حوار المشرق والمغرب: حسن حنفي- محمد عابد الجابري (2-6)

حوار المشرق والمغرب: حسن حنفي- محمد عابد الجابري (2-6)

   سعيد بوخليط

       جاءت ثورة كمال أتاتورك في تركيا، فأسقط الخلافة وتبنَّى النموذج الأوروبي، حينها وقع تراجع آخر فيما يتعلق بأفق التغيير، لذلك تبلورت الحركة السلفية من خلال دعوة رشيد رضا، إلى الاهتمام أولا وأخيرا، بالأصول وضرورة التمسُّك بها. 

ثم ظهرت حركة الإخوان المسلمين، ضمن سياق تبلور الحركات الوطنية، وحركات الاستقلال، والأحزاب الجماهيرية، لمواجهة الاستعمار والفساد، هكذا جسَّدت عمليا حلم جمال الدين الأفغاني بتأسيس حزب ثوري، مستند على الجماهير وتحقيق الإصلاح.

نجحت حركة الضباط الأحرار في مصر سنة1952. حدث الصدام بين الجناحين نتيجة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر يوم 26  أكتوبر 1954، من طرف محمود عبد اللطيف؛ عضو جماعة الإخوان المسلمين، فانصبَّت آلة القمع برمتها على المنتمين إلى التنظيم وملئت بهم السجون المصرية، كي يختبروا فعليا تحت قبضة الأجهزة مختلف أنواع التعذيب والتنكيل.لذلك، حينما غادروا دهاليز السجون، تمسَّكوا جملة وتفصيلا برفض شامل لمختلف الإيديولوجيات الأخرى، عبر دعوتهم قصد العمل من أجل تقويض مانعتوه بمجتمع الكفر وتدشين بداية حقيقية للإسلام.

في غضون تلك المطاردة العنيفة، راكمت الحركات الإسلامية رمزية شعبية، لاسيما جراء إخفاق سياسات التحديث من طرف القوى العلمانية، بواسطة تدابير مختلف مكوِّناتها الليبرالية القومية ثم الماركسية.

انقسمت الأصولية الإسلامية إلى تيار محافظ تقليدي، والآخر تحرُّري. يؤيِّد الأول النُّظم المحافظة، متمسِّكا طوباويا بضرورة تطبيق الشريعة وقانون العقوبات، بغير فهم للسياق وكنه الشريعة أو أسباب النزول ومقاصد الشريعة وروح العصر، بالدفاع المطلق عن حقوق الله، لذلك يضيف حسن حنفي: ”غلب عليها الاستنباط أكثر من الاستقراء، والأصول أكثر من الفروع، والمبادئ أكثر من الوقائع، والشعارات أكثر من مضامينها، والنظريات أكثر من العمليات، والعقائد أكثر من التشريعات. توحِّد بين الشريعة وقانون العقوبات، وتريد أن يقوم الناس بواجباتهم قبل أن يأخذوا حقوقهم. تريد تطبيق الإسلام بجدل الكلي أو لاشيء، وهدم النظم الجاهلية كلها ليبدأ تأسيس المجتمعات الإسلامية من جديد. فلا رتق ولا إصلاح ولا ترميم ولا تعديل ولاتغيير لما هو قائم وكأنَّ الإسلام لم يدع الناس إلى الإصلاح وعدم الإفساد في الأرض، ولم يهذّب مناسك الحج في الجاهلية دون إلغائها. ويتم ذلك عن طريق النخبة، جيل قرآني فريد، طليعة مؤمنة تقود الأغلبية، وتدعو الناس.ولاضير أن يبدأ ذلك بتنظيم سري، وحركة تحت الأرض حتى يظهر الإمام فيتم ملء الأرض عدلا كما ملئت جورا، ولاضير من استعمال العنف، فالعنف في الله واجب”(ص 27).

أما التيار الثاني، فيرفض بدوره وجود الأنظمة القائمة، مثلما يعيش باستمرار في خضمِّ حالة مطاردة من طرف أجهزتها، لكنه بخلاف تصور التيار الأول، قد يتحالف مع التنظيمات التقدمية. تتعدَّد تسمياته بين الإسلام المستنير، الإسلام التقدمي، النهضة الإسلامية، اليسار الإسلامي، الثورة الإسلامية. لذلك، تحكم عليه الأصولية الإسلامية بالكفر، ولا يأبه العلمانيون لنهجه، بحيث يروا فيه منافسا خطيرا، نتيجة إدراكه كيفية الجمع بين أهداف الأمة، ثم ثقافتها الوطنية أو الحُسْنين وفق تعبير حسن حنفي، بينما تصنِّفه الأنظمة الحاكمة باعتباره ماركسيا وإسلاميا. تنظيميا، مازال ضعيفا، يفتقر إلى الإطار المطلوب.

عموما، يكمن التحدِّي وينبغي توجيه الجهود نحو تقوية الجناح اليساري داخل الحركة الأصولية، بغية الانتقال من البنية المحافظة مما يعني بكيفية أخرى ضرورة ربط وعينا السياسي بالتاريخي.

قدَّمت التصورات النظرية لمشروع عابد الجابري،مفهوم الكتلة التاريخية،الذي يجسِّد نقط التقاء بين مختلف التيارات المذهبية التي أرست الحمولة النظرية للخطاب العربي المعاصر،يعني السلفية، الليبرالية، القومية، الماركسية. 

الكتلة التاريخية، بمثابة الجبهة التقدمية التي تسمو فوق تبايناتها الإيديولوجية وتتغاضى عن اختلافاتها المرجعية، قصد التركيز أولا وأخيرا، على القضايا المصيرية المطروحة وطنيا وقوميا، مثل النهضة، التنمية، العقلانية، الديمقراطية وكذا الأمن الغذائي.يقول الجابري: “وإذن فالقضية المطروحة علينا، نحن العرب والمسلمين وشعوب العالم الثالث، هي البحث عن سبيل إلى المناعة والقوة والمنعة، وليس هناك سوى سبيل واحد هو الاتحاد و”الاتحاد قوة”. وإذن ف”الكتلة التاريخية” مطروحة اليوم كضرورة حياتية على صعيد القطر الواحد وعلى صعيد شعوب العالم الثالث كله. وفيما يخص الصعيد العربي يبدو لي أن دور المثقف اليوم هو البحث عن سبيل لقيام كتلة تاريخية بين القوى الاجتماعية الحية والتيارات الإيديولوجية التي تنشد التقدم والتغيير في اتجاه تعزيز الكيان العربي وتوفير القوة والمناعة له” (ص 31 ).

يظهر على وجه الاحتمال، أنَّ تصور عابد الجابري لحيثيات ”الكتلة التاريخية”، في إطار تعقيبه على وجهة نظر حسن حنفي منظِّر ”اليسار الإسلامي”، قد تشكَّلت أولى لبناته وملامحه العامة، خلال ظروف هذا الحوار. أطروحة تنظيمية تمسَّك بها، منذئذ غاية وفاته. أيضا، استغلَّ المقام للإفصاح بوضوح وهو المفكِّر العقلاني المؤمن بقيم الحداثة، عن موقفه من الأصولية الإسلامية: “فقد سمعت غير واحد من الأصدقاء يقول: ”إن الناس قد التبس عليهم موقعكَ، فأنت تتكلم في كل اتجاه ومن داخل كل تيار وتظهر عدم التحزب لهذه الجهة أو تلك”. والحقيقة أني أدركُ هذا جيدا وأعتبر أسئلة الناس، الأصدقاء منهم وغيرهم، أسئلة مشروعة، ولكنني مع ذلك أحس في قرارة نفسي أن المسألة هي أكبر كثيرا من مجرد الإعلان عن ”موقف” يساعد الناس على إرضاء رغبتهم في التصنيف، بل أكبر كثيرا حتى من الاختيار الذي يريده المرء لنفسه. ذلك لأن القضية كما أفهمها وكما أقدرها هي قضية حاضر ومستقبل أمة بأكملها وليس قضية فرد أو تيار أو صنف من الناس. أنا أومن بأن التيارات الموجودة اليوم ومنذ قرن أو يزيد في الساحة العربية، والتي تصنف عادة إلى سلفية وليبرالية وقومية وماركسية، هي تيارات تجد ما يبررها في الواقع العربي وبالتالي فهي جميعا تمتلك شرعية الوجود بهذا القدر أو ذاك. والقضية الأساسية بالنسبة إلي ليست الدفاع عن هذا التيار أو ذاك ولاإعلان الولاء لهذه الجهة أو تلك… كلا، إن قضيتي الأساسية، وأعتقد أنها قضية كل مثقف عربي في الظرف الراهن، هي البحث عن ”نقط الالتقاء” التي تجعل في الإمكان وقوف الجميع في ”كتلة تاريخية”واحدة لمواجهة المصير المشترك” (ص 30).

تشبه ماهية ”الكتلة التاريخية”، يؤكد عابد الجابري ”نزع السلاح” الذي انتهى إليه خطاب القوى الدولية الكبيرة، بغاية ”إنقاد البشرية” حسب ادعائهم من حرب نووية تأتي على الجميع. نفس الصورة يمكن إسقاطها على الميدان الإيديولوجي، بضرورة تجميد الصراعات الداخلية والانكباب على بناء جبهة يمكنها مواجهة المستقبل حفاظا على البقاء.

من جهة ثانية، يستعيد عابد الجابري التحديد اللغوي لكلمة “أصولية” منطلقا من تصور آخر،يخالف تصور حسن حنفي، فالأصولية ليست بترجمة للكلمة الأجنبية ”Fundamentalisme”، بل على العكس من ذلك، تبلور المفهوم تعبيرا عن سلفية الأفغاني ومحمد عبده، بيد أنه لايترجم كلمة ”السلف” و”السلفية”بل مضمون تلك الحركة.

مفهوم نحته واقترحه أنور عبد المالك سنة 1965، من خلال عمله الصادر باللغة الفرنسية تحت عنوان ”مختارات من الأدب العربي المعاصر”، قصد الإشارة إلى مضمون حركة الأفغاني ومحمد عبده، ثم ترجمها المترجمون العرب بالأصولية، وكان بالأحرى توظيفهم تعبير”سلفية”.

بالانتقال إلى محور آخر، مضمونه ”الإسلام والعلمانية”، يقرُّ حسن حنفي من خلال عنوان بارز، بأنَّ: ”الإسلام لايحتاج إلى علمانية غربية”، لذلك يحاول الوقوف من جديد على المفهوم وسياق تبلوره التاريخي.

ليست العلمانية لفظا عربيا، وإنما تعريب للفظ الغربي ”secularism ” الذي يعود إلى اللفظ اللاتيني ”Saeculum ” أي العصر. تعني وفق المنظومة الغربية،الفصل بين الكنيسة والدولة، السلطة الروحية والزمنية: ”اشنقوا آخر ملِكٍ، بأمعاء آخر قِسِّيس” (الثورة الفرنسية)، وكذا ”أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله” (المسيح).

استندت الدساتير الأوروبية على العلمانية كنظام أوَّلي، بحيث لاتتبنَّى الدولة دينا رسميا، ولاقانونا كَنَسيا ينظِّم قوانين الأحوال الشخصية، كما تستبعد المدارس التعليم الديني، ويُمنع على أجهزة الإعلام الدعاية لدين معين.   (يتبع)

____________________________________

(1)حسن حنفي/محمد عابد الجابري: حوار المشرق والمغرب، نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990.

Visited 50 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي