أزهرت شجرة الشعر في ديوان: “لم ينج أحد” للشاعرة أمل صيداوي

أزهرت شجرة الشعر في ديوان: “لم ينج أحد” للشاعرة أمل صيداوي

لحسن أوزين

قضينا حياتنا في صراع مرير

مع صعوبات الحياة

كنا نحاول شق طريقنا

بجهدنا وعرق جبيننا

وكان غيرنا يصل

بأسرع من الصاروخ

لكونه ابن البطة البيضاء

وأما نحن

لا تسألونا: من أنتم؟

حاولنا تمهيد

طريق المستقبل

في بلدنا الأم لأبنائنا

ليعيشوا بقربنا

معززين مكرمين

فكأننا مهدنا لهم

طريق السفر والهجرة

والبعد عنا.

    نحن أمام نص شعري ينتج جماليته، بناء على منظور فني شاعري راق، يعتمد في رؤيته الفنية على قوة الكلمات، وتماسك الجمل في تفاعلها تساندها لإنتاج الدلالات وبث المعنى. الشاعرة تعيد تركيب واقع القهرالمرعب  بتوسط لغوي جمالي فني، ثري بالدلالات والايحاءات. إن النص تعبير قوي عن لحظة شعورية مشحونة بالخيبة والخذلان والآلام التي قلبت المسارات الحالمة للناس، في وطن خيّب أفق توقعاتهم لما بذلوه من جهد وعناء في بناء حياتهم الخاصة والمجتمعية. ودمر انتظاراتهم المستقبلية، فشردهم في بلاد المنافي يتجرعون مرار الغربة والخيبة والضياع. لذلك في مثل هذا الواقع المأساوي من الصعب أن نتحدث عن النجاة. حيث الذاكرة مشروخة، والروح مثقلة بالجروح والعذابات الحارقة،  

لم يكن صدفة أن تكتب أمل صيداوي الشعر، وتتجرأ على خوض هذه المغامرة الجميلة التي أثمرت ديوانها الأول ” لم ينج أحد”. لأن من يعرف قليلا عن تاريخها الشخصي، وتجربتها التاريخية الذاتية، يعلم أن جدليات كثيرة شكلتها، من الفرح والحزن، الصبر والألم، القمع والصمود، الحب والكراهية، اليأس والأمل…

فكل المواقف والظروف الصعبة القاهرة والمحبطة، المشحونة بالحزن والقمع والكراهية والتبخيس والتمييز…، لم تنل من صمودها وعزيمتها وإرادتها العميقة في الانتصار. وتقوية ذاتها فكريا وعاطفيا وأخلاقيا وإحساسا جميلا بعشق الحياة ونبض الأمل. هذا يعني أن تفكيرها الهادئ المرن والعميق، أكسبها منظورا واسعا قادرا على رؤية مختلف وجوه الحياة. وعدم الانغلاق في رؤية ضيقة أحادية لكل حالات الظلم والقهر والحقد والكراهية التي واجهتها في سيرورة حياتها الاجتماعية والمهنية. وبعبارة أخرى يمكن القول إنها اعتبرت مشكلات الواقع وتناقضاته المختلفة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمهنية والعلائقية، جزءا موضوعيا في تكوين وبناء الذات، تجربة وخبرة ومعرفة وقيمة وتعبيرا إبداعيا فنيا، و جماليا. ليس لأن القهر والألم مطلب ضروري لتكوين الذات، أو قدر جميل يفرح له الناس، بل لأن الوعي الراقي أمام مثل هذا الواقع،  ينضج الشعور، ويمنح الانفعال موجهات الفعل والنهوض، ويوسع الرؤية في اختيار أشكال الفعل الفني والجمالي والفكري والاجتماعي التاريخي اليومي، تجنبا للانكسار والسقوط، وضمانا للبقاء القادر على التجدد والتغيير والولادة من جديد.

هكذا فعّلت الشاعرة منابع جمالها الفياض، وقيمتها الإنسانية النبيلة، من خلال شحذ عزيمة إرادتها، وتقوية قدرتها البناءة على الاستمرار والصمود، في وجه مختلف أشكال الظلم والقهر. مستندة إلى نسغها الحي على التجدد والفاعلية المثمرة، بأفكار وعواطف وأحاسيس، ولغة فنية فكرية تترفع عن الكراهية واليأس والحقد والرغبة في الانتقام. لذلك رأت في كل المحن والآلام التي أرخت بثقلها الرهيب على طموحاتها وتطلعاتها وآمالها، فرصة للتعلم وبناء الاقتدار الذاتي الفني والمعرفي والمهني. وهذا ما جعلها تقول:

أتوجه لجميع من ظلموني وأقول:

شكرا لكم

لكم الشكر أيها الظالمون

لأنكم أنطقتموني الشعر من كثرة تعذيبكم إياي

 وكأنكم حفرتم في كياني أخدودا وحفرا عميقة

ولكن يا للمفاجأة

 لقد كشفت هذه الحفر عن كنز دفين

سوف أصافحكم واحدا واحدا

 وأشكركم

فقد أسديتم لي معروفا لا ينسى

 لقد استخرجتم الثروة التي في داخلي. ( من كتاب شبكة مندي أنت جميلة 31و32)

لذلك قلنا بأن المسارات المرعبة والمؤلمة، من تهميش وإقصاء وتمييز تسلطي ذكوري، خلال تجربتها المهنية كمهندسة  زراعية، أسهمت في إثراء معرفتها، وإغناء تجربتها العقلية والوجدانية. وأسهمت في انفتاحها الإنساني على الذات والآخرين والعالم. والجميل أيضا في شكل فهمها وتفهمها وفلسفتها لما عاشته من عذابات واحتقار، أنها اشتغلت على ذاتها معرفيا وعلميا وجماليا  وفنيا وإنسانيا. فامتلكت لغتها طاقة تعبيرية، شعرية وشاعرية. وهذا ما يتجلى في كلماتها، جملها ومقاطعها…، كما يتضح أيضا على مستوى الرؤى والرؤيا الثاوية في عمق النص، والحس الفني الجمالي. دون أن نغفل تمظهره كذلك على مستوى الدلالات والمعاني التي تنتجها من نص شعري لآخر.

من قال لكم إن الحكاية انتهت

من قال لكم إن حيرة الفقد

وذهول الرحيل اختفيا

وكتبت لهما النهاية

لايمكن أن نجزم بأمرِ

قلوبنا وأحاسيسنا

لأنها ليست سبورة

نكتب عليها آلامنا وأحلامنا

ثم نمحو ماكتبناه

ونمضي كأن شيئاً لم يكن

ياحكاية العمر

استمري بالهذيان

ماذهب لن يعود

ولكنه باقٍ في القلب يسود15

لقد جابهت أمل صيداوي شر وظلم ووقاحة الحياة والعلائق الاجتماعية، بطاقة شعرية خلاقة للحب والسلام والوئام والعطاء، والتآزر والتضامن. والقدرة على التفاعل والشعور بآلام الآخرين. وتقوية الإحساس الجمالي، و الذكاء الانفعالي العاطفي الإنساني، والحس الفني المفعم بالرؤى الساعية في خدمة كل ما هو جميل إنساني. وهذا ما يجعل شعرها مسكونا بشعرية فنية شائقة وماتعة. وهذا ما يجعل الإنسان/ القارئ الذي تتوخى تفاعله ووجوده جميلا سخيا في العطاء والفعل الاجتماعي الإنساني.

 لم يعد البكاء في هذا العصر يسري عن الهموم

وعادت ذكراه تغزو قلبي الظمآن إلى رؤيته

وتقلبت مشاعري

كأمواج البحر الهادرة

تهدأ بعد ثورة…

تضحك بعد زبد واكفهرار…

أهدأ أهدأ وأعود أفكر…

الفكرة تنضج تصبح ثمرة

الطفلة كبرت

أصبحت صبية

والعندليب عاد يغرد ويصدح بالألحان

وأشرقت الشمس بعد ليل طويل… طويل…

وعاد الكلام على اللسان

الحب يعمُر كل الكون

يلف كل الناس بأجنحته الطيبة اللطيفة31و32

لهذا يمكن القول أن تجربتها الذاتية التاريخية الاجتماعية، كانت وراء تفجير القدرة التعبيرية، ونسج الصور الشعرية الساحرة المعاني والايحاءات. الشيء الذي يعبر عن تفجر طاقة إبداعية خلاقة جاعلة من الشعر نبض القلب. كما عملت هذه السيرورة الذاتية من المخاضات على بلورة وتوليد قيم جمالية وفنية، تطهيرية للنفس من عفن وحل وبؤس الواقع المر والمأساوي. وتقوية اللحظات الشعرية التي أنتجتها مجموعة من العوامل والمؤثرات والعذابات الحارقة: القهر والظلم والتهجير والغربة…، التي تفاعلت معها الشاعرة صيداوي بصورة شاعرية إيجابية، رغبة في الحصول النفسي على تمام تجربة حسن الحال، كمبدأ إيجابي للتفكير والإبداع. وذلك للتغلب على ما يذلها ويهينها، ويقهرها ويعمل على هدر وجودها، وتبخيس كينونتها الإنسانية. هكذا كان يتشكل مفهوم الذات والوطن والإنسان في لغتها الشعرية الجميلة الدافقة محبة وجمالا ومتعة فنية.

بالحب التقينا

وبالحب افترقنا

نار في قلبينا

واحتراق في شفتينا

ووداد يعبر المسافات الطويلة

ليصل إلى أرض حزينة

تتعمّد بماء اليقين

وتسبّح خالق القمح والروابي

والورود والياسمين

إلى أرضٍ يابسة من القهر

تتعطّش لأمطار مباركة تعيد لأبنائها المحبة

تعيد لأبنائها اختيار الطريق

تزيل مشاعر الكره والحقد والكذب والرياء من النفوس

لتعيد سريان الدم النقي في الشرايين والعروق

ليحيا الوطن من جديد12

إن ما يميز النصوص الشعرية لهذا الديوان هو اشتغال الشاعرة على اللغة، في القدرة على إنتاج تعددا دلاليا، ومسحة جمالية، وتناسقا خصبا ثريا في العلاقات السياقية، والتركيبية التجاورية بين الكلمات والجمل خدمة للصور الشعرية الدالة عن تدفق شلال شعري ولدته تجربة الألم. الى درجة أن الكثير من المقاطع تفرض نفسها فنيا وجماليا ودلاليا على القارئ. مما يؤكد قوة اللغة على تفجير الطاقة التعبيرية الإبداعية لدى الشاعرة.

سلام للياسمين

رمز الحنين

سلام لشوق

طال للحبيب

سلام للصبا والجمال

والحب والوئام

سلام لقلب وفيٍ

للوعد بعد الخصام

سلام لنقاء وطهارة

وصدق وابتهال

سلام لذكريات طالت

لعمر مضيء لا يعرف

شيئاً اسمه المحال

سلام للؤلؤ تَبَسّمَ

لقلوب عطشى للثناء188

لم يكن لهذه القيم الفنية والجمالية أن تتأسس، لولا ذلك التلازم البنيوي الجدلي بين ماعاشته الشاعرة من تنشئة اجتماعية ثقافية معرفية، وجدانية علائقية، ثرية وخصبة. إلى جانب تجارب مريرة حنكتها، وصلبتها، ووسعت أفقها الفكري والقيمي الأخلاقي. كما فتحت منظورها تجاه المؤثرات والهزات والصدمات والرضات التي تعرضت لها في تاريخها الشخصي. دون أن ننسى شغفها وعشقها للكلمة، بوصفها طاقة تعبيرية تطهيرية لكل الجروح والآلام التي تؤثر في النفس والعقل والأفكار سلبيا. إلى درجة تحطيم وتدمير الذات.

أمل صيداوي لم تنطل عليها نزوة الموت، لأنها تملك زادا فكريا وقيميا وطاقة تعبيرية فنية. بالإضافة إلى تمكنها من أدوات وآليات صنعة الإبداع الشعري.  وهذا ما جعلها تخوض الجدليات التي أشرنا إليها

من موقع الرؤى والدلالات والايحاءات النابضة بالحب والجمال والحياة.

لم ينته العالم بعد…

لايزال العصفور يغرّد

متنقلاً من غصن إلى غصن

لايزال هناك ربيع

لاتزال هناك أزهار

وهناك أشجار تتغاوى

بخضرتها اليانعة

وأغصان تصطفق فرحة

ومزهوّة أمام فراشة تحوم حولها

هناك غيمة تحمل معها الخير والعطاء

هناك أغنيات جميلة وألحان أجمل44

بهذه اللغة الجميلة الفياضة بالدلالات الشعرية العميقة، ومن خلال هذه الرؤى الفنية الكامنة في التناسق والاعتماد المتبادل الجمالي والدلالي بين الجمل والمقاطع حضرت كل آلام شعبها ،ووثقت كل المصائب والويلات الطبيعية والسياسية، وأرّخت لعذابات كل المآسي الفردية والجماعية والمجتمعية. بلغة شاعرية ساحرة مشبعة بالأمل رغم قساوة المحنة الرهيبة، والتحول المروع من الربيع إلى الصقيع، من الحلم الى كابوس التهجير والغربة وبلاد المنافي. ورغم ذلك تصر الذات الشاعرة بحجم الكارثة والمأساة ألا تضيع الوطن. لذلك تتسع في رؤيتها الفنية والفكرية لتصير هي نفسها مأوى، مسكنا دافئا حاضنة للوطن.

جئتُ من زمن الربيع

وأنا الآن في زمن الصقيع

أحاول أن أعيش

أحاول أن أفتح صفحة الصفح والنعيم

مرّة هي الحياة تأخذ منا ما تريد

طفلة كنتُ ومازلتُ… وفؤادي عابر إلى بحرٍ عميق

بذرة الحب خلّفت أشواكا » على الطريق

فتعالي معي إلى غربة العمر في بلد بعيد

لنداوي جراحنا فتنزف من جديد

ونبقى هناك كشجرة مزروعة في أرض من جليد

هواؤها وماؤها يأتي بأمرٍ من غريب

لكن محبتها للحياة شيء عجيب

يا أيتها النفس كوني قوية كالفولاذ والحديد

ولا تستسلمي للحزن لأنّك آيلة إلى الزوال وهذا شيء أكيد27

قارئ هذا الديوان سيلاحظ كيف احتضنت أمل صيداوي كل المحن والآلام، والقضايا الإنسانية العادلة وطنيا وعالميا. ورثت بحزن عميق أسماء بعينها، حفرت في جوفها الحي أخاديد الحزن والألم والحب النبيل. كما تفاعلت مع العمق الإنساني الكامن في العطاء الشعري والإبداعي عند الكثير من الشعراء من جبران إلى محمود درويش.

أمل صيداوي، لم ينج أحد،  (دار الطليعة الجديدة للنشر والتوزيع، ط الأولى 2024).

Visited 29 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي