادات المعرفية والنقدية تحديدا، وإغناء المنجز الثقافي العربي والعالمي. وفي هذا المضمار، أعلن بوضوح اختلافه مع نزعات نقد ما بعد الحداثة، على اعتبار أن هذا الأخير يميل نحو التحكم النقدي والسطوة المنهجية وعدم الاعتراف بالآراء الجمالية الأخرى، لأن النص يصبح عنده “الغاية والمنطلق والبداية والنهاية. أما الانسجام والتوافق والمشاركة الوجدانية بين الإبداع والقارئ فتظل غايات زائدة أو نشازا”. إنها دعوة صريحة إلى “الديمقراطية الثقافية” حيث لا مفاضلة بين جنس أدبي وآخر، ولا بين منهج نقدي وآخر إلا بالقراءة الفاحصة والناضجة للمتن المعروض، فالتحليل الملموس للنص الأدبي الملموس هو الكفيل بمعانقة دلالاته السياقية وشروطه الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية واستشراف مكوناته الداخلية وسماته النوعية.

Visited 16 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

الصّادق بنعلّال

إطار تربوي – باحث في قضايا الفكر والسياسة