وجودي في الاحتفالية اختيار وجودي
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
ملك المسرح وداعا. هكذا قلت وكتبت. عندما يلغني خبر رحيل الفنان الأصيل والإنسان النبيل عبد العزيز بنيس. واضيف اليوم وأقول. هو كتاب من كتب المسرح يطوى اليوم. ولكن هذا الكتاب يظل موجودا فينا وعنا،
هو تاريخ تقاسماه، واشتركنا في عيشه وفي كتابته وفي التفكير فيه.. وأشهد أن أجمل وأصدق ما كتبته. في ذلك الزمن السبعيني كان له ولكل الممثلين الكبار الذين ترجموا كلماتي وعباراتي، والذين تمثلوا شخصياتي، وعاشوا الحياة التي اقترحتها عليهم بصدق.
ولقد كان لرفيقي المخرج المسرحي المجدد والمجرب ابراهيم وردة الفضل في إدارة ثلة من الممثلين الصادقين.. ولقد عشنا معا رحلة البحث عن عطيل المغربي. والذي أعدناه إلى تربته وإلى وطنه المغرب، وإلى ثقافته العربية الأمازيغية. ومن خلال ثلاثية (عطيل والخيل والبارود) و(قراقوش الكبير) و(فاوست والأميرة الصلعاء)، كنا نبحث مسرح يشبهنا. مسرح يتمثل كل الثفافات الإنسانية والكونية، ولكن. انطلاقا منا نحن، وانطلاقا من الآن التاريخي. وانطلاقا من الهنا الجغرافي، وفي كلمتي التي ودعت بها هذا الفنان المبدع والمؤسس قلت:
(لن أقول رحل الممثل الكبير وأنت مازلت معنا
شهريار أنت، وتيمور الأعرج أنت، وصلعون أنت، وكل الأسماء الكبيرة في المسرح المغربي والعربي أنت..
هذا عمر آخر من أعمار المسرح الجاد يرحل برحيلك أيها الملك..
عبد العزيز بنيس جسد ملأ فضاء المسارح. في المغرب وفي سوريا والعراق. وسافرنا معا إلى القاهرة في أواسط السبعينات من القرن الماضي. وهو شهريار الذي كان يأتيه المرحوم حوري الحسين ليناديه عن بعد.. مولاي… مولاي.. يا مولاي ..
هو الملك الذي سحر القلوب. وأبهر العيون. وفي كل أدواره كان مقنعا وممتعا. وفي كل حياته اليومية كان إنسانا بسيطا وشعبيا..
أحر التعازي لأسرته الصغيرة وأصدق العازي لبيته المسرحي الذي عاش فيه عقودا طويلة. وإلى كل رفاقه وأهله وصحبه في بيت مسرح الطلائعي لمدينة الدارالبيضاء، والعصر الذي عاشه عبد العزيز بنيس، كان عصرا ذهبيا. وكان عهدا شهد ظهور أكبر الممثلين العصالميين. وشهد مولد الاحتفالية. والتي كانت اختيارا لنظام مسرحي. وكانت بحثا عن منظومة فكرية تسند هذا المسرح، معرفيا وجماليا وأخلاقيا.
في البدء كان الاختيار
في البدء إذن، كان الاختيار، وكانت الاحتفالية اختيارا قبل أن تكون أي شيء آخر، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي (في البدء إذن كان الاختيار ولا اختيار بدون حرية، ولا حرية بدون رشد عقلي، وبدون مسؤولية)، هكذا تحدث الاحتفالي في كتابه (أنا الذي رأيت).
وهذه الحرية هي أصل وجود هذه الاحتفالية، وأصل وجو كل الإبداعات الفكرية والأدبية والجمالية. ولولاها ما كان كل ذلك الذي كان، وهي بهذا اختيار وجودي حر، وذلك لإنسان مدني كامل الإنسانية، وبهذا فهي الإنسان الحر، وهي التفكير الحر، وهي الرهان على المجتمع الحر، وهي البحث عن المدينة الحرة وعن الزمن الحر، وتناضل هذه الاحتفالية من أجل أن يكون هذا الإنسان مواطنا عاقلا وفاعلا وحرا ومحتفلا ومعيدا وغنيا وعارفا، وأن يكون تعبيره حرا أيضا، وأن يعيش في المجتمعات الإنسانية والمدنية الحرة، والأساس في هذه الاحتفالية هو أنها نظام حياة، قبل أن تكون أي شيء آخر، ولقد اختار الاحتفاليون أن يعيشوا الحياة وفق النظام الاحتفالي العيدي، وأن يتمثلوا هذه الحياة وهي في صورة مسرحية، لها كاتب عبقري بكل تأكيد، مسرحية ليست مأساة كلها، وليست ضاحكة كلها، ولكنها مركبة لحد التعقيد والغموض، ولكن يبقى أن الأصل في هذه المسرحية الوجودية هو الفرح، وأن كل ما عداه هو مجرد أعطاب في طريق الحياة والأحياء، ومجرد أخطاء بعض الناس في حياة الناس، وهي أيضا، أخطاء جماعات ومجتمعات في التاريخ الإنساني، وتتعاقب على أداء هذه الأدوار المسرحية الجاهزة أجساد وأرواح إنسانية حية، وهي تلعبها بشكل مؤقت، ثم تمضي، بعد أن يسدل الستار، ويختفي الممثلون، ولكن يبقى نفس المسرح، وتبقى نفس المسرحية تجدد نفسها، عصرا بعد عصر، ويرحل اللاعبون المؤقتون في مضمار اللعب، وتبقى اللعبة الوجودية أو المسرحية الدائمة، ويبقى من حق الإنسان الممثل والمحتفل والمعيد والمجدد والمتجدد في فضاء هذا المسرح الاحتفالي أن يتساءل:
– لماذا هذا الاختيار تحديدا وليس ذاك؟
– ولماذا الاختيار الاحتفالي العيدي, وليس ذلك الاختيار الآخر العبثي أو المأتمي أو الفوضوي أو العدمي أو الظلامي؟
– وماذا كان يمكن أن يكون الاحتفاليون لو أنهم لم يختاروا هذه الاحتفالية؟
– وهل فعلا هم الذين اختاروا هذه الاحتفالية، أم هي التي اختارتهم من غير أن يشعروا بذلك؟
وقدر الاحتفالي ألا يختار إلا الاحتفالية، هي وحدها وليس غيرها، وقدر الفوضوي ألا يختار إلا الفوضوية، وقدر المأتمي ألا يختار إلا المأتمية. وقدر العبثي ألا يختار إلا العبثية، وقدر الظلامي ألا يختار إلا الظلامية، وفي هذا العنى يتساءل الاحتفالي دائما، بلسان الحال طبعا:
– كيف كنا سنكون لو أننا اخترنا الاختيارات الأخرى؟
– وهل كنا سنكون أجمل وأكمل وأنبل، ونكون أكثر حياة وحيوية. أو كنا سنكون أسوأ وأقبح وأتعس؟
– ولو قدر للاحتفاليين أن يختروا طريقا غير طريق الاحتفالية، فماذا كان من المكن أن يختاروا؟
– وهل هناك بديل آخر للاحتفالية الكائنة والجميلة إلا تلك الاحتفاليات الأخرى، الأجمل والأكمل والأنبل، والتي هي احتفاليات ممكنة الوجود، والتي يسعى الاحتفاليون إلى الوصول إليها ، أو على الاقل. الاقتراب منها ومن جاذبيتها ومن سعرها ومن شعريتها.
وقدر هذا الاحتفالي أن يختار العيد، لأن العيد حياة أخرى إضلفية. وقدره أن يختار الناس، لأنه كائن اجتماعي، وأن يختار الحياة والحيوية، وأن يختار المدينة والمدنية. وأن يهرب من الفاب ومن شريعة الغاب، وأن يختار الفرح، وأن ينحاز إلى (حزب) الفرحين، وأن يختار الجمال والجمالية، في الأجساد وفي النفوس والأرواح. وأيضا في الكلمات والعبارات، وفي الصور والأصوات والحركات، وأن يختار شعرية الأيام والليالي، وأن يختار موسيقى الطبيعة، وهذا الاحتفالي الكاتب هو الذي كتب مسرحية (الناس والحجارة) انتصارا لحق الإنسان في أن يكون حرا خارج الحجارة وخارج الحدود وخارج الفيود، وهو الذي قال (لقد اخترت (الناس والحجارة)، وذلك في زمن أصبح مهددا بأن يختفي فيه الناس ـ كل الناس ـ وألا تبقى إلا الحجارة والأشياء والمال والسلع والمعلومات والصور)، هذا ما قال له الاحتفالي في كتاب سجله د. يوسف الريحاني، وأعطاه عنوان (عبد الكريم برشيد رسائل إلى المخرج يوسف الريحاني ـ أفكار في المسرح ـ منشورات باب الحكمة ـ تطوان).
الاحتفال بين حد الصمت وحد الكلام
هذه الاحتفالية أعلنت عن وجودها في يوم من الأيام، في سنة من سنوات القرن الماضي، وقد أحدث هذا الإعلان صدمة في الوسط الثقافي المغربي والعربي، ولقد خرجت صيحتها من دائرة الصمت إلى دائرة الكلام، وقدمت نفسها للناس وللتاريخ من خلال الكلام والكتابة، سواء في البيان المكتوب أو في التصريحات الشفهية أو في الإبداعات المسرحية أو في الجرائد والمجلات أو في الكتب أو في السلوك اليومي للاحتفاليين.
ومن حقنا، أو من واجبنا اليوم، أن نتساءل جميعا: الصمت والكلام، ما معنى هذا وما معنى ذاك؟
في بدء الخليقة، كان الصمت وحده، لا ثاني له ولا شريك له، وذلك في هذا النظام الكوني اللامتناهي، ثم من بعد حضر الكلام، بحضور الإنسان العاقل والمفكر والمبدع والمتكلم، وكان هذا الكلام فعلا وفاعلية في التاريخ المعاصر، ولقد أصبح لهذا الكلام درجات متفاوتة كثيرة جدا، أعلاها وأغلاها الإنشاد والغناء والطرب والتراتيل الصوفية، وأصبح ذلك الصوت الواحد الأوحد حزمة أصوات متحاورة ومتجاورة ومتناغمة ومتكاملة، وأصبحت بذلك ألحانا تنطق وتعبر وتصور وتشير وتدل على أشياء وعلى حالات وعلى مقامات وعلى اختيارات.
البعض يقول لك تكلم حتى أعرفك، والبعض الآخر يقول لك الصمت حكمة ومنجى، ولقد اختارت الاحتفالية أن تتكلم، لأن الإنسان حيوان ناطق، واختارت أن تكتب، لأن الكتابة هي أخطر ما اكشف أو اخترع الإنسان، واختارت أن تفكر، لأن التفكير فرض عين على كل عاقل وعاقلة، واختارت أن تعبر، وأن تشاغب، وأن تحاور، وأن تجادل، وأن تحضر حيث ينبغي أن يكون الحضور، وبالتأكيد فإن بعض الصمت أحسن من كثير من الكلام التافه، والذي قد لا يعني شيئا، ولا يدل على أي شيء، والذي قد يكون مجرد ثرثرة، وما أكثر الصمت الذي قد لا يقوله كثير من الكلام، وكثير من الكتابة، يقول النبي المصطفى (ص) (رحم الله امرأ قال خيرا فغنم، أو سكت فسلم). مما يدل على أن أقصى ما يمكن أن يفيد به الصمت هو سلامة الصامت، ولكن الكلام المفيد يمكن أن يفيد كل الناس، والغنيمة موجودة في بعض الكلام والسلامة كامنة في كثير من الصمت الجبان، ولقد اختارت الاحتفالية أن تجهر بالحق، وأن تؤمن بالاحتفال، وأن تبشر به، وأن تدعو له، وأن تفلسف وجوده في حياة الناس وفي حياة كل المجتمعات الإنسانية.
وفي العلاقة بين الصمت والكلام يقول الجاحظ (إن الكلام إنما صار أفضل لأن نفع الصمت لا يكاد يعدو الصامت، ونفع الكلام يعم القائل والسامع والحاضر والغائب والشاهد والراهن والغابر)، هذا ما ورد في (رسائل الجاحظ)، الجزء الأول في تحقيق للأستاذ عبد السلام هارون.
ولقد بدأت الاحتفالية مسارها الوجودي بالكلام وبالكتابة وبالإبداع، في الآداب والفنون، وأكدت دائما على الحضور، وقالت في بياناتها الأولى كلمتها المشهورة (لم يعد الصمت ممكنا)، وأضافت (الغياب خيانة وجودية)، وأنه لا مجال لتأكيد الوجود والحضور إلا بالكلام الصادق وبالكتابات المسئولة وبالبيانات العالمة والفاهمة، والتي تبين وتفسر وتوضح وتسأل وتتساءل وتعيد قراءة العالم قراءة احتفالية وعيدية جديدة ومتجددة.
وبخصوص فعل هذه الكتابة، وبخصوص فاعليتها، يقول الاحتفالي (الكتابة عندي شهوة واحتراق، وهي أيضا سياحة وهجرة، وهي وقوف الواحد أمام المرايا، وذلك من أجل أن يتعدد، وأن يتطهر، وأن يكون الرائي والرؤية وموضوع الرؤية) ورد البوح الصادق في كتاب (غابة الإشارات) والذي هو سيرة فكرية. وهو مسيرة فنان مفكر، ولقد صدرت هذه السيرة عن مطبعة تريفة أبركان سنة 1999.
وفي مرآة هذه الاحتفالية تمدد جسد الاحتفالي، وأصبح أطول قامة، وأعلى قيمة، وأكثر إقناعا في فكره وفي علمه، واصبح أكثر إمتتعا في مسرحه وفنونه، وأصبح للاحتفالي فيها حضور هنا وحضور هناك، وأصبح لكتاباته الاحتفالية وزن وثقل وطول وعرض وعمق وإشعاع يتخطى الأمكنة والأزمنة.
وبحسب النيسابوري فإن الصمت (أمر عدمي) وقد يكون غيابا، وقد يكون هروبا إلى المناطق الرمادية، وقد يكون انتصارا لأهل الباطل، وفي هذا المعنى يقول علي بن أبي طالب (حين سكت أهل الحق عن الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حق). ولقد تكلم الاحتفاليون وكتبوا لأنهم لاحظوا أن هذا الذي نسميه (مسرحنا) ليس مسرحنا، ولا هو مسرح أرضه وتربته، ولا هو مسرح ثقافته ولغته، ولا هو مسرح أسئلته ومسائله، ولا هو مسرح طقسه ومناخه، ولا هو مسرح لحظته التاريخية الحقيقية، وهو مسرح به تقنيات وآليات المسرح، ولكنه يفتقر إلى روح المسرح، وروح المسرح هو الحفل، وهو فعل الاحتفال، وهو العيد وفعل التعييد،
وقد يكون الصمت حكمة، في مواقف معينة، وعند من ينشدون السلامة وحسن العاقبة، وعند من يرجون المنفعة، ولكن ليس في كل المواقف وفي كل الأحوال، وقد يكون الكلام مجرد ثرثرة زائدة، وذلك في كثير من الحالات والمواقف، وفي جسد الاحتفالية كثير من الكلام الذي له معناه، وفيه أيضا كثير من الصمت الناطق والمعبر، وفي نهاية كتاب (غابة الإشارات) يجد الكاتب نفسه ملزما بأن يخرج من فضاء الكلام إلى فضاء الصمت، ولهذا فقد قال (هذا الكتاب أدركته الخاتمة، تماما كما أدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح، ولكن، من قال بأن الصمت لا يتكلم ولا ينطق، ولا يرسم، ولا ينحت، ولا يكتب، ولا يعبر؟ إنني في هذا الكتاب ـ وفي غيره من الكتب الأخرى ـ أبحث دائما عن القارئ المبدع، أي عن ذلك الشاعر الذي يحسن قراءة الصمت، وقراءة الظلام، والذي يستطيع أن ينفذ بين السطر والسطر وبين الحرف والحرف، والذي يملك القدرة السحرية على أن يعيد لكل الحروف الشاردة والتائهة نقطها الضائعة أو المضيعة، وفي هذا الكتاب كثير من النقط التي سقطت سهوا، وكثير من الإشارات والإيماءات وكثير من الصور المهّشمة ومن المرايا المكسرة، والتي تحتاج لمن يعيد تركيب أجزائها وتفاصيلها الصغيرة والدقيقة) والأصل في الكتابة أنها تركيب. والأصل في الكتابة العالمة أنها تفكيك واعادة تركيب، ومن يستطيع اليوم ان يقرا المكتوب الاحتفالي، وان يقرأ السطور وما بينها. وان يعيد لكثير من الحروف نقاطها الضائعة والمضيعة؟
وفي حال الصمت، تماما كما في حال الكلام، تبقى الاحتفالية دائما حاضرة ومفكرة ومعبرة، والكلام الاحتفالي هو دائما كلام واضح وفصيح وصريح، وهو لا يؤمن بالتقية السياسية، ولا بتهريب المعاني، ولا بتهجيرها بطرق غير شرعية إلى الضفاف الأخرى الآمنة.
ومثل الجاحظ دائما، فقد سعت هذه الاحتفالية دائما إلى البيان وإلى التبيين، وإلى البلاغة والتبليغ، وإلى كتابة الرسائل، وإلى إيصالها إلى اكل من يهمه الأمر في العالم.
في الاحتفالية كتابة باقية أبلغ من كلام عابر
وأول الكلام في هذه الاحتفالية هو التأكيد على أنها أساسا اختيار حر، وعلى أن فعل هذا الاختيار ليس بريئا، وليس فعلا بلا معنى، وذلك لأن طبيعة فعل الاختيار تكشف عن طبيعة الفاعل المختار، وكما تكون اختياراتنا نكون نحن مثلها، فالجميل يختار الجمال، وعاشق العلم يختار العلم، ومحب الحكمة يختار الحكمة، وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد عبدو (قد عرفناك باختيارك، إذ كان دليلا على النبيه اختياره)، وبهذا نقول بأن أول درجة في سلم الاحتفالية هو سلم الاختيار، أي اختيار الحياة والحوية، واختيار الإنسان والإنسانية، واختيار المدينة والمدنية، واختيار الجمال والجمالية، واختيار الحق والحقيقة، واختيار البهجة والفرح، واختيار العيد والاحتفال، واختيار الاستقلال والاستقلالية، واختيار الحضور والتلاقي، واختيار الحرية والتحرر، واختيار الفن الذي يجمل الحياة اليومية، ويجمل الواقع والوقائع، ويعيد للأيام العادية عنصر الإدهاش فيها.
وفعل الاختيار هو بالتأكيد حق مشروع للجميع، وبهذا فهو ليس جريمة، ولقد مارسه الاحتفاليون عن قناعة فكرية، إيمانا منهم بأنه عنوانهم في دنيا الوجود، وأنه هويتهم وبصمتهم المتميزة في الحياة وفي التاريخ.
وتؤمن الاحتفالية أن الكتابة أبلغ من الكلام، وأنها أطول عمرا منه، وأنها أكثر جدية مما قد نقوله من كلام طائر في لحظة لهو، ولعل هذا هو ما يجعل الاحتفاليين يكتبون أكثر مما يتكلمون، معتبرين أن الكتابة أساسا مسئولية، وأنها الفعل التاريخي الذي لا ينتهي في لحظته، والذي ـ بفعل طاقته الحيوية ـ يمكن أن يتمدد في الجغرافيا وفي التاريخ، وأن يصل إلى كل الناس، وفي هذه الكتابة تحضر بلاغتان متكاملان دائما، بلاغة الإقناع الفكري والعلمي، وبلاغة الإمتاع الفني والجمالي، وهذا ما تعكسه الكتابات الفكرية والعلمية في الاحتفالية، وتعكسه الكتابات الإباعية في مسرحها وفي كل آدابها وفنونها
وهذا الكلام، بحسب عبد القاهر الجرجاني في كتاب (أسرار البلاغة) هو أن الكلام يكشف، وبخصوص الشخص الاحتفالي، فهو أساسا قارئ، ولقد حفزته قراءاته المتعددة والمتنوعة لأن يكون كاتبا أيضا، والكتابة عنده ليست رسما تجريديا في الفراغ، ولكنها واجب ومسؤولية، وهو ( يعتبر الكتابة رسالة، ويعتبر نفسه ساعي بريد، ويعتبر أن من واجبه أن يؤدي هذه الرسالة إلى من يهمهم الأمر ) وهذا ما ورد في كتاب الكاتب المسرحي العراقي ذ. عبد الرزاق الربيعي (الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد) والذي هو حوار في حجم كتاب
ويرفض هذا الاحتفالي أن يكون هو الكاتب الحقيقي لما يكتبه، وأن يكون كل ما تخطه يده ينتمي إليه، معتبرا أن الكاتب الحقيقي هو الزمن، وهو الذي قال للكاتب اكتب، وهو الذي قال له ماذا تكتب، ودور هذا الكاتب أن يتأمل، وأن يسمع، وأن يرى، وأن يحيا، وأن يعيد كتابة ما تمليه عليه الأيام، وما تمليه عليه الحياة وما يمليه عليه التاريخ، وما يوحي به الواقع والوقائع، وأيضا، ما يمكن أن يأتيه من الغيب من إلهام أو من متوقعات أو من نبوءات، وشخص هذا الكاتب الاحتفالي صنعته الصدفة الموضوعية، وهو لا يعرف كيف أصبح كاتبا، ولماذا هو ليس غيره، ولماذا هو محكوم بأن يحمل الرسالة الاحتفالية، وأن يمشي بها، إلى الأعلى دائما وإلى الأبعد داىما. وان يسافر في عالم المعني، وان يرحل في فضاء الزمان وفي فضاء المكان.
ويؤمن هذا الاحتفالي بأنه لا (يكتب) وحده، لأن القارئ يكتب معه، والناقد يكتب معه، وطقس الكتابة يكتب معه، ومناخ الكتابة يكتب معه،، واللغة تكتب معه، والأحلام تكتب معه، وحالته الوجدانية تكتب معه.
وبحسب ذ عبد الرزاق الربيعي، فقد انخرط هذا الكاتب الاحتفالي – مبكرا في كل شؤون الحياة اليومية، وانحاز صادقا إلى قضايا الناس الفكرية والاجتماعية، وبذلك فقد وجد نفسه ـ من حيث لا يدري ـ كاتبا مسرحيا وصحفيا ومفكرا ومهندسا من مهندسي بنية هذا المسرج العربي الحديث).
وهذا الكاتب الاحتفالي لم يأت من فراغ، لأنه كائن جغرافي وكائن تاريخي وكائن ثقافي، بالإضافة إلى أنه مواطن كوني، وهو (كاتب من هذا الزمان، مرتبط وجدانيا وفكريا بالإنسان، في كونيته، وهو في نفس الوقت مرتبط بالأرض وبلغاتها وبجغرافيتها وبتربتها وبتاريخها وبحكيها وبمعتقداتها، لدرجة أنه يعتبر نفسه مجرد نبنة حية في غابات الحياة).
وهو فعلا مرتبط بالطبيعة، ولكنه لا يريد أن يكون أكثر طبيعية من الطبيعة، تماما كما أنه في علاقته بالواقع، لا يريد أن يكون أكثر واقعية من الواقع، وهو يكتفي في كتاباته بأن يتأمل روح الواقع، وأن يقرأ روح التاريخ، وأن يقرأ جوهر الإنسان. وان يتأمل قانون الحياة. وان يفهم شريعة الوجود في الوجود.
هذا الاحتفالي يكتب كثيرا، وكأنه يعيش بالكتابة وفيها، وأنه لا شيء في حياته إلا الكتابة، وكثرة كتابته هي عند البعض ميزة، وهي عند البعض الآخر تهمة، وهي بهذا نزيف أو هي إسهال أقلام، مع أنها ـ في حقيقتها ـ فيض عقول ونفوس وفيض أرواح تتدفق كتابة فكرية وإبداعية، وفي هذا المعنى يقول د. مصطفى رمضاني بان الاحتفالي (كرس حياته للكتابة، حتى إننا لو قمنا بتعداد ما كتبه من نصوص ونقود وتنظيرات ط، وقسناها بزمن عمره، لوجدنا أن زمن الكتابة عنده أكبر من زمن حياته العمرية) ولقد قالقولته هذه في ندوة علمية نظمتها الهيئة العربية للمسرح بمدينة مكناس ثم اصدرتهاةبعد ءلك في كتاب جماعي.
وهذا الاحتفالي (هو مواطن كوني، وطنه الجغرافي هو المغرب، ولكن وطنه الروحي والفكري والوجداني الحقيقي هو المسرح، وعنوانه المسرح، وعلمه المسرح، وفقهه المسرح، وزمنه التاريخي هو هذا الزمن الحديث والمعاصر، ولكن زمنه الحقيقي هو كل الأزمان الكائنة والممكنة، وهو في مسرحه المكتوب والمتخيل ، تماما كما في حياته اليومية، لا ينوقف لحظة عن المشي، ولا يتوقف عن السؤال، وعن اقتراف الشغب المشروع، وهو يؤمن بالفرح وبالحق في الفرح، ولعل أجمل ما فيه هو أنه مواطن حر، وأنه مستقل في قراراته واختياراته وفى ومواقفه، وأن كل أفكاره من عمده، وليست صناعة أجنبية مستورد، وهو احتفالي الروح واحتفالي الوجدان واحتفالي الرؤية، قبل أن يكون احتفاليا في كتاباته الأدبية والفنية والجمالية)، وهذا هو ما حكاه الاحتفالي في حواره مع الأستاذ عبد الرزاق الربيعي.
Visited 24 times, 1 visit(s) today