محمد الحيحي.. رجل الممكن في زمن المستحيل
جمال المحافظ
تحل يوم الأربعاء 11شتنبر 2024، الذكرى 25 لرحيل محمد الحيحي، مربي الأجيال وأحد رواد الحركة التطوعية المغربية الرئيس الأسبق للجمعية المغربية لتربية الشبيبة AMEJ التي أحدثت سنة 1956 والجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي كان من بين مؤسيسها عام 1979.
فعلى الرغم من انصرام عقدين ونصف على رحيل محمد الحيحي (1928- 1998)، فإن القيم السياسية والتربوية والحقوقية التي ناضل من أجلها قيد حياته، تظل في الألفية الثالثة، ذاكرة حية ونبراسا يمكن أن تستلهم منها الأجيال المتعاقبة، خاصة في مجال التطوع والتربية والعمل المدني الجاد . بالفعل لقد كان رجل الممكن في زمن المستحيل.
فالحيحي الذي مارس السياسة والعمل المدني بأخلاق، وكان يحظى باحترام كافة الفاعلين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم ومن مختلف المواقع، آمن قيد حياته بالدور الطلائعي والحاسم للتربية في ترسيخ الديمقراطية وإشاعة ثقافة حقوق الانسان، وترسيخ قيم الحرية والمواطنة والتسامح ونبذ التطرف والانغلاق والاستيلاب، وهو ما نحتاج إليه اليوم .
محمد الحيحي كان من بين المساهمين في إطلاق مشروع طريق الوحدة سنة 1957، وترأس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان AMDHما بين 1989 و 1992، في مرحلة حاسمة من تاريخ الحركة الحقوقية . ولدوره الريادي في الدفاع عن حقوق الإنسان وإشاعة ثقافتها، جرى تكريم الحيحي في نيويورك سنة 1991 من طرف منظمة HUMAN RIGHTS WATCH الأمريكية، كأول مغربي وعربي يحظى بهذا التشريف الدولي.
وإن كانت مياها كثيرة جرت تحت جسر العمل السياسي والمجتمع المدني، رافقتها إشكاليات جديدة، نتيجة المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، منها ما يلاحظ من تراجع في منسوب الثقة ليس فقط في الأوساط المسؤولة عن تدبير الشأن العام وهيئات الوساطة، بل امتد ذلك الى غالبية هيئات المجتمع المدني رغم ما أصبحت تتمتع به من صلاحيات قانونية وامكانيات مادية وموارد بشرية، بالمقارنة مع مثيلاتها في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.
فدستور 2011 خص المجتمع المدني بمكانة مهمة، حينما نص في الفصل 12 على أن الجمعيات المهتمة بالشأن العام والمنظمات غير الحكومية، تساهم في إطار الديمقراطية التشاركية في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها.
كما أضحى المجتمع المدني التطوعي، على المستوى الدولي، يشكل عنصرا مهما في أية استراتيجية، تستهدف تحقيق التنمية المستدامة والحد من الفقر والسلم والصحة والتعليم وتمكين الشباب وتحقيق التكامل الاجتماعي والرعاية الاجتماعية والعمل الإنساني، وهو التصور الذي سارت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة وزكاه الأمين العام للأمم المتحدة، حينما دعا الى إدماج التطوع في الخطة الأممية للتنمية المستدامة برسم سنة 2030 .
وإذا كان من الإيجابي أن يعرف عدد الجمعيات على المستوى الوطني، ارتفاعا على المستوى المركزي والجهوي والمحلي، وتشمل أنشطة المنظمات غير الحكومية، عدة مجالات وتخصصات جديدة، فإن هذا الارتفاع الكمي، لم يوازيه تطورا على المستوى النوعي، مما أفقد العرض المدني في غالبيته، أي مدلول من جهة الجودة والتميز خاصة في ظل تحديات الثورة الرقمية، وغابت الفعالية، التي لم تكن لها الانعكاسات والنتائج على الفئات المستهدفة.
بيد أن ما يميز تخليد ذكرى محمد الحيحي خلال هذه السنة، مبادرة ” حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي ” التي تأسست في الخامس من دجنبر 2010، بمناسبة اليوم العالمي للمتطوعين، رعاية وإصدار كتاب بعنوان ” محمد الحيحي.. ذاكرة حياة..” الذي يختصر بصفة عامة، مسار تاريخي طويل لمربي الأجيال، في مجالات التربية والسياسة وحقوق الانسان والمجتمع المدني، بتسليطه الضوء على الأدوار الطلائعية التي قام بها الراحل في مختلف الميادين.
وإذا كانت هناك أهداف متعددة من وراء إنجاز هذا المؤلف، من طرف عضوي ” حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي” عبد الرزاق الحنوشي الفاعل الحقوقي والمدني وجمال المحافظ الكاتب والصحافي، في طليعتها، المساهمة في ترسيخ ثقافة الاعتراف،وحفظ الذاكرة حية، فضلا عن إثارة الانتباه إلى هذه الشخصية الوطنية، وجعل سرديتها، قدوة للأجيال الصاعدة، ونبراسا لها، مع ملائمتها بأسئلة الراهن حتى تظل هذه المبادئ حية، في وجدان الشباب الذي راهن عليه الراحل في سبيل بناء المغرب الجديد، مغرب التضامن والديمقراطية وحقوق الإنسان، والحداثة والتقدم .
فمحمد الحيحي الذي كان قيد حياته، دوما رجلا وحدويا استثنائيا، وجسد في سلوكه وعمله، كل القيم الإنسانية النبيلة، وخصال الوفاء. فضلا عن سعيه الدؤوب للم شمل. رغم أنه كان يفضل دوما ” أن يتحرك في الظل وبعيدا عن الأنوار على غرار كثير من أقرانه عصرئذ. ربما كان الاهتمام في الإعلام والمناسبات ينصبّ على “نجوم” الحركة الوطنية والحزبية والسياسية من القيادات والزعماء والمؤثرين منهم، دون غيرهم من قيادات المجتمع المدني بمختلف أطيافه، فقط لأنهم يشتغلون في عمق المجتمع وعلى هامش مؤسسات الدولة دون صخب السياسية و”صراعاتها” ، كما اهتدى الى ذلك، الأستاذ الجامعي ادريس جبري، في قراءته المتميزة لهذا الكتاب الجديد، والذي نجح في اختار عنوان دالا لها هو : “سؤال الشباب وذاكرة المستقبل تأملات في كتاب.. محمد الحيحي ذاكرة حياة.. “.
لم يكن الحيحي معروفا بمواقفه السياسية فقط، بل بفلسفته التربوية والأخلاقية والاجتماعية التي لامست مجالات متعددة متنوعة تجمع بين ما هو جمعوي وحقوقي وتطوعي في ظل قيم إنسانية نبيلة مشرقة ومشرفة. وهو الأمر الذي جعله يؤسس لمدرسة كرست اهتمامها للاشتغال مع الشباب، توجيها وتدريبا وتأطيرا ونصحا ورؤية… كما جاء في تقديم الكتاب تحت عنوان، “الحيحي تراث حي ومعين لا ينضب”.
فلمن قرأ كتاب، محمد الحيحي ذاكرة حياة، وتمعن في محتوياته، وتوقف عند مفاصله الكبرى، واستحضر حيثيات تأسيس الجمعية المغربية لتربية الشبيبة وخلفيات من أمر بها وأشرف عليها، يدرك..، أن سؤال الشباب وإعداده وتأطيره وتأهيله لبناء مجتمع الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، هو مدار الكتاب، ورسالة محمد الحيحي ومن كان معه. فلا تجد في الكتاب شهادة أو تعليقا أو بوحاً أو سرداَ… إلا وكان الشباب مداره. فسؤال الشباب سؤال يخترق الكتاب من ألفه إلى يائه”، كما يؤكد ادريس جبري أستاذ البلاغة واللسانيات وتحليل الخطاب بجامعة مولاي سليمان ببني ملال.
وإذا كان الراحل يـعتــبـر المواطنة مشاركـةً في كل ما يسـاعـد على خدمة المجتمع والوطن، ويُـجسّــد الانتماء بـكيفية إيـجابية ومـلــموسة، وهو ما جعل محمد الحيحي: يبقى حيا في ذاكرة الناس. . كما كتب في استهلال الكتاب، الأديب والجامعي محمد برادة الذي عايش محمد الحيحي. ربما الحيحي هو الآن في العلياء يرقبنا ماذا سنفعل؟ سيسألنا: الآن والمغرب يمر بظروف صعبة ماذا تفعلون؟ إن أحسن ما يرضيه في إحياء ذكرى غيابه، أن ننخرط بكل قوانا في عملية البناء والتغيير والمشاركة الاجتماعية، وبث الأمل في صفوف الشباب، كما جاء في شهادة الحقوقي محمد السكتاوى.