في المسار السوسيولوجي لمحمد جسوس (1-2)

في المسار السوسيولوجي لمحمد جسوس (1-2)

عبد الكبير شكري

        يعتبر محمد جسوس، الرجل الزاهد في عمله الثقافي والسياسي، واحدا من الرواد المؤسسين لعلم الاجتماع في المغرب. قاد مشروعا فكريا طلائعيا، فضل أن يموقع نفسه فيه كأستاذ فقط، متمسكا بالفكرة القائلة بأن “التجربة بلا نظرية، عمياء، والنظرية بلا تجربة عرجاء”، لبناء مشروعه العلمي والسياسي.

 لقد كرس الراحل حياته للتدريس، بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات معرفية وأخلاقية، وظل منكبا على توجبه طلبته للاشتغال على اشكاليات سوسيولوجية تهم تحولات المجتمع المغربي. مع الحرص على أهمية الربط المنطقي والجدلي بين النظرية والبحث الميداني. علما أن الراحل لم يبخل يوما بوقته لطلبته وفتح باب منزله ومكتبته أمامهم.

لم يترك محمد جسوس أعمالا مكتوبة، تشهد له كما ينبغي على حجم عطاءاته واسهاماته الكبيرة في التأسيس للسوسيولوجيا المغربية، لكونه كما يقول هوعن نفسه، مصاب “بنوع من “الشلل” في الكتابة. فالجميع يشهد له على أنه يتيسر له القاء عرض شفوي في قضايا نظرية وسياسية شائكة بتسلسل منطقي منظم ومحكم، وبوثائر ونبرات مختلفة، أكثر من انتاج نص مكتوب على الورق. لقد كان الراحل، سواء في دروسه التي يلقيها في قاعة الدرس، أو في مناسبات ولقاءات فكرية، يسترسل في مناقشة قضايا فكرية واشكالات نظرية شائكة على المستوى الابستيمولوجي، بطريقة محبوكة وبلغة غنية ودقيقة يمزج فيها بين روافد ثقافة القرويين وثقافة الحس المشترك باللغة الاكاديمية العالمة. علما أن “خصومته” مع الكتابة على الورق، تماثلها “خصومته ” مع الرقن باستعمال الات الكتابة.

ولتقريب فكر واسهامات محمد جسوس في مجال تخصصه الى المهتمين، بادر العديد من الباحثين والمهتمين وطلبته بالمساهمة في هذا المبتغى، بجمع دروسه وعروضه ومداخلاته الفكرية لتوثيق رصيده العلمي ووضعه بين أيدي القراء. ندكر من بين تلك المبادرات، على سبيل المثال لا الحصر، مبادرة كل من ادريس بن سعيد، مصطفى محسن، نجيب الخدي واخرون.[1]

ومن أجل تحقيق نفس الغاية المشار اليها، بادر السوسيولوجي المغربي عمر بن عياش على اعداد وتنسيق كتاب (محمد جسوس من القرويين الى برينستون .. (سيرة ذاتية))[2]. وهو عمل صدر أخيرا ضمن منشورات الجمعية المغربية لعلم الاجتماع التي كان الراحل من بين مؤسسيها.

ضم هذا الإصدار بين دفتيه “حوار شفهي مطول، سبق أن أجراه معه الإعلامي الأستاذ عبد الكريم الأمراني، وتم نشره على حلقات في جريدة “الاحداث المغربية””[3]. وهي شهادات قيمة موزعة على 31 عنوانا فرعيا غطت بعضا من جوانب المسارات الحياتية والمعرفية الغنية لمحمد جسوس، مع فهرس المحتويات، وتقديم للكتاب وضعه الاستاذ محمد المرجان، بالإضافة الى كلمة شكر وتنويه باسم الجمعية المغربية لعلم الاجتماع من معد الكتاب الى كل من الأستاذ عبد الكريم الأمراني الذي أجري الحوار، وجريدة “الاحداث المغربية” التي أعطت الموافقة على إعادة نشره. وصدرت هذه الطبعة الأولى في شهر مارس 2024 عن مطبعة دار المناهل في 152 صفحة.

ونثمن عاليا هذا الصنف من الإصدارات التي تمنح للمهتمين بعلم الاجتماع وللقراء عموما، فرصة استحضار جزء من المسارات المعرفية للمفكرين المغاربة والاطلاع على مشاريعهم الثقافية الطلائعية في مناخ فكري اتسم أنداك بالصراع بين تيارات تمتلك خطابات متنافرة سواء باسم الدين والهوية أو باسم الحداثة المصاغة وفق تصورات وقوالب نظرية جاهزة.

ونتوخى من خلال هذه القراءة التركيبية، تسليط الضوء على محتويات هذا الإصدار، مع اغنائها بمعلومات ومعطيات وأفكار نستشفها من مسار الحياة الفكرية للراحل. خصوصا وأنه يقدم شهاداته بكثير من التفصيل المفيد الذي يمزج بين السرد والتحليل لحقائق وأحداث طبعت مسار حياته المدرسية والجامعية.

“الأنا” المخادع لأحد “الصلحاء الحداثيين”

    الحديث عن “الأنا”، في نظر محمد جسوس، لن يكون بالضرورة خطابا بريئا، فقد يكون حديثا عن جماعة، عن طبقة أو عن فئة اجتماعية. خصوصا وأن التنشئة الاجتماعية للفرد داخل المجتمع المغربي تتسم بالقمع، مما يؤدي الى حصول الأفراد على “حد أدنى من الاستقلال الذاتي، ومن الوعي بالذات، خاصة إذا نظرنا الى الاستقلال الذاتي باعتباره قيمة مجتمعية “. [4]

 ويضيف جسوس، ان الحديث عن السيرة الذاتية للأشخاص هو حديث عن المجتمع وعن بنياته، حديث عن القوى التي تتحكم في مآلات الأفراد والجماعات. حديث عن فرد يرتبط، في نظره، على المستويين العضوي والسيميولوجي بجماعة الانتماء، ليمتد ارتباطه من مستواه الميكروسوسيولوجي الى مستواه الماكروسوسيولوجي، مع خضوع ما يسميه “بالنحنوات” للتجاذب فيما بينها، بين التقليدية منها والجديدة.

ويلاحظ أن من بين “النحنوات” التي تؤثر على المثقف المغربي، كما هو الحال بالنسبة له، هناك ” العلاقة بأجهزة الدولة والسلطة، والعلاقة بمؤسسات مثل المدرسة، ومنها العلاقة بالحركة الوطنية، والعلاقة مع اليسار والمعارضة، والعلاقة مع الجامعة، ومع الحزب والنقابة.” [5]، لتصبح في نظره علاقة  الفرد بهذه الأطر المرجعية من مؤسسات وبنيات جماعية عوامل لتحديد “الأنا” الفردية، تلك الأنا التي يرى بأنها تذوب و تنمحي، ” كما الحال في البادية قديما؛ الشخص هو ابن عائلة وابن قبيلة، والقبيلة يمكن ان تنتقل الى مستوى الاحلاف القبلية، ولكنه ابن القبيلة بالأساس وهو بالتالي مرتبط بالعصبية القبلية…الخ” [6].  هكذا يستنتج جسوس أن الحديث عن الذات لأمر صعب في الثقافة العربية الإسلامية، لكونها تذوب في الجماعة وفي أطرها المرجعية. وهذه المفارقة بالنسبة له تستدعي الدراسة والتمحيص.

ومن خلال حديثه عن “قاع قاع فاس”، مكان ولادته، يرى جسوس أن المجالات الاجتماعية المغلقة في المدن التاريخية بالمغرب، تعمل بمنظوماتها الثقافية على تسريع عملية الادماج الاجتماعي وصهر هوية الافراد الثقافية، كما هو حال منظومة مدينة فاس القديمة خلال الحقبة الاستعمارية، حيث “ان مفهوم “الفاسي” لم يكن مفهوما جغرافيا، بقدر ما كان مفهوما ثقافيا” [7]

ومن خلال حديثه عن والديه، ومن تمة عن النظم الاجتماعية التقليدية التي تعطي للأب أسبقية في تشكيل هوية الفرد داخل المجتمع المغربي، تساهم ما سماه “بالأمومة الاجتماعية للأم” بشكل كبير في خلق التوازن لهوية الفرد داخل الأسر الكبيرة. بحيث يؤدي تعدد الصلات الاجتماعية بين أفرادها الى تقلص الاحتكار الابوي في نسج هوية الفرد، بفضل تمتين الرابط الاجتماعي لهذا الأخير بأفراد أسرة الأم.

أهمية كل من الرأسمالين الاجتماعي والثقافي في النجاح المدرسي

    كانت العائلة الممتدة الفاسية في مغرب ما قبل الاستقلال “تلعب دورا كبيرا في التنشئة الاجتماعية، وخاصة في الدفع بالأطفال، في حالتنا، [حالة أسرة الحاج محمد جسوس] للانفتاح على عالم المستعمر، وعلى العالم الغربي الذي كنا نكتشفه، خاصة مع الحرب العالمية الثانية التي أتذكر نهايتها..ومع بروز الحركة الوطنية المغربية”[8]

يتضح لنا جيدا، أن الأسر الممتدة في الوسط الحضري الفاسي، عملت على تيسير النجاح المدرسي لأبنائها بنشرها لقيم التنافس. والرهان على المدرسة هو أيضا رهان على الرفع من رأسمالها الرمزي ومن مكانتها الاجتماعية، في وسط تلعب فيه المنظومة الثقافية دورا مركزيا في نسج هوية الفرد الممثل للأسرة.

 ويسرد جسوس كيف يبدأ المسار المدرسي بالكتاب أو “المسيد” لحفظ القران، ثم الانتقال سواء الى القرويين أو الى الدراسة في مدارس الاعيان أوفي المدارس الحرة التي أنشأها بعض الوطنيين. علما ان بعضا من هذه المدارس الحرة كانت تحظى بعناية السلطان المغربي محمد الخامس. وكان التدريس يتم باللغة العربية باستعمال كتب مدرسية جلبت من المشرق العربي.

ونلاحظ كيف أن الثقافة المشرقية وفدت إلى المغرب حاملة معها المشاريع النهضوية لروادها بالتركيز على التعريب والعروبة والقومية والشورى السياسية، الخ.

 وبالعودة الى مدارس التعليم الحر، والى ما كانت توفره من فرص لتحقيق النجاح المدرسي والارتقاء الاجتماعي، يقول محمد جسوس: “كانت ثانوية مولاي ادريس، في تلك الفترة عالما قائما بذاته…كانت عالم الانفتاح على الحضارة الغربية بصفة عامة والفرنسية بخاصة، وعالم الانفتاح على الحركة الوطنية.” [9]

 هي حصص أريد بهما بناء الثقافة الوطنية ومواجهة ثقافة التغريب الاستعمارية. وشكل هذا النظام من التنشئة الاجتماعية موردا مهما لتدعيم رهانات الحركة الوطنية المغربية التي استعملت التعليم كواجهة للدفاع عن الهوية الوطنية، فاهتمت بهذا المشروع الى درجة ان اغلب رجال الحركة الوطنية درسوا في مختلف اسلاك التعليم بالمؤسسات الحرة، مثل مدرسة مولاي ادريس بفاس، مدارس محمد الخامس ومدارس جسوس بالرباط، مدرسة النهضة بسلا، مدرسة الفلاح بالبيضاء وغيرها من المؤسسات في مدن كمراكش و وجدة ومناطق مختلفة من المغرب.

درس محمد جسوس بثانوية مولاي ادريس التي التحق بها تلاميذ من مدن أخرى، خصوصا من تطوان و وجدة وتازة. وكان فكرة النجاح الاجتماعي تقوم على اساس الاستثمار في الرأسمال المدرسي الذي تحول الى مطلب أسري. يقول جسوس: “كانت النماذج التي تطرح علينا هي نماذج المثقف، الذي تكون ترقيته الاجتماعية ناتجة عن إنجازاته على المستوى الدراسي والمعرفي”. [10]

وان تعدد شبكة العرض المدرسي، مكن من نشر افكار المدرسين الوطنيين الذين كانت لهم صلة بالفكر السلفي المشرقي كفكر محمد عبده ورشيد رضا وغيرهم. كما كان الفكر السلفي المغربي كفكر عبد الواحد الفاسي وعبد الله الفاسي والشيخين ابي شعيب الدكالي ومحمد بن جعفر الكتاني يحتك بأفكار الحداثيين، أمثال المهدي بن بركة الذي تزعم في البداية الجناح المتشدد في حزب الاستقلال وقدم قراءة غير سلفية للوجود الفرنسي بالمغرب.

لقد كانت في نظرنا تلك الحقبة من طفولة محمد جسوس حقبة فارقة في مسار الافراد، فإما الاستفادة مما كانت توفره تلك المدارس الحرة، ببرامجها الفكرية والسياسية المواكبة لحاجيات المرحلة، من فرص للتأهيل لبلوغ دوائر النخب الوطنية، خصوصا بتلقينها تعليما يزاوج بين برامج المدارس القرآنية في الحصص الصباحية والمسائية وبرامج المدرسة الفرنسية خلال النهار، أو الالتحاق بعالم الحرف اليدوية التي يبدو في نظرنا أنه كان ملجأً لمن عشوا تجربة الفشل المدرسي أو ممن انحدروا من أسر لها رأسمال اجتماعي وثقافي أدنى و يحتل الفرد مراتب أدنى داخل المنظومة بحكم هويته الثقافية المتدنية.

وكما هو متعارف عليه، ساهمت القيادات الوطنية لمغرب ما قبل الاستقلال على الاستثمار في التنظيم التلاميذي، مما سمح لأغلب المتمدرسين الانفتاح على العالم السياسي، ومتابعة ما يجري في الساحة الوطنية والشرق الأوسط وفلسطين والنكبة، وهزيمة العرب في الحرب ومتابعة أحداث المغرب العربي.

كل هذه الاحداث واكبتها الأحزاب السياسية الوطنية كحزب الاستقلال والشورى والحزب الشيوعي، مما ساهم في انتشار أفكارها السياسية، وفتح الافاق لجيل كامل لمغرب بعيد الاستقلال من دخول المعترك السياسي بما فيهم محمد جسوس.

لقد قاد جسوس الشبيبة الاستقلالية لمدة سنتين من 1955 الى 1957.  وساعدته هذه التجربة في تسهيل وتيسير سفره الى كندا، بالاتصال و مقابلة ” في يوم واحد، خمسة وزراء (وهذه من الأشياء التي كانت متاحة وقتها، بالنسبة للمسؤول الحزبي) ..”[11]. كما عاش تجربة في مجال الصحافة، علما أن والده كان تاجرا صغيرا ضم الى تجارته بيع الصحف. ومكنته دروس الفلسفة التي تلقاها في الثانوي، من الانفتاح على الثقافة الغربية، خصوصا منها ثقافة الانوار، انضاف اليها ما وصله من ثقافة القرويين. يقول جسوس: “تعرفت قبل البكالوريا على جان جاك روسو، وعلى فولتير و سبينوزا وكانط وهيغل ..كما تعرفت على كبار الروائيين الفرنسيين…وتعرفت كذلك على كبار الروائيين في الولايات المتحدة” [12].

بالإضافة الى تلك المعطيات والموارد الثقافية وأهميتها الكبيرة في حياة الراحل جسوس، فان انتمائه الاجتماعي والرصيد الثقافي لأسرته له أهميته، فبالإضافة الى أهمية المدرسة في مخيال والديه، فبعضا من أعمامه وأخواله كانوا أنداك اما فقهاء، أو على صلة بكبار الفقهاء في القرويين. وله أفراد آخرين من جهة الأم على صلة كبيرة بالحركة الوطنية وبالعمل السياسي. دون أن ننسى وجود مؤسسة تيومليلين للرهبان التي شكلت له جسرا للدراسة بكندا.

_________________________________________________

 [1]   – ادريس بنسعيد، (اعداد وتقديم). محمد جسوس رهانات الفكر السوسيولوجي بالمغرب. (الرباط: منشورات وزارة الثقافة، 2003).

    –  نجيب الخدي، (تنسيق). محمد جسوس قضايا منهجية في البحث السوسيولوجي.  (منشورات الجمعية لمغربية لعلم الاجتماع، 2019).

    –  محسن، مصطفي، جدل السوسيولوجيا والسياسة وحوار النظرية والممارسة في فكر ومسار محمد جسوس: محاولة في التعريف والاعتراف. (سلسلة شرفات 61. الرباط: منشورات الزمن، 2015).

[2]  عمر بن عياش، (اعداد وتنسيق). محمد جسوس من القرويين إلى برينستون ..(سيرة ذاتية). (منشورات الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، 2024).

[3]  عمر بن عياش، نفس المرجع ص 7

[4]  عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 15  

[5]  عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 16 

[6]  عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 16 

[7]  عمر بن عياش، نفس المرجع السابق ص  19

[8]  عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 22

[9]  عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 30

[10]عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 31

[11]   عمر بن عياش، نفس المرجع السابق، ص 49

[12]  عمر بن عياش، نفس الرجع السابق ص 36 – 37

Visited 30 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الكبير شكري

باحث وأكاديمي مغربي متخصص في علم الاجتماع