أفق: إلياس خوري.. في انتظار هواء الثلاثاء الطلق (إعادة نشر)
كان إلياس في تفكيره النقدي، نموذجا للمثقف الجريء. لم يخش الإفصاح عن الحقيقة، مثلما الكشف عن مطبات الواقع العربي المعطوب. سمى الأشياء، واستدل على المسميات وفق ما يقتضي التعبير. وأرى بتأكيد كبير، بأن تجربته السياسية إلى مسؤولياته الثقافية، علامتان أسهمتا في تكوين قوة الشخصية وحيازتها ذاكرة ثقافية موسوعية تستحضر دقة التفاصيل الغائبة أو المغيبة.
لا يبدو إلياس خوري في عمود الثلاثاء كاتب عمود وحسب، مثل البقية تماما، وإنما الروائي الذي تأبى صورته الأدبية الغياب. فالكتابة تتم بعمق، والتحليل يتدرج، والمقارنات تتوالد بين الماضي والحاضر، فيما الخلاصات مفتوحة غير نهائية أمام مستقبل عربي غريق في الإبهام.
كم من عمود قرأت له منذ إشرافه على ملحق النهار الثقافي، حيث بدا وكأنه يكتب رواية طويلة بلا نهاية عن محنة العربي في زمن الانكسارات والارتدادات السريعة. ومثلما تمثلت الروائي فيه، أكبرت بلاغة ناقد أدبي تعرفته بداية في “تجربة البحث عن أفق”(1974).
أيها الروائي الكبير، والمثقف الملتزم، صحة وعافية في انتظار هواء الثلاثاء الطلق.
مقتطف
“.. أجلس وحيدا خلف طاولة خشبية بنية اللون، عليها أوراق مبعثرة، كتبت عليها كلمات خرساء.
أحاول أن أستنطق الكلمات لكنها لا تجيب.
أكتب على الدفتر أمامي، فأرى كيف تنزلق العبارات من السطر وتسقط أرضا من دون أن تحدث صوتا.
يأتي الموت حين تموت فيك الكلمات، كأنك تنظر إلى صورتك في المرآة فلا ترى سوى الفراغ.
لا أدري من أخاطب الآن، ولماذا جف قلمي، كما لو أن الصقيع يمطر في روحي.
أردت أن أكتب كي أكتب، إلا أن مفاصلي ترتعش بردا، كأنني خائف، نعم أنا خائف لكنني لا أعرف سبب خوفي.
كتبت الصمت والألم، هذا هو معنى الكتابة، أو هذا ما اعتقدت عندما انتقلت من منفاي في بلادي إلى هذا المنفى النيويوركي. لكنني أكتشف اليوم أن الكلمات هي المنفى الأخير الذي يرمي بنا في الوحشة.
لا ليست هذه هي الحقيقة، لكن من قال إنني أعرف الحقيقة، وإذا عرفتها فمن سيجبرني على قولها؟”
* إلياس خوري : “رجل يشبهني” . دار الآداب. 2023. ص: 15.