وهم النجاح والسعادة.. الجانب المُظلم للتنمية البشرية الحديثة

وهم النجاح والسعادة.. الجانب المُظلم للتنمية البشرية الحديثة

نضال آل رشي

        رغم أن المصطلح نفسه لم يكن موجوداً قبل طفرة علم النفس الحديث، إلا أنّ مفهوم التنمية البشرية ليس وليد عصرنا الحاضر. فالأفكار التي تتعلق بتطوير الذات وتحقيق الأهداف والوصول إلى السعادة كانت موجودة منذ العصور القديمة، حيث تحدث فلاسفة كبار كأفلاطون وأرسطو عن هذه المفاهيم باعتبارها غايات أساسية لحياة أفضل.

وفقاً لفلسفة أفلاطون وأرسطو فإنّه لتحقيق الذات، يجب أن يسود العقل ويتحكم بالغرائز والشهوات، مما يحقق التوازن والانسجام في النفس. هذا التوازن هو ما يجعل الفرد فاضلاً، والفضيلة هي ممارسة فعلية للقيم الأخلاقية والاعتدال في الحياة اليومية ووسيلة لتحقيق السعادة والتي بدورها هي حالة من الازدهار والرضا الداخلي.

خلاصةً، كل من أفلاطون وأرسطو رأى أن تحقيق الذات والسعادة مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالقدرة على العيش بشكل يتوافق مع العقل وفضائل الأخلاق وعدم الإفراط أو التفريط، مما يؤدي في النهاية إلى حياة أفضل وأكثر سعادة.

 لكن هذه الأفكار أقرب إلى الفلسفة الأخلاقية منها إلى التنمية البشرية كما نعرفها اليوم وهنا كانت القفزة الكبرى لهذا المفهوم من الحيّز الأخلاقي إلى الحيّز المادي ومرده التحول الاجتماعي بعد الثورة الصناعية والناتج عن تطور أدوات الإنتاج ومتطلبات سوق العمل.

 عصر التنمية البشرية الحديث:

    في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بدأت الأفكار حول تطوير الذات بالظهور بشكل أكثر تحديداً وعلى وجه الخصوص في الولايات المتحدة الأمريكية. كتاب “فكّر وازدد ثراءً” لنابليون هيل، الذي نُشر لأول مرة عام 1937، يُعدُّ أحد أوائل الكتب التي ركزت على فكرة التنمية الذاتية والتحفيز الذاتي تبعه مجموعة من الدراسات في علم النفس الإنساني مثل الدراسات التي قدمها ابراهام ماسلو وكارل روجرز.

بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت أفكار التنمية البشرية تنتشر بشكل أوسع في العالم، حيث انتشرت ورش العمل والبرامج التدريبية والكتب وظهرت لأول مرة مهنة “مدرب التنمية البشرية” أو “المستشار الشخصي”، حيث أصبح هؤلاء الأفراد يقدمون النصائح والتدريب للأشخاص الراغبين في تحسين حياتهم وتحقيق النجاح في المجالين المهني والمالي.

 هل النجاح المهني والمالي أمر طبيعي أم طفرة؟

    للوقوف على هذه النقطة بالذات أجرى فريق بحثي من جامعة ستانفورد دراسة موسعة تشمل مجموعة واسعة من التخصصات مثل علم النفس، البيولوجيا، وعلم الاجتماع. هدفت الدراسة إلى تحديد ما إذا كان النجاح يعتمد بشكل أساسي على الخصائص الداخلية للفرد، مثل الذكاء والعمل الجاد، أو إذا كان النجاح نتيجة لعوامل خارج الإرادة البشرية.

اعتمد الفريق البحثي على تحليل بيانات من مصادر متعددة، بما في ذلك تحليل السمات الشخصية والتوجهات النفسية للأفراد الذين يُعتبرون ناجحين، وكيفية تأثير هذه السمات على قدرتهم على تحقيق الأهداف. بالإضافة إلى دراسة العوامل الوراثية والبيولوجية التي تسهم في تكوين شخصية الفرد وقدرته على التعامل مع التحديات. وأخيراً، فحص البيئة الاجتماعية والاقتصادية التي نشأ فيها الأفراد وكيفية تأثير هذه العوامل على فرص النجاح.

في نهاية البحث، خلصت الدراسة إلى أن النجاح غالباً ما يكون نتاجاً لعوامل خارجية غير قابلة للسيطرة أو التنبؤ بدلاً من الخصائص الداخلية الثابتة للفرد. وهذا يعني أن النجاح لا يعتمد بالضرورة على الذكاء الفطري أو العمل الجاد فقط، بل يتأثر بشكل كبير بالبيئة الاجتماعية، فالأفراد الذين نشأوا في أُسَرٍ داعمة أو في بلدان ذات مستوى اجتماعي واقتصادي مرتفع يميلون إلى تحقيق نجاحات أكبر، حيث أن البيئة الاجتماعية لعبت دوراً حاسماً في توفير الموارد والدعم اللازم للفرد لتحقيق أهدافه.

كما ركزت النتائج على دور الحظ والفرص. وذهبت إلى أنّ النجاح غالباً ما يرتبط بوجود فرص عبثية الحدوث قد تأتي بمحض الصدفة. على سبيل المثال، توقيت الدخول إلى سوق العمل أو اللقاء مع شخص مؤثر يمكن أن يكون له تأثير كبير على مسار حياة الفرد. هذه الفرص قد تكون خارج سيطرة الفرد تماماً.

كما خلُصت إلى أنّ تأثير السمات الشخصية مثل الذكاء أو الطموح غالباً ما يكون ثانوياً مقارنةً بتأثير ظروف البيئية والمجتمع. على سبيل المثال، من المؤكد أنّ شخصاً ذكي جداً ولكنه يعيش في بيئة فقيرة أو ينتمي إلى بلدان ما يسمى ” بالعالم الثالث” سيواجه صعوبات أكبر بكثير في تحقيق النجاح مقارنةً بشخص أقل ذكاءً ولكن يتمتع بدعم اجتماعي وسياسي قوي.

التأثير السلبي والنتائج العكسية للتنمية البشرية:

    بينما تقدم التنمية البشرية العديد من الأدوات المفيدة، فإنها أيضاً تروج لأفكار قد تكون مضللة وذلك من خلال خلق توقعات غير واقعية قد تسبب إحباطاً كبيراً بين الأفراد، خاصة الشباب.

هنا يكمن الجانب الأكثر ظُلمةً في التنمية البشرية بمفهومها الحالي، وذلك بإلقاء الفشل على عاتق الأفراد في إهمال تام للسياق الاجتماعي والاقتصادي والعوامل الهيكلية التي تؤثر على الفرص المتاحة.

 يظهر هذا جلياً عندما تروّجُ برامجها لقصص نجاح فردية كنماذج يجب احتذاؤها، مما يعزز الفكرة بأن النجاح هو نتيجة مباشرة لتطوير الذات والجهد الفردي المبذول، وليس نتيجة تفاعل معقد بين القليل من العوامل الفردية والكثير من العوامل الهيكلية، ما يجعل الفشل مسألة فردية أيضاً ويتم تأطيره على أنه نتيجة مباشرة لعدم كفاءة الفرد وعدم بذله المجهود الكافي أو عدم قدرته على استغلال الفرص، بدلاً من فهمه كنتاج لظروف متعددة قد تكون خارجة عن السيطرة.

عندما يواجه الشباب صعوبة في تحقيق الأهداف المهنية والمالية التي حددوها وعملوا جاهدين لتحقيقها تبعاً لنصائح التنمية البشرية، تبدأ عندها رحلتهم مع الشعور بالإحباط والتوتر. دراسة أجرتها جامعة “كولومبيا” تشير إلى أن أكثر من 60 بالمئة من الشباب الذين خضعوا لدورات في التنمية البشرية وضعوا لأنفسهم توقعات غير واقعية ما أدى إلى إصابتهم بالقلق والاكتئاب على المديين المتوسط والبعيد بسبب عدم تحقيق تلك التوقعات.

بعد القلق والاكتئاب، غالباً ما يؤدي هذا الإحباط إلى فقدان الثقة بالنفس والشعور بالفشل وهنا تبدأ الكارثة الثانية وهي تحييد الأفراد عن البراعة في أشياء بسيطة. الفيلسوف آلان دو بوتون يؤكد في كتابه “قلق المكانة” أن الثقة بالنفس تأتي غالباً من القدرة على إنجاز الأشياء البسيطة والمهارات العادية، وليس من السعي المستمر وراء النجاحات الباهرة وأن هذه النظرة تهمش الإنجازات اليومية والمهارات الأساسية التي تشكل جزءاً كبيراً وأساسياً من حياتنا.

النجاح الحقيقي والسعادة في الحياة:

    بالعودة إلى المفهوم الأخلاقي للتنمية البشرية ما قبل الثورة الصناعية وأفكار الفلاسفة والحكماء القدماء فإنّ السعي للنجاح هو جزء طبيعي ومهم من الحياة. يساعدنا على تحسين أنفسنا وتطوير مهاراتنا وتحقيق أهدافنا. لكن، يجب أن نفهم أن النجاح ليس النهاية، بل هو رحلة مليئة بالتحديات والتعلم ولا تقتصر على الجوانب المادية وإنما الروحية والنفسية منها.

قد يظن البعض أن هذا الرأي فيه الكثير من العاطفة ولكن دراسة من جامعة “هارفارد” أجريت على مدى 75 عاماً تشير إلى أن الروابط الاجتماعية والعلاقات الحميمة هي العامل الأهم في تحقيق السعادة البشرية. في المقابل، فإن التركيز المفرط على تحقيق النجاح المهني والمالي يؤدي غالباً إلى الشعور بالعزلة وعدم الرضا.

إنّ هذا المقال ليس دعوةً للتوقف عن تطوير الذات أو الاستسلام للواقع والظروف، فالحياة عبثية والفرص دائماً متاحة وإن كانت صعبة المنال أو نادرة، لكن الغاية من وراءه دعوة من يعملون في هذا المجال إلى تعريف أكثر وضوحاً وواقعية لمفهوم التنمية البشرية وإلقاء الضوء على الهامش الضيق الذي يمتكه الأفراد في كثير من الأحيان. هو دعوة للتوقف عن الإتجار بعقول وأحلام الشباب ومطالبة للسلطات لتحمل مسؤولياتها في توفير بيئات داعمة للأفراد، وخاصة في مراحلهم الأولى من الحياة وضرورة التفكير في كيفية توزيع الفرص بشكل أكثر عدالةً، بحيث لا يكون النجاح حكراً على أولئك الذين وُلدوا في ظروف مريحة أو حالفهم الحظ وسط مجتمعات تزداد انقساماً يوماً بعد يوم بين قلّة من الأغنياء النافذين وأغلبية فقيرة لا حول لها ولا قوة.

ختاماً، يجب على الأفراد والمجتمعات أن يعيدوا تقييم مفاهيمهم حول النجاح وأن يقدروا أهمية الأشياء البسيطة والمهارات الأساسية التي تجلب السعادة، وأنّ الرضا الحقيقي يأتي من قبول الذات والاعتراف بقدراتنا الحقيقية. إنه يتعلق بالعيش في الحاضر وتقدير ما لدينا بدلاً من التركيز المستمر على ما نفتقده وتحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية، وتقدير العلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية.

Visited 112 times, 2 visit(s) today
شارك الموضوع

نضال آل رشي

كاتب وباحث