حوار المشرق والمغرب: حسن حنفي / محمد عابد الجابري (1- 6)

حوار المشرق والمغرب: حسن حنفي / محمد عابد الجابري (1- 6)

   سعيد بوخليط

       سنة 1989 شهدت الساحة الثقافية العربية، حدثا معرفيا مهمّا، باغت أوساط الأنتلجنسيا، لأنه لم يكن حقيقة متوقَّعا في خضمِّ أدبيات متوارثة ترسَّخت مع مرور الأجيال، قوامها في أغلب الأحيان انتفاء أبسط تجليات الاهتمام، الحوار، الإصغاء، الاكتراث، لما يقال، سواء لدى الأنظمة السياسية وكذا النُّخب الثقافية.

غير أنَّ مجلة “اليوم السابع”، التي أصدرتها منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، منذ سنة 1984، بادرت إلى تدشين خطوة حوارية مميَّزة بين مفكِّرين كبيرين ينتميان بجدارة إلى طليعة النخبة الأولى، اشتغلا حتى آخر لحظات حياتهما على مشروعين علميين؛ حسب المفهوم الأصيل للكلمة في أبعاده المتكاملة، ضمن نفس مضمار سؤال الخطاب النهضوي: لماذا تأخَّر المسلمون وتقدَّم الغربيون؟ المتبلوِرة ملامحه الأولى خلال القرن التاسع عشر، جوابا على الإشكال التاريخي زمنيا والمصيري وجوديا، القابع غاية الآن بدون تراكم فعلي وراسخ لأوراش عملية قصد حدوث تبلور ملموس سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا، للمسار الحضاري الذي بوسعه إخراج منظومات المنطقة وشعوبها المعزولة تماما وسط بيداء التخلُّف والتحلُّل، والاهتداء بها صوب واحات الحياة قصد الانبعاث ثانية.

جاءت موضوعات السجال وتعليلاته حسب العناوين التالية: في معنى الحوار ومقاصده، الأصولية والعصر، العلمانية والإسلام، الوحدة العربية إقليمية أم اندماجية، الليبرالية، الحداثة والتقليد، الناصرية، العرب والثورة الفرنسية، القضية الفلسطينية.

هيكلت مجلة “اليوم السابع” الحوار، حسب مرحلتين: انتظمت حلقات المرحلة الأولى، على عروض الأستاذين حسن حنفي وعابد الجابري، بينما جاءت المرحلة الثانية طيلة أربعة عشر أسبوعا، كي تفسح المجلة صفحاتها للتعقيب والتعليق ومناقشة الأفكار التي بادر إلى طرحها رائدي ”حوار الثمانينات”، مثلما سمي آنذاك، بمشاركة الأسماء التالية:

ناصيف عواد، صلاح أحمد إبراهيم، جورج طرابيشي، أحمد الدغشي، عبد الله بونفور، علي مبروك، عبد العزيز المقالح، رمضان بسطاويسي محمد، أحمد عبد الحليم عطية، عبد المعطي حجازي.

قيل، بأنَّه حوار تحدَّث بهواجس الأنتلجنسيا ونيابة عنها فيما يخص طبيعة تبلور رؤاها نحو التحوُّلات العالمية الجارية أواخر سنوات الثمانيات، اختزل حسن حنفي أهمّها في اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، ونهاية عصر الاستقطاب، فقد بدأت ملامح توطُّد نظام القطب الواحد ثم مرحلة العولمة، وبعد فترة الحوار بمدَّة قليلة وقع الغزو العراقي للكويت يوم 2  أغسطس سنة 1990، الذي دشَّن للأسف بداية اشتعال شرارات جحيم من الانهيارات التراجيدية وانحدار هائل، قياسا  لنوعية التطلُّعات السائدة قبل  ذلك اليوم…

تبادل حسن حنفي ومحمد عابد الجابري، على امتداد عشرة أسابيع متواصلة، وجهات نظرهما بين طيات العناوين الرئيسة المشار إليها سابقا، بخصوص قضايا الحرية والديمقراطية والعلمانية والحداثة والإسلام والشعب والدولة والحاضر والماضي والمشرق والمغرب…، أطروحات لازالت دائما عالقة بحدَّة، وقد مرَّت خمس وثلاثون سنة تقريبا على ذلك اللقاء، بل ازدادت تعقيدا واغترابا تبعا لسياقات انقلابات جذرية مسَّت بنية الزمان، هوية المكان، اهتمامات الجيل، طبيعة الاختيارات،مقتضيات الخطاب، مجالات التداول، سوق البضاعة.

مرَّت مياه كثيرة تحت الجسر، جروح اتسعت واستفحلت، ارتدادات أكبر من الزلازل اكتسحت المنطقة ومنظوماتها منذ 1989 غاية 2024، محليا وقوميا وكونيا. آمال عديدة، انقلبت إلى كمية آلام. تطلُّعات بحجم الكون ملؤها البناء والتحرُّر والعدل والانتماء حقا إلى زمن العالم،انكمشت انكماشا، بل تلاشت جراء قسوة ماحدث وعبثية مايحدث إلى مراثي بكائية.

توفيّ محمد عابد الجابري صبيحة يوم 3مايو 2010، بعد أن خلَّف إرث تراث للتفكير حضاريا دون توقف، في قضايا الإنسان والتحرُّر الشامل وسيادة العدالة، يمثِّل مشروع حياة يعبِّر عن مرحلة بأكملها في تاريخ الفكر العربي المعاصر، مثلما وصفه حسن حنفي، تجاوزت عناوينه ثلاثين مؤلَّفا، من الطِّراز الرفيع،نواته المركزية رباعيته الشهيرة: تكوين العقل العربي (1984)، بنية العقل العربي(1986)، العقل السياسي العربي (1990) العقل الأخلاقي العربي (2001) .

رحل بدوره حسن حنفي عن عالمنا، يوم 21أكتوبر 2021 وقد كرَّس حياته باعتباره أحد رموز اليسار الإسلامي، لتدبيج فصول كتب ذات زخم نظري بليغ، لا زالت في حاجة للقراءة والتأويل واستثمار زبدة خلاصتها، بلغت عشرين عملا؛ أهمها ”التراث والتجديد” (1980)، ”من العقيدة إلى الثورة” (1988)، ”مقدمة في علم الاستغراب” (1988)، ضمن نفس هموم ورش الجابري وزمرة من نبهاء جيلهما  وأكثرهم فطنة وذكاء، قصد البحث عن منافذ يستشرف من خلالها الإنسان والحجر ممكنات فعلية لمعاني وجودهما.

إذن، سأحاول عبر فقرات هذه المقالة، استعادة بعض جوانب أحاديث الرجلين (1). 

تحدَّث بداية حسن حنفي، فيما يشبه تقديما ومدخلا وأرضية، لانطلاقة حواره مع عابد الجابري، بتحديده معنى الحوار وطبيعته ومقاصده وأسسه، بعيدا تماما عن منطق الصراع أو الإقصاء المستند ضمنيا على خلفية ”الفرقة الناجية”، المشكوك في صحة مرجعيتها النبوية، من طرف الفقيه الأندلسي ابن حزم.

يتوخى هذا الحوار القطع مع شتى تداعيات اللامبالاة والإقصاء والتكفير والتخوين. بل، يعتبر الحوار مع الجابري سمة حميدة لهذا الجيل، يؤكِّد حسن حنفي، لأنَّه لقاء بين مفكِّر من المشرق والثاني ينتمي إلى المغرب، مما يعكس إشارة إيجابية بخصوص تجاوز التقسيم الاستعماري للعالم العربي، ثم ازدادت حساسية ذلك نتيجة التقسيم ”المعرفي” بين خصوصية مغربية قوامها العقلانية، وأخرى شرقية، إشراقية وتصوفية، بحيث يلمِّح هنا بكيفية غير مباشرة إلى رؤية الجابري التي شكَّلت أساسا إبستمولوجيا لقراءته التراث في كتابه: ”نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي”.

هل بوسع حوار بين مثقفيْن رائدين، أن يجسِّد مقدمة وتحفيزا لحوار سياسي بين الزعماء السياسيين، يتساءل حسن حنفي؟ وتأسيس لبنات جبهة وطنية، تستلهم تطلُّعات التحرُّر والاستقلال والتحديث والثورة التي حبكت خيوطها مشاريع مفكِّري المشرق والمغرب على السواء: محمد عزيز الحبابي، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، عبد الكبير الخطيبي، علي أومليل، زكي نجيب محمود، عثمان أمين، أنور عبد الملك، حسن حنفي، الطيب تيزيني، حسين مروة، صادق جلال العظم، حسن صعب…

الأسئلة المركزية نفسها والمنطلقات ذاتها، غير أنَّ الأجوبة اختلفت طبعا، حسب مرجعيات كل واحد من هؤلاء: الدولة الوطنية، المجال القومي،الحداثة، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، المؤسَّسات السياسية، التراث، الدين، الطبقات الاجتماعية، المثقفون والسلطة، التاريخ، التوتاليتارية، الإسلام، أوروبا، إلخ.

تكمن دعوة ملحَّة، للحوار بين المكوِّنات الأساسية، المعبِّرَة عن أهمِّ التيارات الثقافية المنخرطة في سبيل نحت مرتكزات المنظومة المفهومية لإثراء تلك النقاشات: الليبرالية، الماركسية، الإسلاميون، القومية العربية أو الناصرية، الاشتراكية العربية. وقد أبرز حسن حنفي بكيفية مقتضبة الخريطة العامة لتشكُّلات تلك التيارات وأعلامها الرئيسيين.

لكي تغدو مضامين هذا الحوار، واقعية وعملية، وتوجيه بوصلة الإطار النظري الخالص، يلزمه الانكباب على التحدِّيات الرئيسة السبعة، التي رتَّبها حسن حنفي كما يلي:

تحرير الأرض ومقاومة الاحتلال، الحريات العامة، العدالة الاجتماعية، الوحدة في مواجهة التجزئة، الهوية مقابل التغريب، التقدم في مواجهة التخلف، تجنيد الجماهير ضد اللامبالاة: ”تلك محاور رئيسية للحوار بين المثقفين. وهي تكون برنامج عمل وطني موحد للقادة السياسيين. وعلى هذا النحو يجتمع المثقفون والقادة على موضوعات واحدة. يبدأ المثقفون بالحوار وعيونهم على الوطن، ولقد يبدأ القادة الحوار وآذانهم للثقافة” (ص 14) .

بعد تبيان حسن حنفي لضرورة الحوار، وأدبياته وأطرافه ودواعيه العملية قصد استثمار نتائجه، ومواجهة الإشكاليات التاريخية بوعي تاريخي قادر على صهر النظرية ضمن الممارسة، تناول الكلمة محمد عابد الجابري، مقترحا لعبة إمكانية قلب الأدوار واستبدال المواقع، كي يتعرَّف المشرق على نفسه ثانية، من خلال كونه قد أضحى مغربا، افتراضا، والعكس صحيح بالنسبة للمغرب: ”قلت في نفسي: لماذا لا نعكس الأمر فنكلف الكاتب المغربي بالكلام عن المشرق وباسمه، ليتولى الكاتب المشرقي بدوره الكلام عن المغرب وبالنيابة عن أهله، لأنه بهذا النوع من ”تبادل المواقع” يتعرف بعضنا على بعض بصورة أعمق: فالمشارقة يتعرفون حينئذ على صورتهم، لا كما تقوم في وعيهم، فهذه يعرفونها، بل يتعرفون عليها كما تقوم، لا أقول في وعي ”الآخر” (ص 15).

حتما، قصد إعادة تقويم الذات وتكسير أنانيتها المريضة وتصحيح الصورة، دون أحكام جاهزة وتأويلات ماثلة، ثم انطلاق حوار جديد حقيقي وعميق أساسه وكنهه الاختلاف.

يتَّفق الجابري مبدئيا، مع دعوة حسن حنفي إلى استلهام ثقافة الحوار والقطع مع تأويلات الحديث النبوي عن”الفرقة الناجية”، الذي شكَّل فعلا موضوع ارتياب وتشكيك من طرف الفقه الأندلسي تحديدا ابن حزم، أو على الأقل تجلت حينها دعوة إلى تقييم عقلاني، قصد فهم سياقه واستيعاب حيثياته.    

الحديث بخصوص المشرق والمغرب، الذي يجرّ نحو مختلف تداعي الأفكار والاستطراد لايعني الفصل، بل قصده حسب الجابري: ”ربط ثمرات الثقافة العربية الإسلامية بعضها ببعض، هو جعل آخرها زمنا، لا ذيلا لبدايتها، بل تجاوزا لها وتدشينا لبداية جديدة تمنح للأولى تاريخا بأن تجعلها تدخل التاريخ. هذا من ناحية التاريخ.أما من الناحية الجغرافية فالمشرف والمغرب نسبيان، هناك مشارق وهناك مغارب، في كل مشرق ومغرب. كما أن هناك في الثقافة الواحدة خصوصيات محلية هي التي تعطيها خصوصيتها التي تميزها عن الثقافات الأجنبية” (ص 22) .

استغلَّ الجابري المقام والمناسبة، بغية إعادة توضيح حقيقة تصوره لمفهوم القطيعة الابستمولوجية، الذي أثار انتقادا أساسا من طرف بعض مفكِّري المشرق ضمنهم حسن حنفي: ”حسنا فعلتَ عندما أثرت قضية”القسمة” إلى ”مشرق ومغرب” التي قلتَ عنها إن ”البعض منا” غالى فيها وجعل منها ”قطيعة” ودعا إلى”خصوصية مغربية عقلانية علمية طبيعية في مقابل مشرق صوفي إشراقي ديني”. وبما أنني تعلمت من أدب المشرق كثيرا فقد تذكرت المثل القائل: ” إياك أعني واسمعي ياجارة”… على كل حال فأنا لم أسمع بأحد من المغاربة قال بـ”القطيعة” بين المشرق والمغرب.أما أنا فقد استعملت هذه الكلمة في معنى إبستمولوجي خاص وفي سياق خاص لا أحتاج إلى شرحه، فقد سبق أن أطنبت في بيان مضمونه والغرض منه في نفس المكان الذي استعملت فيه هذا اللفظ أول مرة. وأنتَ تعلم أن ”القطيعة” بين مفكر وآخر ينتميان إلى نفس الثقافة، كابن رشد وابن سينا أو كإنشتاين ونيوتن أو كماركس وهيجل، لا تعني الانشطار في الثقافة نفسها. وهذا أنت أعلم الناس به، فالأساتذة أساتذة للطلبة وحسب” (ص 20).

بعد إعادة التعريف بالحوار والمعنى الإجرائي للمشرق والمغرب، شرع حسن حنفي في تناول موضوع الأصولية، مستهلا مقاربته بالتحديد اللغوي سواء كما ورد في أصله العربي من خلال لفظ الأصول ودلالاته العلمية، مع علم الأصول سواء أصول الدين وأصول الفقه، أما الترجمة الأجنبية “Fundamentalism ”، فتشير لدى الدارسين الغربيين إلى: ”النهضة الإسلامية أو الصحوة الإسلامية كما مثلتها أخيرا الحركات والجماعات الإسلامية المعاصرة” (ص 23).

يرفض حسن حنفي، التصور الغربي، الذي ربط الأصولية بالعصر الحديث مع نظام الخميني وكذا وسمها بأشكال التخلف والرجعية والسعي فقط إلى قلب نظم الحكم.

يعدُّ تطور تلك الحركات، تعبيرا عن مرحلة ثالثة من تاريخ الحضارة الإسلامية. تؤرِّخ المرحلة الأولى، إلى الفترة الممتدَّة من القرن الأول غاية السابع، أو العصر الذهبي، الذي شهد انحدارا بعد هجوم الغزالي على العلوم العقلية. ثم، المرحلة الثانية، بين القرن الثامن والرابع عشر الهجري، اهتمَّت خلاله تلك الحضارة بالسعي إلى شرح وتدوين ما أنجزته خلال العصور السالفة، واستمرَّت المرحلة غاية العصر التركي المملوكي العثماني، وبداية تبلور السؤال الشهير: لماذا تأخر المسلمون وتقدم الأوروبيون؟

أما، المرحلة الثالثة، فقد بدأت من القرن الخامس عشر حتى القرن الواحد والعشرين.  

جسَّدت أفكار جمال الدين الأفغاني، بداية حقيقية للإصلاح، بتوظيفه الإسلام لمواجهة الاستعمار والقهر السائد داخليا. لكن نتيجة فشل ثورة أحمد عرابي سنة 1881، غيَّر محمد عبده استراتجية أستاذه الأفغاني، بالتخلِّي عن الثورة والانكباب أولا وأخيرا على إصلاح أخلاقي وتربوي وديني قد يأخذ بالضرورة زمنا طويلا.   (يتبع)

__________________________________________

(1) حسن حنفي/محمد عابد الجابري: حوار المشرق والمغرب، نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر،  1990.

Visited 62 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي