شجرة الاحتفالية.. أصل كل المسرحيات الاحتفالية

شجرة الاحتفالية.. أصل كل المسرحيات الاحتفالية
د. عبد الكريم برشيد
 
فاتحة الكلام
      في النفس السابق تحدثت عن حروب الاحتفالية عند نشاتها الأولى. ولقد آمنت دائما. أن تلك الحروب. على علاتها. قد كانت مفيدة للمسرح المغربي والعربي. وأنها قد أوجدت مناخا طيبا للنقد المسرحي وللبحث العلمي والتنظير الفكري. ولا يمكن أن ننكر أن ذلك النقد العنيف. قد أوجده عنف الاحتفالية، وأنه كان رد فعل ولم يكن فعلا، ولقد جد في مخالفة الاحتفالية ومعاكستها ونقدها مبررا لوجوده. ولقد كان تأسيس جماعة الاحتفالي حافزا لتأسيس جماعات مسرحية أخرى. كما أن بياناتها كان محرضا على التفكير والتنظير وعلى إصدار بيانات أو أوراق عمل أو خطاطات نظرية. وتعقيبا على ما جاء في هذا الموضوع يقول د محمد الوادي. وهو أحد المفكرين والمبدعين والمنظرين. في المسرح بشكل عام. وفي المسرح الاحتفالي بشكل خاص.. يقول:
(كم نحن في أمس الحاجة إلى المعارك النقدية والنظرة العالمة والفكرية التي تدفع بعجلة المسرح إلى الأمام، كما فعلت وتفعل الاحتفالية ببياناتها وأدبياتها. دمت معلمة فكرية وفنية ومفخرة للمسرح العربي).
ونعرف أن الفعل الثقافي، مثله مثل الفعل الفلاحي تماما، يحتاج إلى مناخ. ويحتاج إلى تربة فوق أرض ثابتة وغنية بالمعادن. ولقد أوجد المسرح الاحتفالي مناخا طيبا للبحث والتجريب والسؤال. وقدم للمسرحيين المغاربة والعرب نقطة محورية للتلاقي والافتراق. وللتعدد والاختلاف. ويغير هذا الشد والجذب. وبغير جود فكرة وما يقابلها. ودون وجود موقف وما يقابلهه وما يضاده. فإن هذا المسرح المغربي والعربي سيظل يكرر نفسه. وسيظل يجتر مقروءاته بشكل ميكانيكي. وسيظل عند درجة الصفر في المسرح. من غير أن يضيف لتاريخه صفحة جديدة. أو حتى جملة مفيدة واحدة.
أما د. مصطفى رمضاني. والذي كان شاهدا على مولد الاحتفالية. والذي رافقها. إبداعا وبحثا ونقدا ودراسة وتأريخا، على امتداد خمسة عقود من عمر قرنين ومن عمر الفيتين، فقد قال في تعليقه على النفس السابق من هذا الكتاب ومن هذه الكتابة ما يلي:
(الاحتفالية صنعت لنفسها تاريخها الذي يشهد به الجميع، ولا ينكر ذلك إلا جاحد أو حاسد. النقد الحق لا يمارس ثقافة المحو. محبتي أيها العزيز).
وثقافة المحو لا تزيد الموجود شيئا جديدا. وبالعكس، فهي تشطب وتصادر وتدمر وتغتال الموجود الحي والواقعي والحقيقي والتاريخي، وكل ذلك بعبثية وفوضوية، ومن غير أن تقترح فكرة جديدة. أو رأيا مختلفا ومخالفا. ومن غير أن تكون لها اية مساهمة جادة في الحوار الفكري والجمالي والعلمي في الحقل المسرحي.
أما وارث احتفالية الطيب الصديقي ومجددها. ومؤسس الاحتفاليات المسرحية. الأقنعة فكريا. والممتعة فنيا وجماليا. أما ذ .امين ناسور. وارث سر المخرج الاحتفالي الكبير الطيب الصديقي. فقد قال في تعقيبه الأخير على الكتابات الاحتفالية:
(بوركت أستاذنا الجليل كلنا احتفاليون في المسرح وبالمسرح).
نعم. كلنا احتفاليون. في أرض الاحتفالية. وفي زمن الاحتفالية. وفي وطن الاحتفالية. وفي تاريخ هذه الاحتفالية المتواصل. والضارب عميقا في وعي ولاوعي الناس في هذه الثقافة الغنية لحد البذخ. والتي لم نرتجلها ارتجالا، بين عشية وضحاها، والتي هي موجودة فينا. وفي كل مفردات حياتنا اليومية.
أما المسرحي والموسيقي والإعلامي الأستاذ محمد اهواري. فإن علاقته بالبحث الاحتفالي. وبالإبداع الاحتفالي ليست وليدة هذا اليوم. ولقد سبق أن هيا ملفا كاملا وشاملا عن الاحتفالي والاحتفالية في مجلة (طنجة الأدبية)، وكان ذلك منذ أكثر من عشرين عاما. واليوم يعود ليدلي بشهادته التالية في حق الاحتفالي المناضل.. يقول:
(وهذا الإصرار القوي على مواصلة تثبيت وتعزيز موقع الاحتفالية بين المسارح العالمية دليل قاطع على مكانتكم الفكرية والإبداعية- كما الإنسانية- الوازنة والمتميزة بين كبار مسرحيي العالم.. فتحية إكبار وتقدير لكم أستاذي العزيز د. برشيد).
اما الفنان عبد الإله ميموني. والذي لا يخطئ موعده يوما مع الكتابات الاحتفالية. والذي يقتسم معنا نفس الفلسفة العيدية. ونفس الإيمان بإنسانية الإنسان وبحيوية الحياة وبمدنية المدينة.فإنه يقول ما يلي:
(ما خطته ريشتك عن الاحتفالية و سيرورتها و مسيرتها وارتحالها وتحدياتها منذ ولادتها إلى يومنا هذا وضحته وشرحته. وأحيانا قدمته في طبق باذخ لأهل الصنعة والإبداع و أهل المسرح، ولأنهم مصابون بعمى البصيرة لا يفقهون، ولا يدركون فلسفتها وجماليتها وإبداعاتها وإنسانيتها.. بعبارة مختزلة لا يفهمون (إنسانية الإنسان) التي هي اللبنة والأساس التي بنيت و شيد عليها صرح هذه الاحتفالية..
إن رحلة الاحتفالية أو الرحلة البرشيدية، تستمد جذورها وأصولها من الزمن الغابر، يوم وجد “إنسان الكهف” وهو يمارس طقوس الاحتفال أثناء حلول الليل، ويمارسها بشغف ونهم و بشكل دائم .. وسار على النهج الجماعات البشرية منذ الأزل وأيضا عند ظهور الحضارات منذ اليونان إلى عصرنا الحالي ..
إذن، أنثربولوجيا هذه الاحتفالية، أي تأريخ هذه الاحتفالية والمسرح عمرها اليوم : 26 قرن بالتمام والكمال). ما أحوجنا وهذه البشرية جمعاء إلى: فلسفة الاحتفالية.. لأنها تخزل مفهوم: إنسانية الإنسان و تدعو إلى السلم و السلام ونور وهدى الإسلام.. و تسعى في عمقها وجوهرها لتحقيق مبدأ: العدالة الاجتماعية ..
أتمنى أن تظل هذه الاحتفالية و العيدية في حياة المسرح ومسرح الحياة يتردد صداها كسمفونية في أرجاء هذا الكون الفسيح إلى أن يفنى هذا الوجود).
هو قديمنا الذي نعتز به إذن. قديمنا الذي ليس لنا غيره. والذي نجدده اليوم بالفكر وبالعلم وبالفن الجميل وبالسؤال والتساؤل.
وبالتجريب الميداني. ونحن في هذا الإصرار على الحضور المتجدد مقتنعون بأنه لا جديد لمن لا قديم له.. وبانه لا حياة لمن لا عيد له. وبانه لا فرح لمن لا احتفال له.
 
نحو كتابة أخرى لهذا العالم الآخر
    يقول أبو حيان التوحيدي: (يا هذا اياك ان تقف مع اللفظ القصير، فتسحر به عن المعنى العريض، فإن اللفظ للعامة والمعنى للخاصة).
ويقول الاحتفالي في كتاب (الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة) الكتاب الثاني ما يلي:
(ولو اكتفت الاحتفالية باستظهار الأفكار المألوفة والمعروفة وباجترار وتكرار ما قيل وما كتب من قبل، لما استطاعت أن تؤسس رؤيتها الخاصة للوجود، وأن تترجم هذه الرؤية إلى منظومة فكرية جديدة، ولو انها ظلت في حدود الانبهار بالكائن، وبقيت عند عتبة الموجود، لما انتقلت إلى درجات الممكن وبالمحتمل الوجود، ولكانت بذلك صدى وظلا فقط. ولم تكن صوتا مختلفا ومخالفا. ولا جسدا فاعلا ومنفعلا ومتفاعلا، ولو ظلت في حدود القراءة البرانية، وبقيت عند درجة الاستيعاب المدرسي، وذلك لمختلف التجارب الفكرية والأدبية والعلمية، لما استطاعت أن تحيا مبداها في الوجود، والذي هو التحدي والتجاوز، ولما تمكنت أيضا، من أن تؤسس تجربتها الوجودية الخاصة، وأن تجعل من عطائها الفكري والجمالي إضافة حقيقية في سفر الإبداع السري).
ويؤكد لي جميع الذين يتابعون هذه الأنفاس الفكرية والشعرية انها كتابة مختلفة ومخالفة. ويتساءلون عن سر هذا التميز في المبنى وفي المعنى وفي التخيل وفي التمثل. وأقول لكل من يهمه أمر الاحتفالية. كتابة واداعا وفكرا وفنا وعلما وصناعة، ما يلي:
الأصل هو الاحتفالية. والتي هي رؤية ورؤيا. وهي إحساس جميل بعالم جميل. وهي رهان على الأعلى والأسمى وعلى الأبعد الأصدق وعلى الثابت في الوجود والموجودات. وهي الوفاء لذاكرتها ولخط سيرها.
وقبل هذا. وبعد كل هذا. فإن ما يميز هذه الكتابة الاحتفالية هي رؤيتها الخاصة للوجود، والتي هي رؤية عيدية واحتفالية، وهي رؤية انسانية وكونية. وهي رؤية بألوان وظلال متعددة. وهي في بهجتها وحياتها وحيويتها وفي شعريتها. تقابل الرؤية المأساوية للوجود في المسرح اليوناني القديم، وهي في جدتها وعقلانيتها تقابل الرؤية العبثية والفوضوية في المسرح الأوربي الحديث، وهي شموليتها وكليتها تقابل الكتابات الإيديولوجية والمدرسية المنغلقة على نفسها.
وبعد ما يقارب نصف قرن من الوجود، فمازالت هذه الكتابة الاحتفالية غامضة، وكأنها جسد خرافي أو اسطوري، ونقول غامضة، مع أنها سهلة وبسيطة وشفافة ومفتوحة على الأرض والسماء، وأنه من الممكن أن نراها من جميع الجوانب ومن جميع الجهات، وأن نقراها بكل اللغات الكائنة والممكنة، وهذا لا ينفي صعوبة اختزال معرفتها وعلمنها وفنها في كلمات وعبارات ثابتة وجامدة، لأنها كائن تاريخي يتحرك، وهي اليوم هنا وغدا هناك، وهي بهذا زئبقية مثل الزمن وماكرة مثل التاريخ ومتحولة مثل جنية، وفي معنى مقاربة هذه الاحتفالية (علميا) يقول الاحتفالي:
(إن للاحتفالية عتباتها، ولها مدارجها ودرجاتها، ولها بواباتها المتعددة، بواباتها الأمامية والخلفية والظاهرة والخفية، والتي لا يمكن أن تنفتح إلا لمن يعرف كلمة السر، أو يعرف سر الكلمة).
شيء مؤكد أن فعل الدخول (إلى فضاءات هذه الاحتفالية، وإلى عوالمها وأكوانها، ليس بالأمر السهل، فهو مغامرة لا تشبه غيرها من المغامرات، ولا تكررها، وهو انجذاب نحو المعرفة ونحو الجمال ونحو الكمال ونحو الإبداع ونحو الحق ونحو الحقيقة ونحو الأبدي والسرمدي..
إن حجم هذه المغامرة هو نفس حجم العشق الصوفي والإلاهي والفردوسي، والذي يسكن الباحث، وإن مثل هذا العشق هو بالتأكيد عشق روحي يسكن أعين المجانين، ويقيم في نفوس العشاق، ويحرك أجسادهم للكتابة ..الكتابة بالأقلام والكتابة بالأجساد والكتابة بالأشياء)، هكذا تحدث العاشق الاحتفالي في كتابه (الاحتفالية وهزات العصر)، والذي صدر عن (منتدى الفن والثقافة) بمدينة الدار البيضاء.
وقد تكون هذه الكتابة الاحتفالية غامضة. لمن لا يحسن قراءة المكتوب الاحتفالي في سياقه وفي إطاره التاريخي. وبالتأكيد فإن ما بني ـ كتابة وإبداعا وسلوكا وعلاقات وبنيات ومفاهيم ـ في نصف قرن، لا يمكن أن يفهم في مقالة واحدة، او من خلال بيان واحد. أو حتى في كتاب جامع ومانع.
 
لماذا تكلم وكتب الاحتفاليون؟
    لقد آمن الاحتفالي بأن عصرنا اليوم هو عصر العلم وهو عصر العقل وهو عصر التنظير الفكري الجاد والمجدد. والمتجدد وأن حرفة المسرح وحدها لا تكفي. وأنه لابد من الأسئلة العلمية والفقهية في هذا المسرح. وأنه لا يكفي أن نبحث عن نص أدبي. من أية جهة كانت. ومن أية لغة كانت. وأن نمثله أمام جمهور في ليلة من الليالي. ثم نذهب به إلى مهرجان من المهرحانات. وأن ننتزع من الجمهور التصفيق. وأن تمنحنا لجنة من اللجان جائزة من الجوائز. وأن نعود بعد ذلك إلى قواعدنا سالمين غانمين فرحين. وكاننا فد حققنا الفتح المبين في تاريخ هذا المسرح المسكين.
وفي الاحتفالية أسئلة كثيرة جدا، وهي أسئلة ظلت معلقة على جدران التاريخ، ومن هذه الأسئلة يمكن أن نقتصر على الأسئلة الأساسية والجوهرية التلية:
– من أجل من وماذا، فكر الاحتفاليون وأصدروا على امتداد نصف قرن كل الكتب والبيانات الاحتفالية؟
– ولمن كتبوا كل تلك الكتابات ولمن أعطوا آلاف التصريحات وأعادوا مناقشة كثير من البديهيات ومن المسلمات؟
– ولماذا تغير بعض (الاحتفاليين) عبر مسيرة الأيام والأعوام ولم تتغير الاحتفالية، وبقيت ثابتة ووفية لثوابتها الفكرية والجمالية والأخلاقية ولرؤيتها العيدية للوجود؟
– وكيف واجه الاحتفاليون كل حملات التبخيس والتشكيك والمنع والقمع والتشويه والنفي؟
– وبأي سلاح فعلوا ذلك؟ بسلاح الكلمة الرمزي والسحري ام بغيره؟
– وبأي منطق، وبأية حجة حاوروا وجادلوا المختلفين والمخالفين، وذلك على امتداد الجغرافيا العربية الواسعة وعلى امتداد التاريخ العربي المعاصر؟
– وكيف تعب جميع خصوم الاحتفالية، وخرجوا من مضمار السباق، وبقيت الاحتفالية وحدها تسابق الزمن، وتحفر في صخر الفكر والعلم والفن. وتتحدى وحدها المستجدات في الواقع التاريخي؟
– وهل يصح تأسيس تيار مسرحي جديد، في واقع ثقافي جديد، وذلك من غير أن يكون هذا التيار محملا برسائل فكرية وأخلاقية جديدة، ومن غير أن يأتي بنبوءات صادقة تخص مستقبل العالم، وتخص مستقبل الإنسان الحي في هذا الواقع الحي؟
 
وجوابا على هذه التساؤلات يمكن أن نقول ما يلي:
الاحتفاليون لن يكتفوا بتقديم مسرحيات عابرة في زمن عابر. ولكنهم اهتدوا إلى تاسيس مسرحهم أولا. ومن داخل هذا المسرح فكروا وتخيلوا وابدعوا. إيمانا منهم بأن الأساس في الحقل الفكري والجمالي هو غرس شجرة المسرح أولا. وبعد ذلك تأتي ثمار هذه الشجرة. وفية لتربتها، ووفية لأرضيها، ووفية لمناخها الفكري والجمالي والأخلاقي العام.
الاحتفالبون لم يجدوا مسرحهم مطروحا على قارعة الطريق، ولم يأخذوه من الكتب المترجمة. والتي قد تكون ترجمتها ترجمة خائنة في أغلب الحالات، ولم يلتزموا في هذا المسرح بما لا لزوم له. ولقد عاشوا هذا المسرح في ذواتهم. وتمثلوه في حياتهم. انطلاقا من حكي الجدات ومرورا بحكي الحكواتيين، ووصولا إلى قراءة هذا المسرح في احتفالات الناس وفي أعيادهم وفي أزيائهم وأمثالهم وحكمهم وغنائهم ورقصهم ولعبهم.
ولقد فعلوا كل ذلك، لأنهم فقط (قوم مبصرون) ولأنهم ( قوم يعقلون) ولأنهم أهل رأي وأهل رؤية واهل رؤيا، ولأنهم (آمنوا بربهم فزدناهم هدى) ولأنهم في حياتهم اليومية، وفي حياة فكرهم وحياة مسرحهم، كانوا صادقين، ولأنهم في مسرحهم كانوا رفاق المعرفة والحكمة. وكانوا إخوان الصفا وخلان الوفاء. وأنهم كانوا من عشاق الجمال والكمال، ولأنهم ساروا في الطريق السوي. ولأنهم قد رأوا أمامهم أشياء مثيرة ومدهشة ومستفزة للعقل، رأوها وأدركوها، بعين الحس. وبعين الحدس. وبعين الوجدان وبعين الخيال، وبعين الروح قل كل شيء، لقد رأوا أشياء كثيرة جديدة موجودة في الوجود، فأحبوها وفكروا في حكمة وجودها، ولأنهم أيضا، قد تأملوا الواقع والوقائع بعين السائح وبقلب العاشق وبروح الصوفي، ولأنهم كذلك قد قرأوا، أغلب وأصدق ما كتبه الكاتبون بخصوص تاريخ الفكر وتاريخ العلم وتاريخ الفنون، ولأنهم أهل تفكير. وعشاق تفكير، فقد فكروا في طبيعة المسرح المسرحي، والذي هو مجمع علوم وفنون وصناعات كثيرة جدا، ولقد فكروا مع الفلاسفة في معنائية هذا المسرح الوجودي، الواسع والرحب واللامحدود، ولأنهم أيضا قد أدركوا، في المعرفة درجة ما، ولأنهم اقتنعوا بقناعات بدت لهم وجيهة وصادقة، فقد أشركوا كل الناس معهم فيها، ولعلمهم بأن باب الاجتهاد العلمي والجمالي مفتوح لكل الناس، وأنه فعل مشروع بالنسبة للمجدين والمجتهدين، فقد أدخوا المسرح إلى مختبرات التجريب الميداني، ولأنهم آمنوا بأن مسئوليتهم في التاريخ، هي أن يعيدوا تأسيس المسرح العربي الحديث، وذلك وفق معايير علمية وفكرية وجمالية حقيقية وسليمة وحديثة وحقيقية، فقد فعلوا ذلك حبا وتطوعا.
لقد اقتنعوا بأن المسرح ليس عرضا يعرض، وبأنه ليس بضاعة تعرض في الدكاكين وفي الأسواق، وأنه ليس مجرد زبون من الناس تعرض له وأمامه وعليه بضاعة بشكل فرجة، وهل الفعل المسرحي، وهو مقتطع من حياة الناس ومن زمنهم ومن حالاتهم ومن أسئلتهم ومن مسائلهم ومن معاناتهم اليومية، يمكن أن يكون مجرد بضاعة؟
لقد اقتنع الاحتفاليون بأن هذا الذي يسمى (مسرحنا) ليس مسرحنا، لأنه ـ وبكل بساطة ـ لا يشبهنا، كما أنه لا يشبه ثقافته، ولا يشبه تاريخه، ولا يشبه جغرافيته، ولا يشبه لحظته الحية، ولا يشبه مناخه الفكري والجمالي، ولا يشبه عمرانه ومعماره، ولا يشبه أعياده واحتفالاته ولا يشبه فكره وفنه. ولا يشبه أسئلته ومسائله.
 
وكما يكون الاحتفالي تكون الاحتفالية
    وهذا المسرحي الاحتفالي هو ذلك الذي يعرف أنه لا يعرف، والذي يريد أن يعرف، والذي يسعى لأن يقتسم مع الناس كل ما قد يعرف، وفي هذا المعنى نجده يقول (والحمد لله على كل حال، بعض الجهل أهون من بعض يا صاحبي، وبعض الضرر أخف من بعض، هكذا أقول دائما.. أقولها كلمة واضحة وفاضحة وأمشي.. أنا نصف عالم ونصف جاهل، ونصف فنان ونصف صانع، ونصف عاقل ونصف مجنون، ونصف صادق ونصف كذاب، ونصف إنسان ونصف حيوان، وأعمل دائما على أن أنتصر على حيوانيتي التي بداخلي، وأكبر حروبي هي التي أخوضها على نفسي) وهكذا تحدث الاحتفالي في كتاب (الرحلة البرشيدية) والتي هي رحلة افترافية في العوالم الافتراضية.
وهذه الاحتفالية التي تميز بين الواقع والحقيقة هي التي قالت قي كتاب (الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة).
ولو لم تراهن (الاحتفالية) على الحق والحقيقة، لأكلها الواقع المزيف، ولأصبحت اليوم مجرد جزء من الوقائع العابرة والطائرة، ولما استطاعت أن ترحل داخل المكان والزمان. وأن تنتقل من الهنا إلى الهناك. وأن ترحل في فضاءات الزمن؛ الرحبة والممتدة، وأن تنتقل من عمر إلى عمر، وأن تسافر من قرن إلى قرن، ومن ألفية إلى ألفية اخرى جديدة، وأن تظل دائما في دائرة الضوء.
ولو تصالحت هذه الاحتفالية مع الواقع، وراهنت على متغيراته بدل ثوابته، معرفيا، واكتفت بقشوره بدل جوهره، لما استطاعت أن تتمثل الوجود الحق، ولا أن تدرك معنى الحياة، ولا أن ندرك فلسفة العصر، ولا أن تقرأ أيجديته الجديدة، ولا أن تكتب له. وعنه، بنفس لغته الحية.
ولو لم تكن مسكونة بروح المغامرة ما غامرت، معرفيا وجمايا ووجدانيا. ولو لم تغامر. ما تحقق لها شيء من الحياة، ولما ربحت اعمارها الجديدة، ولما استطاعت ان تصل إلى الضفاف الأخرى، ولا أن تدرك الآفاق البعيدة والخفية والغريبة والعجيبة والمثيرة والمدهشة.
ولولا الإحساس الصادق والشفاف بالغربة. في الكتابة وما وراء الكتابة، لما وجدت الرغبة الحارة قي البحث عن الكتابة الأخرى الممكنة، أي تلك الكتابة المغيبة والمقموعة، والتي تستحضر الغائبين والمغيبين، والتي تحرر الحقيقة المقيدة والممنوعة، وتؤنسن الواقع المتوحش، وكل ذلك بكتابنها الحيوية، والتي تنهض على اساس لغة فروسية واحتفالية.
ولولا المنفى، في هذا الوطن المسيج بسياج القمع والإرهاب والخوف والنفي والإقصاء. ولولا شعور الاحتفاليين أنهم (جالية) مغربية وعربية في هذا الوطن المغربي والعربي الكبير، لنا راحت هذه الاحتفالية المغربية تبحث عن وطنها الحقيقي، أي عن ذلك الوطن الممكن الوجود، والذي تسكن إليه النفس. ولا تنكره الروح. ولا يتنكر لها.
ولو لم تندهش هذه الاحتفالية، أمام الناس والأشياء، وأمام الأفكار والصور، لما استطاعت أن تتساءل بخصوص كل شيء، ولو لم تتساءل، لما استطاعت ان تنفذ إلى عمق الأفكار، وأن تصل إلى غور الكلمات والأشياء، وأن تدخل كواليس مسرح الحياة، وأن تدرك عتبة كواليس مسرح الوجود.
ولو لم تكن هذه الاحتفالية على وعي بعبثية الواقع وبأعطاب التاريخ وباختلالات الوجود الاجتماعي والسياسي والفكري. لما استطاعت أن تفكر في البديل، ولما تمكنت من أن تصوغ رؤية جديدة للواقع، ولا أن تقترح مدينة أخرى، ولا أن تستبدل الوجود الإنساني الماتمي الكائن بالوجود الاحتفالي الحيوي الممكن).
وبهذا فقد بحث الاحتفالي عن مسرح جديد وحقيقي وصادق وحي وحيوي ومقنع وممتع وجميل ونبل قبل البحث عن مسرحيات تكرر الموجود. وتكون رقما اضافيا. ولا تكون وجودا حقيقيا.
Visited 20 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي