ذكرى رحيل عبد القادر شبيه: عزلة المثقف وصخبه الهادئ

ذكرى رحيل عبد القادر شبيه: عزلة المثقف وصخبه الهادئ

عبد الرحيم التوراني 

قبل سبع سنوات رحل عنا الصحفي الكبير عبد القادر شبيه، الذي توفي يوم الجمعة 18 غشت 2017 بمدينة الدار البيضاء. هنا إعادة نشر للنعي الذي كنت وقعته في فقدانه الأليم تحت عنوان: (الصحافة المغربية في حداد، عبد القادر شبيه.. نجم إعلامي ينطفئ في صمت.. عزلة المثقف الموسوعي وصخب أيامه الهادئة)

 

“آه.. لقد صرت غرابا.. كل يوم أودع أصحابا!”.

لم أعد أتذكر لمن قرأت مثل هذه العبارة الصرخة الموجعة، لكني أجدها توجز بصيغة جد مكثفة حالتي اليوم.

بعد رحيل شيخ الصحافة المغربية العميد عبد الكريم غلاب في مدينة الجديدة، ومواراة جثمانه الثرى بالرباط، بعد يومين، يسلم الروح إلى باريها صحفي لامع، عبد القادر شبيه في مدينة الدار البيضاء. عقب ذلك بساعات، يلتحق به علم آخر من أعمدة صحافتنا الوطنية، خالد مشبال في مدينة طنجة. كأن خريطة الوطن في تسابق وتنافس لتشع سماؤها بنجوم إعلامنا المضيئة.  

“نعيٌ هنا، ونعيٌ هناك؛ كأنّ الموت عداء مسافات قصيرة، أو عامل نظافة في حيّ مهجور”، يكتب الأديب عبد اللطيف الوراري.

كنت في القطار، عائدا من الرباط، لما رن هاتفي المحمول، زميل يسألني عن صحة خبر وفاة صديقي عبد القادر شبيه. لا علم لي. لكن علي التحقق من صحة الخبر. ثم ستتوالى المكالمات، من زملاء المهنة ومحرري مواقع إلكترونية ومن أصدقاء. جربت الاتصال بمن يؤكد لي الخبر.. في الحقيقة كنت أبحث عمن ينفي لي النعي المشؤوم. كأن أسمع أنه مجرد إشاعة من إشاعات صيف حارق، يلهو بها مطلقها اللئيم ليحس ببعض الانتعاش الخبيث.

أمام حالة “لا تأكيد.. لا نفي”، قررت بعد مغادرتي محطة الدار البيضاء – الميناء، التوجه مباشرة إلى حيث يقيم صديقي عبد القادر. ما أن أطللت على زقاق النيل، حتى طالعتني وجوه أعرف بعضها، تتجمع أمام “فندقه”، الذي يقيم فيه منذ أزيد من عقد من السنوات.

 نعم. مات شبيه.

 كيف؟ متى؟

 موجز الجواب: “أصيب بمرض. ثم رفض أن يعرض نفسه على الطبيب”. أو كما في قصة “الثرثار ومحب الاختصار” التي ضمها أحد كتب أحمد بوكماخ المدرسية: “مات والسلام”.

وعبد القادر شبيه لم يكن من الثرثارين ولا من المختصرين، بل كانت تعبيرات ملامحه وشكل ابتسامته وتقويسة حاجبيه وحركة عينيه، وصمته.. ينطق بما يفوق كل قول.

كان الوقت عصرا لما فاضت أنفاسه الأخيرة.

 تحكي أخته الأصغر منه، نزهة شبيه، بقلب دامع يمزقه الحزن وألم الفراق:

 – كنت إلى جانبه في لحظاته الأخيرة. طلب مني أن أمده بالماء. شرب قارورة ماء معدني من الحجم الكبير. أتبعها بثانية (3 لتر). ثم رأيت أن أناوله حليبا باردا. لما شرب الحليب، قال إنه يحس بالراحة. ولم ندرك ونحن إلى جانبه كيف غافلنا في لحظة مارقة، راح في رمشة عين. انتقل إلى راحته الأبدية. لم نشبع منه. مات أخي.

جثة في فندق

    وصلت عناصر من الشرطة العلمية. من ضمنهم طبيب شرعي ومصور. طلب أحدهم بطاقة الميت. ومرافقة عضو من أسرته. تقدمت أخته نزهة. وحده الطبيب من وضع كمامة على وجهه. وشرع في طرح الأسئلة. كيف توفي الميت؟ من كان إلى جانب لحظة الوفاة؟ سأل عن الازرقاق الذي لاحظه بقدمي الجثة. هل كان الميت يتناول دواء ما؟ سأل عن كومة قطن عليها دم في ركن من الغرفة. وكان المصور في هذه اللحظات منشغل بعمله، يلتقط الصور بآلة قديمة.

بعدها وصلت عناصر من جهاز ثان لشرطة ولاية الأمن. صعدوا بدورهم الطابق الأول من الفندق، على اليمين حيث غرفة الرجل الميت. وغادروا بعد أن أخذوا معهم ما سيملؤون به تقريرهم الرسمي.

في هذه الأثناء، كان بضعة أفراد من عائلة المرحوم أمام مدخل الفندق: (أخوات شبيه الثلاث: نزهة وسعيدة ونجاة، وصلن من الرباط ومراكش، وأحد أصهاره من الدار البيضاء). وكان هناك أعضاء من المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحافة المغربية. (عبد الكبير اخشيشن ومحمد الطالبي وحنان رحاب وعبد الرحيم التوراني)، والفنان التشكيلي عبد الحي الملاخ وزوجته الفاضلة فاطمة، والفنان أحمد السنوسي، ومراد بورجة مدير وكالة أيسبريس. والصحفي الرياضي كريم إدبيهي وزوجته حكيمة خلقي رئيسة تحرير صحيفة “الأسبوع”. وبعض الجيران من سكان الزقاق.

سيتأخر قليلا وصول سيارة مصلحة الطب الشرعي، حيث نقل الجثمان إلى مشرحة “الرحمة” بضاحية الدار البيضاء الجنوبية.

أجريت اتصالات من أجل تأمين قبر للفقيد بمقبرة الشهداء، ومن أجل تسريع الإجراءات لتتم مراسيم الدفن بعد صلاة العصر ليوم السبت (19 غشت 2017).

رحيل صحافي كفؤ ولامع

    لم تتوقف التليفونات، ولم ينقطع سيل تبادل الرسائل النصية، مع ردود الفعل على الفيس بوك. الوسط الصحافي والثقافي في المغرب حزين. ستنعيه النقابة المغربية للصحافة المغربية.. سيبحثون عن صورة لشبيه، وحدها الصور التي التقطتها له قبل أعوام. منها واحدة التقطتها له على رصيف مقهى “الشانزيليزيه” بمرس السلطان، والثانية: بمطعم إلْباركو في شارع محمد الخامس، ستملأ صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية.

الكل يؤكد على المهنية العالية التي كان يمتلكها الراحل عبد القادر شبيه، الكل يجمع على أخلاقه الطيبة وتواضعه الجم. الكل يبكي رحيل صديق وزميل وغياب قلم كبير، نجم مضيء انطفأ فجأة في سماء الصحافة والإعلام المغربي.

 عبد القادر شبيه: سيرة غير مكتملة…

    ولد عبد القادر شبيه سنة 1950 بمراكش، تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي بنفس المدينة، (ابتدائية مولاي علي الشريف وإعدادية المنصور الذهبي وثانوية محمد الخامس)، بعد حصوله على شهادة الباكالوريا سيتوجه لدراسة الصحافة ضمن أول الطلبة القلائل الذين ولجوا “مركز تكوين الصحفيين” المؤسس من قبل الألمان.. النواة الأولى للمعهد العالي للصحافة والإعلام بالرباط ISIC.

قبل وصوله إلى الرباط، نشر عبد القادر شبيه كتاباته الأولى في الصحافة، وكان من مؤسسي جريدة “الاختيار” برفقة الشعراء مليكة العاصمي ونور الدين الأنصاري وأحمد بلحاج أيت وارهام ومحمد الواكيرة. كما كان ينشر وهو تلميذ في الثانوية، مقالات في “مغرب أنفورماسيون” التي كانت تصدر عن المركزية العمالية الاتحاد المغربي للشغل، و”لادبيش” التي أنشأها المهدي بنونة، والجريدتان معا كانتا تصدران باللغة الفرنسية من العاصمة الاقتصادية في مغرب السبعينيات.

طالبا في معهد التكوين الصحافي سيلتحق شبيه بيومية “العلم”، حيث سيلتقي بصديقه التاريخي محمد الأشهب، القادم من مسرح الهواة في مدينة فاس، وسيرتبط الاسمان لفترة طويلة، امتدت بين “العلم” و”الميثاق الوطني” و”رسالة الأمة”.

في “العلم” وتحت رعاية وتشجيع الراحل الأديب عبد الجبار السحيمي، سيبدع شبيه ويعطي نفسا جديدا للصفحات الثقافية والملحق الأسبوعي. كان السحيمي يفضل شبيه على غيره لاختيار عناوين المقالات. وفي هذه الفترة سيكتب شبيه أجمل مقالاته في النقد الأدبي والنقد السينمائي، التي أعلنت عن ميلاد ناقد من العيار الثقيل، لكن طاحونة الصحافة ستلتهمه، كما قال صديقنا العراقي المغربي رضا عبد الأمير الأعرجي.

ومع إطلاق تجربة جديدة في مجال الإعلام الإذاعي في المغرب، سيكون عبد القادر شبيه من أوائل المؤسسين لهذا المشروع سنة 1980، حين سيغادر الرباط للالتحاق بمدينة طنجة. ليتقلد منصب رئيس تحرير في إذاعة البحر المتوسط “ميدي1”.  

هناك سيظهر شبيه عن موهبة عالية في فن التذييع بصوته المميز الرخيم، ومما أذكره تغطية شبيه لأشغال إحدى دورات الجمعية العمومية للأمم المتحدة من نيويورك، حيث كان المستمعون يتلقون مراسلاته في النشرتين العربية والفرنسية، بالطلاقة والمهنية نفسها والالتزام ذاته.

في طنجة محمد شكري، سيؤسس شبيه مع صاحب “الخبز الحافي” صداقة متينة، لكن ليالي عروس الشمال ستؤثر على أسلوب ونمط  الحياة اليومية للمرحوم، مما جعله يهرب منها إلى الدار البيضاء، مستجيبا لدعوة الالتحاق بتجربة إعلامية جديدة أشرف عليها صديقه عبد الله الستوكي سنة 1984، والمتمثلة في تأسيس مجموعة “الليمون” الصحفية، مع الحزب الجديد الاتحاد الدستوري، برئاسة الوزير الأول السابق المعطي بوعبيد، حيث صدرت يومية “رسالة الأمة” وأسبوعيتان بالعربية وأخرى بالفرنسية: “الأسبوع المغربي” و”لوميساج دولاناسيون” وشهرية اقتصادية: “لوميساج إيكونوميك”.

وعندما أطلق عبد الله الستوكي أسبوعية “الكشكول” سنة 1991، من العاصمة، سيتولى شبيه مسؤولية رئاسة التحرير، وكنت إلى جانبه ضمن الطاقم الصغير، المتكون من عمر الأنواري والشاعر المرحوم محمد علي الهواري وعبد الرحيم التوراني. وفي شقة صديقنا عبد اللطيف مفكر الصحفي  بالقناة الأولى، أقمنا معا، شبيه وأنا. ورغم نجاح هذا “المشروع” المستقل، والصدى الواسع الذي لقيه في الأوساط الإعلامية والسياسية، والإقبال الكبير من لدن القراء، إلا أنه لم يكتب لهذه التجربة الاستمرار كما كان مؤملا. ليعود شبيه مرة أخرى إلى المدينة التي أحبها وعشقها أكثر، الدار البيضاء، حيث سيعمل رئيسا للتحرير بيومية “الصحراء المغربية” الصادرة عن مجموعة “ماروك سوار”، على عهد وزير الدولة مولاي أحمد العلوي ومديرية عبد الحفيظ الرويسي.

بعد بضع سنوات قليلة سينهي شبيه مسيرته الإعلامية إراديا، حيث قرر ترك العمل الصحفي المنتظم، وسينكمش أكثر على نفسه، كواحد زاهد في مباهج الدنيا، مكتفيا بالتعامل مع بعض أصحاب الصحف الدورية، ومع من يطلب قلمه.

وبالرغم من العروض الكثيرة والإغراءات المادية التي قدمت له، إلا أن شبيه كان يرفضها باستمرار، أو كان يعطي وعدا ويخلفه ولا يلتزم، حتى شاع عنه عدم التزامه، وتولى الجميع عنه.

وظل يعيش على ما يجنيه ككاتب “نيغر” Un nègre  وعلى مساعدات بعض الأصدقاء الأوفياء، واضطر لمغادرة المسكن الذي كان يقيم به بعد تراكم ديون الكراء عليه أزيد من ثلاث سنوات، هكذا سيجد نفسه في أوطيل “ميركور”. ولا صلة لهذا الفندق باسم العلامة التجارية الكبرى لشركة الفنادق الفرنسية المتعددة الجنسيات، كما هو بعيد عن ترجمة الزئبق، إنه مجرد فندق جد بسيط غير مصنف، يقع بأحد الأزقة الخلفية للمنطقة السكنية والتجارية مرس السلطان. أخذ اسمه من اسم بلدة تقع في شمال شرق فرنسا. وهي بلدة معروفة بصناعة الدانتيل وتصنيع الآلات الموسيقية، ولا سيما من آلة الكمان. وكتابتها باللاتينية: Merecourt

لكننا نستطيع القول إن شبيه له صلة بكل المعاني التي ذكرت أعلاه، فبشأن الشركة المتعددة الجنسيات، كان شبيه متعدد اللغات وواسع الثقافة والمعرفة، إذ كان يتقن ثلاث لغات ويكتب بها بنفس المستوى، هي الفرنسية والانجليزية إلى جانب اللغة العربية.

وكان زئبقيا، لا يمكن الإمساك به وإجباره على أي عمل، ولو كان في مصلحته وفائدته.

وكانت كتابته كالتطريز بالياقوت والذهب على الدانتيلا، ويراعه آلة موسيقية، نايا، كمانا، قيثارة.. يعزف أعذب الألحان عندما كان يقوم بتحبير الورق، ليكشف عن مدى ما يتمتع به من ثقافة موسوعية، نادرون وقليلون هم اليوم أمثاله من حملتها.  

على مدى أزيد من عقد من الأعوام لم يغادر شبيه فندق “ميركور” إلى سكن مستقل، إلا محمولا على نعش إلى مثواه الأخير. تاركا وراءه سمعة طيبة وكتابات غزيرة متناثرة بين ثنايا مجلدات الصحافة المغربية، حيث كتب في السياسة والثقافة والفن والفكر والاقتصاد، بل كان للرياضة من مواهبه نصيب، وكان ناقدا سينمائيا. لنرجع إلى ما ترك تحته توقيعه فقط، إذ أنه زهد في الأخير عن التوقيع باسمه، لنعد إلى “العلم” في منتصف السبعينيات وما تلاها، إلى “الميثاق الوطني” اليومية، وإلى “الميثاق الأسبوعي”، إلى “رسالة الأمة” و”الأسبوع المغربي”…

من يقدم على تجميع التراث الذي خلفه هذا الهرم الإعلامي الكبير وتقديمه للأجيال؟ هل من مبادرة نبيلة لتخليد اسم عبد القادر شبيه وإطلاقه على قاعة تحرير أو مؤسسة تعليمية أو صحفية؟

(الدار اللبيضاء 20 غشت 2017)

Visited 202 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن