بين الصوابيّة السياسيّة وحريّة التعبير
نضال آل رشي
“إذا كانت حرية التعبير تعني شيئاً، فهي تعني الحق في إخبار الناس بما لا يريدون سماعه.”
هكذا قال جورج أورويل، كاتب الرواية الشهيرة “1984” والناقد الكبير للرقابة وقمع حرية التعبير.
قد تكون كلمات أورويل متطرفةً بالنسبة للبعض في يومنا الحاضر ولكنها باعتراف الغالبية العظمى من علماء الاجتماع في عصر ما قبل أورويل وما بعده، هي الأداة الوحيدة لقياس مدى جودة مناخ الحريات العامة في أي مجتمع، وسبيله الوحيد للتطور على المستويين الفكري والثقافي ومنعه من السقوط في فخ الركود والانحلال.
اليوم وخلافاً لوصيّة أورويل باتت نقاشاتنا عبارةً عن حقول ألغام، يتقافز فيها أطراف النقاش خوفاً من أن يدوسوا لغماً يؤدي إلى إقصائهم ليس فقط على مستوى النقاش وإنما أيضاً على المستوى الاجتماعي، هذا إذا لم تتعقد الأمور أكثر ويخسر أحدهم مصدر رزقه او حتى يمثل امام القضاء.
معاداة السامية (Anti-Semitism)
في القرن المنصرم كانت هذه الألغام مقتصرةً على مفهوم “معاداة السامية” والتي تشير إلى الكراهية أو التحيّز أو التمييز ضدَّ اليهود كجماعة عرقية أو دينية.
كراهية اليهود تمتد إلى آلاف السنين (أسبابها ليست محل نقاشنا في هذا المقال)، وبلغت ذروتها خلال فترة الهولوكوست (المحرقة)، عندما قام النظام النازي في ألمانيا بإبادة حوالي ستة ملايين يهودي خلال الحرب العالمية الثانية، في واحدة من أسوأ الجرائم ضد الإنسانية، مما دعا الدول والمنظمات الدولية إلى فرض قوانين صارمة لمكافحة معاداة السامية ومنع تكرار حدوث شيء مشابه في المستقبل.
في الحين الذي تعتبر فيه معاداة السامية مشكلة حقيقية تستوجب مواجهتها بشدة، إلا أن الاتهامات بمعاداة السامية أصبحت كابوساً حقيقياً لأجهزة القضاء حول العالم حيث بات مثول أي يهودي في قاعات المحاكم تهديداً لنزاهة المحكمة ويستوجب ردّات فعل شعبية جامحة رغم وضوح القضايا وثبوت الجرم على المتهمين. اتسعت الدائرة بعدها ليستخدم المفهوم في قمع أي اعتراض على سياسات الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني وتوجيه سياسات الدول تجاه القضايا المتعلقة بإسرائيل وتشويه سمعة الخصوم السياسيين وإضعاف الأحزاب المنافسة في الكثير من البلدان.
الصوابية السياسية (Political Correctness)
هي توجيه سياسي واجتماعي يهدف إلى تغيير الخطاب العام والسياسات العامة ليصبحا أكثر حساسية تجاه الفئات المظلومة أو المضطهدة من خلال استخدام لغة وسلوكيات تحترم جميع الفئات الاجتماعية والثقافية، خاصة تلك التي تعرضت للتهميش أو التمييز عبر التاريخ.
على سبيل المثال، بدلاً من استخدام كلمة “معاق” لوصف شخص لديه إعاقة، تُفضل الصوابية السياسية استخدام عبارة “شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة أو ذوي الهمم”، وذلك لتجنب الإساءة وتعزيز الاحترام والشمولية وتبيان أنّ هؤلاء الأشخاص يمكنهم الحياة بحريّة وأن بإمكانهم أن يكونوا فاعلين في المجتمع إذا ما وفرنا لهم بعض الاحتياجات الخاصة للتغلب على إعاقتهم.
هنا قد يسأل أحدهم ما علاقة استخدام مثل هذه المصطلحات أو الموضوعات بالسياسة وأنّ من الأجدر تسمية هذا المفهوم بالصوابية اللغوية أو الاجتماعية، ما يدعونا للوقوف أمام ما قاله يوماً الكاتب والمفكر الأمريكي الكبير جيمس بالدوين (James Baldwin)” اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل وإنما أداة سياسية ودليل لرسم حدود العالم الذي نعيش فيه”. بناءً عليه فإن الطريقة المُثلى لتغيير النظام السياسي الاجتماعي في مكانٍ ما يجب أن يبدأ دائماً عبر إعادة تشكيل الخطاب واللغة.
ثقافة الإلغاء (Cancel Culture)
إنّ الغاية الكبرى من وراء تبني وتطبيق الصوابية السياسية هي خلق مجتمع أكثر عدالةً وتساوياً ولكن كأي مفهوم أو فكرة أو اختراع أو اكتشاف علمي لا يلبث البعض من أصحاب النوايا السيئة أو الجهلة أن يجدوا الطريقة المناسبة للعبث وتفريغ الشيء من محتواه ليتحول إلى أداة للقمع والانتقام أو للتفاخر والبريستيج أو لتحقيق الغايات الشخصية، وهذا تماماً ما نعيشه في يومنا الحاضر.
في عام 2017، في شركة جوجل، قام المهندس جيمس دامور بنشر مذكرة داخلية يعبر فيها عن آرائه حول التنوع بين الجنسين في الشركة، ويقدم تفسيراته العلمية حول الفروق بين الرجل والمرأة في مجال التكنولوجيا قائلاً ” إنّ جانب من الاختلاف في القدرات بين الرجال والنساء يرجع إلى أسباب بيولوجية قد تفسّر الاختلاف في تفضيل كلا الجنسين لبعض المهن على مهن أخرى وهذا قد يعطي توضيحاً حول لماذا لا نرى تمثيلاً متساوياً للنساء والرجال في قطاع التكنولوجيا”. على الرغم من أن دامور أشار إلى بعض الأبحاث العلمية لمراكز دراسات مرموقة لدعم وجهات نظره، إلا أن بعض الموظفين رأوا أن محتوى المذكرة يتضمن تمييزاً جنسانياً (جندرياً) متحيزاً ضد النساء مما أثار جدلاً واسعاً داخل الشركة وخارجها لم ينتهي بفصل دامور من عمله وحسب بل وتشويه سمعته وتهديده وعائلته بالقتل.
ساندر بيتشاي المدير التنفيذي لشركة جوجل في ذلك الوقت قال “إن ما أورده جيمس دامور في مذكرته مثير للاهتمام ويستحق النقاش ولكنه ينتهك أجزاءً من مدونة السلوك الخاصة بالشركة”.
السؤال هنا ليس إذا ما كنّا نتفق مع جيمس دامور أم لا وليس فيما إذا كان رأيه صحيحاً أم خاطئاً، وليس فيما إذا كان هو شخص جيد أو سيّء، السؤال هنا “كيف لرأي مدعوم بدراسات علميّة وإحصاءات بحثيّة ومثير للاهتمام ويستحق النقاش بشهادة الإدارة أن يودي بصاحبه إلى الإقصاء الاجتماعي وتشويه السمعة والفصل من العمل والتهديد بالقتل؟”
ج. ك. رولينغ مؤلفة سلسة “هاري بوتر” الشهيرة عبّرت عن آرائها حول قضايا تتعلق بالجندر والهوية الجنسية، وخاصةً فيما يتعلق بحقوق الأشخاص المتحولين جنسياً، فما لبثت أن تعرضت لهجوم شديد وانتقادات واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي وتهديدات وحملات مقاطعة.
جوناثان هايدت عالم النفس والأكاديمي الشهير وصاحب كتاب “العقل السليم”، انتقد ما يراه توجهاً متزايداً نحو قمع الآراء المختلفة في الجامعات، وأن علينا مجابهة السلوك الخاطئ وليس الآراء الخاطئة لأنها مهمة للتطور الفكري وأن ما يحصل “خطر على التفكير الحر والنقاش الأكاديمي”، ما أدى إلى تعرضه للفصل من الجامعة والمقاطعة.
عالم الأحياء الشهير ريتشارد دوكينز تعرض عام 2017/2018 إلى حملة تشهير واسعة أدت إلى إلغاء محاضرات كان من المقرر أن يلقيها في جامعات أمريكية بسبب الضغوط التي مورست على الجامعات من قبل مجموعات الصوابية السياسية من طلّاب وأعضاء في المجتمع الأكاديمي الذين اعترضوا على بعض آرائه المثيرة للجدل حول الدين وأصرّوا على أنَّ الجامعات يجب أن تلغي المحاضرات لتجنب الإساءة لمشاعر الطلاب المسلمين.
الامتثال السطحي (The superficial compliance)
الأمثلة على هذه الهجمات البشعة كثيرة جداً، يكفي أن تطرح سؤالاً أو رأياً مختلفاً في قضايا كالجندر والقوانين المتعلقة بحقوق المثليين والتحوّل الجنسي أو العلاقات الجنسية بين الأطفال أو حول الأعراق والإثنيات والديانات المختلفة، حتى تستثير الغريزة الهمجية لجيوش بشرية وإلكترونية شغلها الشاغل ليس التوعية ولا النقاش وإنما تصيّد كلمة صدرت عن أحدهم حتى يتم نصب محكمة ميدانية يكونون فيها الادعاء والقضاة والشهود بآنٍ معاً، ودائماً ما يصدر فيها الحكم على المتهم بالإعدام الاجتماعي لثبوت صلته بالرجعية والراديكالية.
في العام 1972 طور عالم النفس إيرفينغ جانيس (Irving Janis) نظرية “التحيز الجماعي”.
تشير النظرية إلى أن الأفراد في المجموعات التي لا تؤمن بالحق في حرية التعبير يميلون إلى القيام بسلوكيات غير عقلانية واتخاذ قرارات متسرعة وغير مبنية على الحقائق وتجاهل الأدلة المخالفة لآرائهم بحيث يكون الحفاظ على توافق المجموعة أهم بالنسبة لهم من الدقة أو الحقيقة.
إنَّ الأغلبية الساحقة من هذه الجيوش المتربّصة مثالٌ حيٌّ على “الامتثال السطحي”، أحدهم لم يقرأ كتاباً أو حتى يتعب نفسه بالذهاب أعمق من منشور على السوشل ميديا أو تغريدة لأحد قادتهم من أصحاب الأجندات المظلمة. لا يهم هؤلاء فيما إذا كان رأيك مدعوماً بالعلم والتجارب الاجتماعية، لا يهمهم إنك لا تقوم بأي سلوك عنيف أو تحرّض على العنف، ولا يهمهم الدفاع عن الأقليات والفئات الضعيفة والمهمشة، كل ما يهمهم أنك تطرح رأياً مختلفاً أو تجرأت على التفكير خارج الصندوق.
أوجه التشابه مع الحركات الدينية الراديكالية والأحزاب الشمولية
كما تفرض الحركات الدينية المتطرفة والأحزاب الشمولية رؤية محددة للصواب والخطأ وتستخدم الرقابة والعقاب لضمان الالتزام بتلك الرؤية، تفعل الصوابية السياسية الحالية الشيء ذاته عندما تستخدم “ثقافة الإلغاء” والضغوط الاجتماعية لقمع الآراء المخالفة، مما يخلق بيئةً من الخوف والرقابة الذاتية ويؤدي إلى تشويه الحوار والمشاركة الديمقراطية.
على الرغم من اختلاف السياقات الأيديولوجية فإنّ الصوابية السياسية في شكلها المتطرف تشترك في عدة سمات مع سياسات الحركات الدينية المتطرفة والأحزاب الشمولية. هذه السمات تركز بشكل كبير على فرض أيديولوجيا صارمة تعتبر أن هناك طريقة واحدة صحيحة للتفكير والتحدث عن القضايا الاجتماعية والسياسية، تضطرها إلى قمع حرية التعبير وتقييد الخطاب وإلغاء الأفكار واقصاء المعارضين (ثقافة الإلغاء)، ما سيؤدي بدوره إلى خنق النقاش الحر والتنوع الفكري والتفكير النقدي.
لكن أخطر التشابهات هو “استبدال الحوار بالنزاعات” ما يؤدي إلى قطبية شديدة في المجتمع، تجعل النقاش العام مبنياً على الهجوم والدفاع بدلاً من الحوار البنّاء فأصبحت الخلافات الفكرية معركة بين “الخير” و”الشر” بدلاً من كونها محادثة متوازنة.
هذه القطبيّة الشديدة بدأنا نشهد نتائجها في العقدين الأخيرين في صعود الحركات اليمينيّة المتطرفة التي تغذَّت بدورها على ضحايا وأخطاء الصوابية السياسية المتبنّاة غالباً من قبل الأحزاب اليسارية والتقدمية.
الانهيار الوشيك (Imminent collapse)
من أكبر الأخطاء التي وقعت فيها الصوابيّة السياسيّة هو الاعتقاد بأنها قادرة على تحقيق العدالة المطلقة. العدالة المطلقة، كما يتم تصورها في الصوابية السياسية، غير واقعية لأنها تفترض أن الأفراد والمجتمعات يمكنهم الوصول إلى حالة من المساواة الكاملة في كل شيء. لكن الواقع والعلم يظهران أن المجتمعات معقدة أكثر بكثير، وأن السلوك البشري متنوع بشكل كبير.
التاريخ بدوره واضح للغاية بهذا الصدد، ويؤكّد أنّ فرض العدالة بطريقة متطرفة يؤدي في كثير من الأحيان إلى عواقب عكسية. أقرب مثال إلى عصرنا هو محاولات الأحزاب الشيوعية فرض العدالة الاقتصادية عن طريق سياسات صارمة أدت في النهاية إلى انهيار سياسي واقتصادي واجتماعي، نتيجةً لتجاهل الفوارق الفرديّة والتفاوت في القدرات وتعقيدات الاقتصاد.
إيميل دوركهايم (Émile Durkheim) عالم الاجتماع الفرنسي وأبرز مؤسسي علم الاجتماع الحديث، يرى أن المجتمع يعمل كوحدة متكاملة، حيث يتم تنظيم القيم والمعايير فيه لتعزيز التماسك الاجتماعي. ومع ذلك، حذّر دوركهايم بشدّة من فرض قواعد صارمة تعوق حريّة الأفراد، لأن ذلك سيؤدي حتماً إلى ما اسماه (الأنومي ( أو بلغتنا “فقدان المعايير الاجتماعية”.
إن فقدان المعايير الاجتماعية، يعني حالة من التفكك الاجتماعي وفقدان القيم والمعايير التي تنظم سلوك الأفراد داخل المجتمع وتضمن تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وعندما تُفقد هذه المعايير أو تصبح ضعيفة، كما يحدث في حالات فرض أفكار كالعدالة المطلقة والمساواة، فإن المجتمع يُصاب بحالة اضطراب تؤدّي إلى انهياره.
ختاماً، بدأت الصوابية السياسية كمحاولة لتحقيق احترام أكبر للمجتمعات المهمشة، وحماية الفئات المستضعفة، لكنها تحولت إلى أداة لقمع حرية التعبير وتوجيه المجتمع نحو معايير متطرفة، وأدت إلى شعور الكثير من الأفراد بالخوف من التعبير عن آرائهم بحرية.
عندما يشعر الأفراد بالخوف من التعبير عن آرائهم بحرية، يتراجع النقاش العام، وتضيق المساحة للأفكار المختلفة، ويبدأ التنوع الفكري في التراجع، ويصبح الأفراد أكثر حرصاً على اتباع السائد، وتتآكل الثقة داخل المجتمع وينقسم على نفسه بصمت ويتحول إلى مجتمع منافق يبدي غير ما يبطن ويدافع عما لا يقتنع به، ولن يدرك أصحابه مدى تآكله وانقسامه حتى ينهار ككتلةً من الرماد في مواجهة أول تحدٍّ داخلي أو خارجي.
للحول دون ذلك يجب تعزيز ثقافة الحوار المفتوح والصريح دون قيود أو ضوابط ودون فرض معايير جامدة للصواب والخطأ، ودون خوف من الانتقام أو الإقصاء.
يجب الفصل بين السلوك المؤذي والاختلاف بالرأي، ووضع حدود واضحة بين الخطابات المحرّضة، وبين الآراء المختلفة التي تعكس وجهات نظر متنوعة حول القضايا الاجتماعية.
يجب خلق بيئات تعليمية أكثر شموليّةً واحتراماً لحرية التعبير في المدارس والجامعات وتدريب الأساتذة على كيفيّة إدارة هذه النقاشات بطريقة تعزز احترام الآراء المختلفة دون تشجيع الكراهية والعنف.
يجب إعادة النظر في الصوابية السياسية وثقافة الإلغاء، ووضع ضوابط قانونية لحماية الفئات المستضعفة وليس لكبت الحريات وتكميم الأفواه.