عبد الفتاح كيليطو يصحح مفهوم التوبة من الأدب

عبد الفتاح كيليطو يصحح مفهوم التوبة من الأدب

أحمد لعيوني

        ألقى الكاتب وعضو أكاديمية المملكة المغربية، الأستاذ عبد الفتاح كيليطو محاضرة بفضاء المكتبة الوسائطية بمدينة خريبكة، مساء السبت 28 شتنبر 2024، بدعوة وتنظيم من مديرها الأستاذ محمد الركراكي، وأشرف على تسيير الجلسة، الدكتور عبد الفتاح شهيد، أستاذ اللغة والنقد الأدبي بالكلية المتعددة التخصصات بخريبكة، وصاحب كتاب “الشعر والهوية”، والذي قدم المحاضر بوصفه بالمعلم، معتبرا أن هذا اللقاء، لقاء مع المعلم، ومؤكدا بأن كل مدينة تعرف معلمها كما تعرف معالمها. ومقام معلمنا فهو قريب بعيد، قريب في لغاته وحكاياته وابتساماته، قريب في وجوده وتواضعه وكتبه. حين يخطئ يصحح خطأه، وحين يخجل فيخجل من خجله. عرف هذا النشاط الأدبي والفكري حضور جمهور غفير من مثقفي المدينة والطلبة والباحثين ومتتبعي كتابات المحاضر.

جانب من الجمهور الذي تابع المحاضرة
جانب من الجمهور الذي تابع المحاضرة

كانت البداية تقديما وقراءة حول كتاب “التخلي عن الأدب”. هذا التقديم استهله المحاضر بأنه ليس بالإمكان التخلي عن الأدب، أو موت الأدب، أو موت القراءة. وأشار إلى أن كراهية الأدب شيء قديم، يعود إلى زمن أفلاطون  في مدينته الفاضلة طرد منها الشعراء والفنانين. لكن العلاقة بين الكاتب والكتابة، وبين القارئ والقراءة لم تنقطع. فقد نقرأ كاتبا بشغف لمدة زمنية ما، ثم ننتقل إلى كاتب أخر، أو لون أدبي آخر، من الشعر إلى الرواية مثلا، أو العكس. وعلينا أن نعد سيرة ذاتية لأهم الكتب التي قرأناها وأثرت فينا بشكل أو بآخر. ويرى أن المحطات القرائية متعددة، تبدأ بقراءة الكتاب المدرسي. القراءة تصاحبنا طيلة حياتنا ولو لم نكن متعلمين، فهناك الاستماع للأدب الشفهي من حكي وسرد وقصائد شعرية تتداول بين الأجيال، كما هو الحال بالنسبة للأغنية الشعبية، وقصائد الملحون التي احتفظ بها عن طريق السماع لعصور.

عرض المحاضر مثالا لرواية ثيرفانطيس الشهيرة. فبطل الرواية ضون كيخوطي بعد أن قرأ روايات كثيرة تتحدث عن الفروسية وملاحمها، وحاول أن يعيش مثل الفرسان الذين قرأ عنهم حتى مس دماغه ومسه طيف جنه.. ص. 17، ومن أجل علاجه، قدمت له النصائح بالتخلي عن القراءة، والتوبة منها، فشفي فجأة، لكنه فكر مرة أخرى في قراءة روايات من نوع آخر تتحدث عن النساك والأولياء، لكي يتشبه بهم، ويصبح واحدا منهم، وهو على فراش الموت، ظل مجنونا ولم يشف.

كما هو الحال بالنسبة لبطل مقامات الحريري التي ألفها في نهاية القرن الخامس الهجري. الكتاب الذي أعتبر أكثر مبيعا عبر سبعة قرون الماضية، ويحتوي على خمسين مقامة. نجد البطل أبو زيد السروجي في المقامة الأخيرة، على لسان الراوي المحتال، المكدي، يلجأ إلى حيلة كعدته باستعمال الأدب للحصول من المتفرجين على المال. وفي نهاية مروياته، أراد أن يتوب ويتخلى عن الحيل التي كان يستعملها في خداع الناس بنفس الطريقة. لجأ إلى جمهوره بمدينة البصرة العراقية، وطلب منهم أن يدعوا له بالتوبة، لأن توبتهم مقبولة، فسقط في الفخ الذي نصبه، حيث استجيب لدعاء البصريين، وأصيب البطل بارتجاف، ومن ثمة التزم بيته، ولما زاه راويه الحارث بن همام وجده لا يغادر بيته سوى للذهاب إلى المسجد لأداء الصلاة، والانشغال بالأذكار، وهو نوع آخر من الأدب، فهو لم يتب في نهاية الأمر، ولو تخيل له ذلك. ولم يتب أبو زيد من الأدب. ولم يتب الحريري من الأدب. كما لم يتب القارئ بالتخلي عن القراءة.

وتطرق المحاضر إلى ما أقبل عليه أبو العلاء المعري بعد موت والدته، حيث انعزل عن العالم ونبذ الشعر، وحاول أن يتوب ويتخلى عن الأدب. كان أبو العلاء قد كتب ديوان “سقط الزند” فنبذ ما كتب، واعتبره مبني على “المين” أي الكذب. ندم على ما كتب، ليتخلى عن الأنواع التقليدية، من مدح وهجاء ووصف.. وسعى إلى وعظ القراء، فكتب ديوان “لزوم ما لا يلزم” أو اللزوميات. فقد حدثت له رجة نفسية بعد موت والدته وانتقل بذلك من نوع أدبي إلى آخر. والرجة النفسية قد تحدث حتى بالنسبة للقارئ فينتقل من كاتب إلى آخر. وفي واقعة شهرزاد، ففي الليلة الواحدة بعد الألف، صارت تحكي لشهريار حكايته ذاتها، فقال لها، والله إن هذه الحكاية لحكايتي، وهذه القصة لقصتي. حينها تكون النهاية هي البداية. فلما استمع إلى الحكاية الأخيرة، تحول من رجل مستبد ومتعطش للدم إلى مسالم وطيب.

وأشار في خضم حديثه إلى بعض التيارات الأدبية في السبعينيات والثمانينيات، ومنها البنيوية التي بدأ يهتم بها الكتاب العرب في الوقت الذي تخلى عنها الأوربيون، وأصبح من المفروض تناسيها لاكتشاف شيء آخر غيرها. وقارن بين العديد من الكتاب والشعراء، سواء كانوا عربا أو أوربيين، انتقلوا خلال مسارهم الإبداعي من صنف من الأدب إلى نوع آخر، مما يجعل مفهوم التخلي، يدل على الانتقال من جنس أدبي إلى آخر، وليس اللجوء إلى التوبة بمعنى الانقطاع والتبرؤ مما سبق. وأكد على أن الكاتب ينبغي أن تكون له قضية يدافع عنها. وأن الكاتب يكتب لنفسه كما يكتب لغيره. وأشار إلى فكرة القارئ العدو، والتي سبق أن استعملها الجاحظ الذي أوصى الكاتب قائلا إياك أن تنسى أن تخاطب عدوا، وهو في الحقيقة صديق، فهو يسدي للكاتب خيرا، لأنه يجعله يخترع قارئا مفترضا، مما يتطلب وعيا بالكتابة وبالقراءة. كما هناك الكاتب العدو في إطار ما يسمى بهاجس الهيمنة الفكرية. ففي بعض الأحيان يصبح التقليد أحسن من الأصل، وأعطى أمثلة فيما حصل بين مقامات الهمداني والحريري، إذ تفوق الثاني على الأول.

وفي الختام يضيف الأستاذ عبد الفتاح شهيد، بأن القراءة كما الكتابة بأسلوب المعلمين الكتاب كما هي عند الأستاذ كيليطو الذي اختار البحث في المساحات المشتركة وفي التقاطعات الإنسانية الكبرى بين بورخيس وبين أبي العلاء المعري وبين أبي حيان التوحيدي وابن القارح وغيرهم.

Visited 49 times, 2 visit(s) today
شارك الموضوع

أحمد لعيوني

باحث في تاريخ امزاب