غاستون باشلار.. طائر العنقاء (الحلقة 3)

غاستون باشلار.. طائر العنقاء (الحلقة 3)

  ترجمة:  سعيد بوخليط

قد يبدو مجانيا الفعل الأدبي الذي يطرح كلمة طائر العنقاء وسط صفحة. غير أنَّ هذه الصورة الخرافية طبيعية جدا بين طيات الثقافة الأوروبية بحيث انتهى بها المطاف كي تحظى بوظيفة نفسية إيجابية.هكذا الأمر، بالنسبة لرواية جون كوبر باويس المذهلة: رمال البحر.

بلور كوبر باويس تحديدا كلمة طائر العنقاء مثل كاشِفٍ عند حدود فكر يبرهن ثم صورة تتخيَّل يفِرُّ ”مريضان” خارج  مركز صحي؛ أحدها يعاني اختلالا ذهنيا، بينما الثاني فقد وضع خَبَله ضمن أعماق فكر النُّبُوءة. خلال لحظة فتح باب الملجأ، عند نفس لحظة الحرية، يخبرنا ”النبي”، على لسان كوبر باويس، بعدم “قدرته على منع نفسه من التفكير في خديعة أن يغدو طائر عنقاء”(5) .

فورا يضيف كوبر باويس، اعترافا ثمينا حول الإبداع الأدبي وكذا رؤية عميقة حول ارتباط اللاوعي بماضي صوره، فكتب ما يلي: “تلك التسميات الكلاسيكية القديمة، الإنجيلية، القروسطية، الكامنة هنا! مخزون أقنعة لاينضب يمكنها دائما سحب البشر بشكل سيِّئ نحو الهلوسة الذاتية، غريب أنَّنا لم نفكر جدِّيا في ذلك سوى قليلا، الأسماء الشهيرة التي يتبناها المجانين. محاكاة جوفاء وفضِّية، كما تبدو هذه المقاطع اللفظية لزمن قديم، شرعت  تطفو حسب الانسياق، غاية لحظة تناولها كمقاطع لفظية سحرية لكلمة طائر العنقاء، قصد تغطية العراء التراجيدي لما يجهله الفكر!” .

في هذه الصفحة من رواية كوبر باويس، وحدها كلمة طائر العنقاء تحرِّض على التأمل الشارد .اختبر الجميع هذه الساعات، تأتي خلالها المقاطع اللفظية من تلقاء ذاتها كي تشكِّل كلمة، كلمة قديمة جدا، تفتقد لأيِّ مرتكز على مستوى الحياة اليومية، كلمة لم نفكِّر فيها! تسكننا كلمات تحلم! إلى أّيِّ عالم ينتمي طائر العنقاء لدى كوبر باويس؟ هل عالم  العبارة حيث تتبلور لغة عقيمة أو في عالم داخل اللاوعي يوحِّد بين ذكريات الثقافة مع صور طبيعية؟ ينطوي كتاب كوبر باويس على عمق ثنائي لقصيدة كونية ثم تحليل نفسي للسحيق جدا. يلزم تلقِّي طائر العنقاء عند باويس مثل صورة حرَّة فرضت نفسها على شاعر محلل نفسي، وشاعر مبدع للنفسي، يمنح مختلف شخوصه تفاضلية الجنون الصحيحة.

تشتغل كل صورة قياسا للفكر الذي يتلقاها. لذلك، يتناسب حضور طائر العنقاء عند ”النبي”، المجنون مع انتشاء خيالي، بينما يصبح حقيقة مباشرة وشبه ملموسة  بالنسبة للثاني الذي يعاني اختلالا ذهنيا. حينما كان حسُّه سليما، مارس هذا المختلّ وظيفة محنِّط. لقد أصبح جورج بروتي: :بارع القوة في هذا الجانب، وبعد تعافيه جسديا من زكام سيئ أدخله نوبات هذيان، طيلة أسابيع، غير أنَّ ذهنه استمر مضطربا بكيفية لارجعة فيها: “يمكنني حشوك بطائر العنقاء، إذا أردت”، هكذا قال إلى عالم الآثار لودلو. وتحت غشاء ريش العنقاء، الطائر النادر والوحيد الذي  لم يتم تحنيطه سابقا، حقَّق جورج بروتي دخوله متحف الجحيم”(6).

لقد أبرز كوبر باويس أكثر واقعية الصورة. بالتالي، حينما اقترب بطله المختلّ ذهنيا  من موقد، بدأت ثيابه تشتعل نارا، يهزُّ ذراعيه فتدور مثل أجنحة: “يشقُّ أيضا تلك الأصوات الغريبة التي يستمر الشخص المسكين في بعثها، كتقليد تقريبي، لنعيق مأزق طائر كبير يجابه خطر الموت، حسب ذهنية باحث في علم الطيور”(7).

تناول نص جون كوبر باويس، طائر العنقاء، تناوبيا في خضم نبرة صوت يردِّد عناصر ثقافية ثم خلال الآن ذاته ضمن أفق تباهي صانع لايرى حاجزا أمام مسعى  حرفته. يقدِّم لنا الحالم الكبير كوبر باويس، إفراط الصورة، وفق دلالتين مختلفتين. صورة طائر العنقاء، بحسبه إما أُفرغت من محتواها، أو حدث التنكيل بها نتيجة خُدَع المحنِّطِ .لذلك، لم يرتكز الكاتب على وثيقة أسطورية معينة، بل جعلنا حيال أسطورة طبيعية، أسطورة تأتَّت جراء هلوسة تلقائية لحالم بالصور، أو ببساطة حالم بالكلمات.  

هل صحيح مختلف ذلك؟ هل تعتبر مجرد ملاحظة إكلينيكية؟ يتساءل الطبيب النفسي. بالنسبة إلي، كفيلسوف للخيال الشعري، كل ذلك صحيح ما دامت قد تحقَّق كتابيا، بفضل وجود كاتب كبير استطاع تخيُّله، قصد إعطائه هيبة الكتابي، بغية إدماجها بين طيات سرد الوقائع النفسية المتوتِّرة، على مستوى تأسيس نفسية  دراماتيكية في أقصى توترها.

بالنسبة لمن يدرس الخيال، داخل ”عيادة” كاتب كبير مثلما الشأن مع كوبر باويس، ومقارنة مع عيادة الطب النفسي، سيمتلك أكثر من معنى وحمولة، وكذا حقيقة نفسية .نعاين  بطريقة ما، صحبة الكاتب عيادة متَّصلة، ومتحرِّرة من ارتجال الملاحظة البسيطة. نمتلك ضمانة دراما متوارية، يكشف عنها تحديدا الاهتمام الدرامي، الذي يديره العمل الفني ببراعة.

إذن، حدثت السيطرة على تعويذة الحماقات التي تقدِّمها العيادة المعتادة. ثم حظيت لدى الكاتب صورة مجنونة – نواة الجنون- بأكثر تداعياتها النفسية بُعْدا. رواية رمال البحر، بمثابة عمل كبير يتمثَّل الواقع والخيالي. ستدهش كل قارئ قوة الكاتب الذي يتخيَّل النفسي.

هكذا، أعترف مرة أخرى، بأوثاني كقارئ.

حتما سيواجهني اعتراض، مفاده افتقاد صور طائر العنقاء عند كوبر باويس، للنَّبرة الشعرية الخالصة: إنها غير ”مذهلة”. فقد اكتفى الكاتب بإعطاء الصورة تأويلين نفسيين. يعبِّر الشعراء في أغلب الأحيان، عن تأويلات معكوسة تضخِّم الحياة عبر إضاءات الحلم. فعلا، يلزم فلسفة الخيال التركيز على حيثيات هذا التأويل الثنائي: ترجمة الواقع النفسي إلى تطلُّعات متخيَّلة، ثم على العكس من ذلك، تضمين نسيج الدراما الإنسانية ذاتها الصور الأكثر إثارة للإعجاب.

سأسعى مع الشعراء، اقتفاء خاصة محور الشعر المغناطيسي، لقصيدة تنمو باستمرار، ينمو معها روعة طائر العنقاء، وتجعل منه وكيلا عن جمال العالم.

لندخل الآن إلى متحفي الشعري عن صور طائر العنقاء.

شاعر الحقبة المعاصرة، شاعر القصيدة الحديثة، ترك جانبا مخطَّط توظيف الأساطير، لكنه عثر ثانية على القوى الأسطورية بكيفية جديدة تماما. يدرك من أول انجذاب، بأنَّ الطائر كائن مكاني، مكان آخر أكبر من مختلف الأمكنة الأخرى التي تتطور على امتداد سبل الأرض. يفتح هذا الهناك المترامي، أفقا للحياة المتنامية. الطائر في أوج تحليقه، بمثابة مركز للفضاء الشعري. إذا أظهرت أجنحته  نار ألوان، فإنه ينتمي إلى شعرية النار. حلم إضافي، ثم يغدو طائرا بمصير ناري. أحيانا، ينتظم عند شاعر، مسار بأكمله من القصائد ضمن أسطورة طبيعية حقا، أسطورة للطبيعة .تتشكَّل هذه الأسطورة بشكل عادي جدا تجعلنا نشعر بأنها لاتدين بأيِّ شكل من الأشكال سواء للتاريخ أو الأساطير. يمكننا نسيان الأفكار، والمعرفة؛ بحيث تتكلَّم الطبيعة من ذاتها. فلنستمع مثلا إلى قصائد إيف بونيفوا الملتئِمة تحت عنوان: ”نشيد الحماية”(8)، قصيدة طوَّرت عملها الأسطوري المستقلِّ.

في أيِّ صحراء، وليل للروح، استدعى طائر الشاعر؟(9)

استدعاني طائر، فأتيت.

استسلمت لضوضاء موت يهزُّ داخلي.

ثم قاومت، فجعلت كلمات قد استحوذت عليَّ

تتبدَّى بجلاء على نافذة حيث كنت أشعر بالبرد.

يشدو الطائر دائما بصوت أسود وصارم،

بعد ذلك سمعت شدوا ثانيا،منبعثا

من خلفية شدو كئيب للطائر الذي استكان إلى الصمت.

موجة وجودية، موجة مختنقة بداية، ثم تنكشف أكثر فتسود القصيدة وقد انطلقت من غناء للموت أسود و قاسٍ صوب آخر ينبعث من الحياة، أول دليل عن طائر ليليٍّ وشمسيٍّ بكيفية تناوبية.

القصيدة التالية عنوانها ”أوراق الشجر المضيئة”(10)، لكن يتعلق الأمر مرة أخرى بضوء صوتي، ينبثق من أناشيد فؤاد الإنسان:

امتلك الطائر فوق شجرة الصمت، قلوبنا بشدوه الهائل والبسيط والمتعطِّش،

يرشد كل الأصوات خلال الليل حينما تنغمس مع كلماتها الحقيقية،

وحركات الكلمات داخل أغصان الأشجار

كي تستدعي أكثر، ونحبّ جلّ الضائع بلا جدوى.

يلامس الفجر هذا الفؤاد المحطَّمِ:

يبدأ كل شيء مع نشيد الفجر المرير.

تحرَّر أمل ، افتقار حقيقي.

تنبثق أضواء بعد هذا السعي وسط الظلام، فقد تجلَّت ترنيمة نار. يلزم حتما تطور حساسية في ذاتها موصولة بطائر العنقاء قصد اكتشاف طائر النار ضمن تحوُّلات نشيد ينام ويستيقظ. لكن بمجرد نطق كلمة طائر العنقاء، ندرك وجود كائن مصيري. من يريد أن يحيا طائر العنقاء، في إطار رِقَّة الصبغة الشعرية، سيفوز حين إعادة قراءته التتابع الخَطِّي لقصائد حيث يتشكَّل فعليا طائر العنقاء من خلال غناء الشاعر.

صورة طائر العنقاء الشعرية هنا،مستقلة على نحو ما.هاهي قصيدة في أوج التطور الأدبي،تبلور في غضونها ببطء الطائر الخارق(11:

يخاطب طائر العنقاء النار، المصير

والمشهد المضيء يقذف بظلاله،

أنا من تنتظرينه، يقول لها،

لقد تهتُ في بلدكِ الخطير.

يتأمَّل النار. كيف صارت، وكيف تقوم داخل الروح المظلمة

حينما ينجلي الفجر عبر النوافذ، تصمت النار، ويذهب كي ينام أسفل النار.

يغذِّيها بالصمت. يتوخى من كل طَيَّات الصمت الأبدي، الذي يحطُّ فوقه  مثل الرمل،

أن يعمِّق خلوده.

تحمل هذه القصيدة عنوان: أبدية النار”،حيث يجسِّد طائر العنقاء تحديدا رمز أبدية تعيش.

مختلف القصائد التي سردتُها، استُهِلَّت بهذه المقطوعة الشعرية الرباعية(12) :

أن يتمزَّق الطائر إلى رمال، كما تقول.

أن تكون ضفَّتنا، عند أعالي سماء فجره.

لكنه هو، وقد تهاوى مغرِّدا من القبو.

يبكي سلفا سقوطه في صلصال الأموات.

من احتاج إلى أن يشاهد لحظة الحلم، سيجد طائر العنقاء الملغز عند إيف بونيفوا. أيضا، إذا توخيتَ  أن تكتشف كي تتخيَّل فلا تقتفي  مسلك الصور التدريجي، بل ينبغي إضفاء توضيح ”تصويري” على الأسطورة القديمة. سيصادف فقط طائرا ينبعث ثانية من رماده وقد وسمه سابقا نشيد يولد ثانية من صمت كل لفظ جديد.

 استحضار طائر العنقاء ”وقد تهاوى مغرِّدا من القبو، يعني أن تترجم إلى شعر، مصير الطائر/ الشمس الذي يلزمه كل ليلة دفن ذاته في الليل كي يولد مرة أخرى خلال كل فجر. الطائر الذي”غنى أعلى من كل شجرة حقيقية، وأبسط من كل صوت داخل أغصاننا الحزينة”.

طائر العنقاء عند إيف بونيفوا يحيا وسط هذا الكون المذهل، مثلما الحال مع الكون  اللفظي، الذي يتكلَّم.  

________________________________________________________________ 

Gaston Bachelard: fragments d’ une poétique du feu (1988).pp :74-81.

 (5) جون كوبر باويس: رمال الشاطئ، ترجمة ماري كانافاغيا1958، ص 454 .

(6) نفسه ص 455- 456

(7) نفسه ص 462

(8)نفسه ص 49 – 61

(9) نفسه ص 50  

(10) نفسه ص 51- 52

(11)نفسه ص 60

(12)نفسه ص 49

Visited 22 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي