حوار المشرق والمغرب: حسن حنفي – محمد عابد الجابري (5-6)
سعيد بوخليط
يشير تاريخ الليبرالية الأوروبية، إلى القرن الخامس عشر مع الإصلاح الديني، ثم عصر النهضة في القرن السادس عشر وعقلانية القرن السابع عشر وكذا عصر الأنوار خلال الثامن عشر، وإعلان حقوق الإنسان وأخيرا ظهور الدولة الوطنية خلال القرن التاسع عشر.
تحقَّقت حرية تفسير النص الديني ضد سلطة الكنيسة، انتصرت حرية الإيمان الباطني للفرد ضد العقائد الرسمية وعلاقته الخاصة مع الله دون وساطة رجال الدين، ثم الإيمان بالعقل والسعي إلى فهم الطبيعة وتأسيس علم جديد، والإيمان بالحاضر والمستقبل والإبداع، حينها أعلن ديكارت بأنَّ العقل هو أعدل قسمة بين الناس، وصار هذا العقل سلطانا: “فإن سبينوزا قد أعلن أن حرية الفكر ليست خطرا على الإيمان ولا على سلامة الدولة بل إن القضاء على حرية الفكر فيه تهديد للإيمان وسلامة الدولة. أصبح العقل سلطانا على كل شيء. وبدأ العصر الليبرالي الأوروبي بالتنوير اليهودي عند اسبينوزا ثم بالتنوير المسيحي عند لسنج وهردر وكانط ثم بالتنوير الفلسفي العام عند فلاسفة دائرة المعارف، فولتير، وروسو، ومونتسكيو، وديدرو ودالامير، إلخ، مما أدى إلى تفجير الثورة الفرنسية. وحاولت ألمانيا اقتفاء الأثر فقامت ثورة 1848 على أيدي الهيجلين الشبان دعاة التنوير الألماني لخلق ثقافة وطنية تقوم على أساسها الوحدة الألمانية ونهضة الشعب الألماني. وأخير أعلن سارتر في نهاية الوعي الأوروبي ”أنا حر فأنا موجود” ليؤكد على مكتسب طويل” (ص 59) .
بينما تمثَّل التعبير عن مضمون الليبرالية، عند التحوُّل إلى السياق العربي الإسلامي، يضيف حسن حنفي، في التعدُّدية المذهبية والفقهية منذ القرن الأول غاية الرابع الهجري، تبلور معها نقاش واسع وثقافة جدلية، فنشأ علم الكلام وتعرَّف المسلمون على ديانات اليهود وحكمة فارس، والتراث اليوناني والروماني، ثم تحقَّقت التعدُّدية، وحدث الغزو الصليبي مما جعل الغزالي يدعو إلى التصدي لتلك التعدُّدية والهجوم على العلوم العقلية: “ودعا الأمة إلى طاعة السلطان الواحد حتى لو أخذ الإمامة عن طريق الشوكة والغلبة،واعتناق المذهب الواحد وهي الأشعرية التي تدعم السلطة القائمة بإثبات مطلق الإرادة الإلهية على كل شيء، الإنسان والطبيعة. ثم قدم للناس التصوف، إيديولوجية أخرى تقوم على الزهد والورع والقناعة والتوكل والرضا والصبر، إيديولوجية للاستسلام” (ص 61) .
إذن، الأشعرية باعتبارها عقيدة جبرية تنفي أيّ دور لإرادة الإنسان وعقله في توجيه التاريخ، كما تؤكد على سلطة الحاكم المطلقة، شكَّلت مرحلة كَبَحَتْ روافد الانفتاح وبداية تراكم لبنات أزمة الحرية والديمقراطية، بالتالي فشل إمكانيات ترسيخ الليبرالية الغربية بين طيات منظومة حياتنا المعاصرة.
لا سبيل نحو تفعيل مرتكزات فلسفة من هذا القبيل، سوى بالعمل على: ”استئصال جذور تسلط الحكام واستسلام الشعوب، وذلك عن طريق إعادة بناء المخزون الثقافي الذي مازال حيا في ثقافتنا الوطنية على أسس جديدة تجعل للإنسان فاعليته في التاريخ، وللطبيعة قوانينها المستقلة، وتجعل الإمامة عقدا وبيعة واختيارا دون حكر على طائفة ”قريش” قديما و”العسكر”حديثا، وإبراز حق الرقابة على السلطان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة في الدين، وحق الخروج على الإمام، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق” (ص 62 – 63 ).
باشر عابد الجابري مداخلته، مؤكِّدا منذ البداية بأنَّ مدى أهمية التطرُّق إلى فشل المشروع الليبرالي داخل الأقطار العربية، يقتضي التحلِّي بـ: ”الحيطة والحذر والمرونة في الحكم” (ص 64)، ثم يطرح فكرتين أساسيتين، أولا اتفاقه الفعلي مع حسن حنفي، بتحديده جذور الليبرالية الغربية عند القرن السادس عشر، والثانية ضرورة تحديد نطاق الليبرالية هنا، يتعلق الأمر أساسا بالليبرالية الفكرية وليس الاقتصادية.
بعد التوافق على الإشارتين السالفتين، أقرَّ عابد الجابري اعتراضه على التعميم الذي ميَّز تحليل حسن حنفي، بإسقاطه فشل الليبرالية داخل مصر الأشعرية على باقي الأقطار العربية، بينما تباينت واختلفت أسباب النجاح والفشل: ”فنحن هنا في المغرب عشنا تجربة تختلف عن تجربة مصر في نقطة أساسية، وهي أن الحداثة المنقولة إلينا من الغرب، أو التي نستوردها نحن، لم تدخل في تناقض حاد مع السلفية كما حدث في مصر. بل إن السلفية عندما كانت هي التي تولت التحديث، وقد تبنت القيم الليبرالية الغربية وصبتها في قوالب وطنية، عربية إسلامية،فكانت ”سلفية وطنية”، قادت حركة التحديث ومعركة الاستقلال في آن واحد” (ص 66 ).
سرد عابد الجابري أمثلة أخرى، بغية التدليل أكثر على أنَّ المذهب الأشعري في المغرب، لم يُجَسِّد إطارا ومصدرا للاستبداد، لذلك يعود بالدرجة الأولى فشل التجربة الليبرالية سواء في مصر أو غيرها إلى عامل التوسع الامبريالي. مقابل هذا المعطى التاريخي، تواصل نجاح الليبرالية داخل أوروبا بجانب استمرار وجود الكنيسة الكاثوليكية، وأيضا في اليابان ارتباطا بتقاليدها المحافظة.
تعتبر الحداثة طريقنا الوحيد إلى العصر، هكذا جاءت صيغة العنوان الذي وضعه عابد الجابري مدخلا لمقاربته، محورا آخر بعد الليبرالية وكذا ثنائية الحداثة والتقليد.
بخصوص شعار تراثنا يكفينا، دونما حاجة إلى آراء المفكرين الغربيين. رصد عابد الجابري نموذجين من الأصوات. يندرج ضمن الصنف الأول من ينعتون بالسلفيين، الذين يعتمدون على المرجعية التراثية. أما الصنف الثاني، فقد أبان أهله عن تصور شاذ وغير طبيعي، بحيث درسوا في الجامعات والمعاهد الأوروبية، ويؤولون من داخل المنظومة الغربية، ومعرفتهم ضعيفة بالثقافة العربية الإسلامية، رغم ذلك يتقاسمون نفس مرجعية السلفيين: ”الرجل من هؤلاء غالبا مايفكر تفكيرا ”غربيا”حتى وهو يتكلم اللغة العربية، وغالبا مايقضي عطلته في بلد أوروبي، وهو إذا خرج من بلده، أو من البلد العربي الذي يشتغل فيه، شعر وكأنه خرج من السجن. أما عادات الملبس والمسكن والأكل والشراب فهي غربية تماما ومع ذلك فهو لا يتردد في القول إن مفاهيم الثقافة الغربية ونظرياتها لاتصلح لنا ولسنا في حاجة إليها لان ماعندنا يكفينا” (ص 72).
مع ذلك، يمكن استساغة شعار ”تراثنا يكفينا”، على مستوى التراث الديني ومجال العقيدة بروح نقدية تعكس المقاصد والغايات، بينما يستدعي المنظور تغيير زاوية الرؤية بخصوص العلوم والمعارف والمناهج والصناعات والفلسفة والنظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بحيث يبلور منطق تجاوز القديم أساس مفعول الحداثة: ”هي في جوهرها ثورة على التراث القديم، تراث الماضي والحاضر، من أجل خلق تراث جديد. والحداثة اليوم، في العلم كما في الأدب والفلسفة والمناهج والاجتماع والاقتصاد إلخ، لا وطن لها، أو على الأقل لم تعد محصورة ولا قابلة للحصر في رقعة من الأرض دون أخرى” (ص 74) .
حداثة، ننسج من خلالها علاقتنا بالتراث قصد احتوائه وامتلاكه، ثم تحقيق التجاوز وتكريس سلسلة القطائع،ضمن وجهة مستقبل ننتمي إليه، ونمثِّلُ عنصرا فاعلا في توجيهه.
يباشر حسن حنفي ردَّه على عابد الجابري، بإبرازه ضرورة تحديد المصطلحات تفاديا لكل لبس، لذلك لايعني التراث التقليد حتما، بل الانطلاق من الأنا مقابل الآخر، ويرجح أصل هذا اللبس إلى ترجمة المصطلح الغربي ”Tradition” بالتراث والتقليد.
أيضا، ليست الحداثة إحالة دائمة على الغرب بل اجتهاد التراث. حداثة، تلامس الشكل والمضمون؛ أي اللغة ومعنى الشيء. يتيح هذا التمثُّل من الداخل للأنا، تطوُّرا تاريخيا متواصلا، دون قطيعة بين الماضي والحاضر. أما شعار ”لدينا ما يكفينا”، فيعتبره حسن حنفي قابلا للتبرير، قصد التصدي لضياع الأنا خلف هيمنة ثقافة الآخر: ”إن رفض الآخر المتمثل في الغرب حاليا شيء طبيعي نظرا لما نحن فيه من ضياع،ضياع الأنا في الآخر، وطغيان الآخر في الأنا. وكلما ازداد التغريب، ازداد الدفاع عن الأصالة والتراث في غياب جدل صحيح بين الأنا والآخر” (ص 77) .
وظَّف حسن حنفي، مفهوم ”التغريب” ارتباطا بسياق حديثه، جراء الوتيرة التي انتشرت بها الثقافة الغربية بواسطة الإعلام ودور النشر، فارتقى بها أنصارها نحو العالمية، بينما الثقافة في نهاية المطاف حصيلة مجموع الثقافات المحلية عبر تواصلها وتفاعلها.
ليس الغرب إطارا مرجعيا وحيدا لكل إبداع، ويلزم الإيمان خلال الآن ذاته بتعدُّد مراكز الإبداع، وتنوع الشعوب والمواقف الحضارية، ويضيف حسن حنفي، بأنَّ القرب الجغرافي للعالم العربي من أوروبا، جعله إبداعيا ضحية المركزية الأوروبية: “العلاقة بين الأنا والآخر ليست علاقة بين الخصوصية والعالمية وإلا أعطينا أنفسنا أقل مما نستحق. فكل حضارة خاصة، ولا توجد حضارة عامة تمثل الحضارات جميعا. وإن تراكم الإبداعات البشرية في آخر مرحلة من مراحل تطور البشرية في الغرب الحديث لا يجعل باقي الحضارات تصاب بالدوار وبفقدان التوازن لأن لها في هذا التراكم دورا سابقا وإسهاما تاريخيا غير منظور. وإن علوم الصين والهند وفارس وحضارات مابين النهرين وكنعان ومصر القديمة والإسلام لهي أحد المكونات التاريخية والروافد العلمية للغرب الحديث” (ص 80- 81).
رحل جمال عبد الناصر عن عالمنا يوم 28 سبتمبر 1970، بعد أن أرسى معطيات تجربة سياسية لايمكن قط التغاضي عنها ابتدأت منذ ثورة 23 يوليو 1952، وانتهت فعليا جراء هزيمة حرب يونيو 1967، نظرا للانهيار النفسي الكبير والإحباط الذي اختبرته فعليا الجماهير العربية ونخبها التقدمية، بعد الاندحار غير المتوقع أمام الجيش الإسرائيلي.
لحظة نوعية عاشها التاريخ العربي الحديث، خلال حقبة صارت الآن بعيدة، بيد أنَّ تداعياتها على جميع المستويات لازالت محايثة بنيويا لما يجري ظاهريا، عالقة في الذاكرة والوجدان، تتجلى حسب حسن حنفي، عبر هذا التطلًّع الراسخ وجهة ثالوث: الحرية، الاشتراكية، الوحدة.
لم تكن الناصرية بالنظرية السياسية المتبلورة والجاهزة قبليا، لكنها تشكَّلت وتجدَّدت أدبياتها ومناحيها نتيجة تحديات خلقت منعرجاتها الأساسية، وهي: ”مقاومة الأحلاف العسكرية مثل حلف بغداد واتفاقية جلاء القوات البريطانية في 1954، وتأميم قناة السويس في 1956 والتمصير في 1957، ووضع نهاية للسيطرة الأجنبية على اقتصاديات البلاد، والوحدة المصرية السورية 1957 – 1961 كأول تجربة وحدوية في تاريخ العرب الحديث وظهور القومية العربية كحركة تحرر وطني ضمن المذاهب السياسية الوطنية على الصعيد العالمي، ثم البناء الاشتراكي 1961-1964، وظهور الاشتراكية العربية كإبداع سياسي في العالم الثالث مثل الاشتراكية الإفريقية”. (ص 82- 83 ).
ارتدادات زلزال هزيمة 1967، أجبرت الناصرية على مراجعة الذات وإعادة تقييم المسار الذي تراكم غاية عشية حرب ستِّ ساعات؛ ومجازا ستة أيام. فقد اقتضى الوضع الجديد تأسيس نظرية ثورية وإعادة بناء الجيش وحرب الاستنزاف (1969)، وأوراش اقتصادية ومجتمعية تهمُّ الرأسمالية الوطنية والتأميم، إلخ. لكن الموت، لم يمهل جمال عبد الناصر.
انكشفت فعليا خيوط الثورة المضادة يوم 15 مايو 1971، قصد الإجهاز على الناصرية، تلتها قوانين الانفتاح سنة 1974، وزيارة السادات إلى القدس انتهاء بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد.
عندما نستحضر تاريخ الناصرية، نستعيد تاريخيا إنجازات كبيرة سواء داخل مصر أو خارجها، مثل: الإصلاح الزراعي، مواجهة الإقطاع، تأسيس القطاع العام، بناء الصناعة الثقيلة، سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، حقوق العمال ومشاركتهم في الإدارة، مجانية التعليم، الاهتمام بالقطاع الصحي، العلاج المجاني، تبلور القومية العربية، دعم حركات التحرر، مقاومة الاستعمار والصهيونية، إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية، التضامن الآسيوي الإفريقي، تأسيس حركة عدم الانحياز. مع ذلك، انتهت الناصرية إلى خسارات، أبرز حسن حنفي أسبابها في ثمان معطيات أساسية، هي:
*غياب نظرية مبدئية تشكِّل برنامجا للعمل، بدل الاكتفاء بتجارب الخطأ والصواب.
*ضرورة وجود حزب ثوري طليعي، بوسعه حماية مكتسبات الثورة حين وفاة عبد الناصر.
*شخصنة السلطة، وإهمال البناء المؤسساتي المطلوب.
* الفراغ السياسي الناجم عن الاصطدام مع القوى الوطنية، كالإخوان والشيوعيين والوفد.
*تصفية أجنحة الثورة والإخوان والشيوعيين، فقد هيمن الضباط الأحرار على مختلف آليات الحكم، من ثمة التحول إلى الاستبداد والشمولية.
*غياب الحريات وسيطرة أجهزة الأمن والمخابرات العامة على حياة الشعب.
*انعدام مشروع بناء ثقافة وطنية ثورية، قصد استيعاب الثقافة الوطنية التقليدية.
*نموُّ طبقات متوسطة تتباين مصالحها مع مصالح الأغلبية، جعلت الدولة فضاء لسيطرة الرأسماليين الجدد.
رغم ذلك، هي ليست بإشارات نهائية عن موت الناصرية، بل لازالت الأخيرة تسكن قلوب الجماهير الموصولة دائما تطلعاتها بناصرية شعبية، تصورها حسن حنفي في صيغة تحالف وطني يجمع بين الحركات الإسلامية والشيوعية والليبرالية، تمتلك المستقبل فعلا: ”تكون الناصرية فيه بمثابة القلب أي الجماهير العريضة صاحبة المصلحة في انجازات الناصرية، والحركة الإسلامية جناحها الأيمن، والحركة الشيوعية جناحها الأيسر، والليبرالية رأسها المفكر، وبهذه الجبهة العريضة يستطيع الطائر أن يطير فلا طيران إلا بجناحين وإلا ثقل الجسم إلى الأرض”. (ص 88) .
قبل تركيز عابد الجابري على تفكيك الإحالات الضمنية الخاطئة التي انطوى عليها التشبيه المجازي الذي أنهى به حسن حنفي مداخلته عن الناصرية، أقَرَّ بكونها تجربة سياسية مثَّلت قضية وشأنا لكل العرب، كما أبرزت خلالها الناصرية هذا الكيان العربي الواحد نظريا وعمليا بكيفية غير مسبوقة.
يعتبر عابد الجابري الناصرية مرحلة تاريخية، ولايمكن اعتبارها مذهبا في التفكير أو نظرية سياسية أو ثورية، بحيث جسَّدَت ممارسة تحرُّرية خلال فترة المدِّ التقدمي داخل بلدان العالم الثالث سنوات الخمسينات والستينات، حينها مَثَّل جمال عبد الناصر بالنسبة للشعوب العربية، نفس نموذج الشخصيات القيادية في مناطق من العالم الثالث كجواهر لال نهرو (الهند)، أحمد سوكارنو (اندونيسيا)، الماريشال تيتو (يوغوسلافيا).
يجدر استحضار هذا السياق التاريخي، بغية تحقيق تأويل موضوعي، يتيح لنا إمكانية استخلاص دروس الماضي من أجل المستقبل، هكذا اتفق عابد الجابري مع التقييم الذي وضعه حسن حنفي لمسارات الناصرية، لكنه اختلف معه بخصوص الصورة المجازية التي أنهى بها مداخلته للتعبير عن رؤيته للمستقبل، وتصوره لكيفية تحقُّق الناصرية الشعبية: ”لقد اخترتَ الطير، أو الطائرة، مثلا، أي نموذجا بنيت على صورته وشاكلته البديل المستقبلي الذي تقترحه: جعلت الناصرية هي الصدر والحركة الإسلامية والحركة الشيوعية هما الجناحان، والليبرالية هي الرأس. والهدف معروفا هو: ”أن نطير”. صورة جميلة تخاطب الخيال، تجنده وتعبؤه. وهل هناك ماهو أكثر تجنيدا للخيال من أن يرى الإنسان نفسه ”على أهبة أن يطير’!” (ص 90- 91).
بدل صورة الطائرة وماتحيل عليه من علاقة عمودية بين قائد الطائرة والركاب وحيثيات مايجري داخل الطائرة ثم إمكانية سقوطها نتيجة أبسط خلل طارئ، يفضِّل عابد الجابري استثمار إحالات صورة القطار: ”من شروط وجود القطار وجود ”سكة”: طريق مرسومة لايملك السائق أن يحيد عنها، هو يسير فيها، يراقب العلامات الضوئية ويمتثل لدلالاتها يخفف السرعة أو يزيد فيها. وفي القطار عربات،والناس فيها غير مقيدين، لا يحتاجون إلى أحزمة، ولا يمنع عليهم الانتقال من عربة إلى أخرى، فالأبواب مفتوحة… والقطار لا يتوقف على السائق توقف الطائرة على ”القائد”. (ص 92) .
أيضا، يرفض عابد الجابري احتضان فكرة زعيم/بطل، ربما يجود به الزمان أو ليس كذلك، والأهم الرهان بالمطلق على إقامة الديمقراطية وبناء دولة المؤسسات وتهتدي بها دولة ”القطار/السِكَّة”.
قبل الانتقال إلى آخر محور، انصبَّ على مستجدات القضية الفلسطينية،تبادل المفكِّران وجهات نظرهما حول تراث ذاكرة الثورة الفرنسية وأصلها فكر الأنوار، مناسبة هذا الحديث انعقاد ندوة دولية في القاهرة موضوعها ”الثورة الفرنسية والعالم العربي”، بينما يحيل الداعي الثاني على زيارة ياسر عرفات إلى فرنسا، باعتباره رئيس دولة فلسطين التي أعلن عنها رسميا في الجزائر يوم 15 نوفمبر سنة 1988 .
منذ اطلاع رواد النهضة الأوائل، على فلاسفة التنوير،من خلال البعثات العلمية التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا،فقد رأوا في صور العقل الحرية، العدالة الاجتماعية، العلم، الديمقراطية، الدستور البرلمان، أسس الدولة الحديثة التي اختبرتها مصر قبل ثورة 1952 .
أفرزت المرحلة التاريخية متنا نظريا، لازالت عناوينه قابلة للتداول غاية الآن: “في مصر كتب الطهطاوي ”تخليص الإبريز في إخبار باريز أو الديوان النفيس في إيوان باريس”، وعبد الله فكري ”إرشاد الألبا إلى محاسن أوروبا “والمويلحي”حديث عيسى بن هشام”. وفي تونس كتب خير الدين ”أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” وابن أبي ضياف ”إتحاف أهل الزمان”. وفي الشام كتب أحمد فارس الشدياق ”كشف المخبأ في أحوال أوروبا” وغيرهم الكثير” (ص 107 ).
لكن تبعا لمرجعية الانحياز إلى الاختيار التراثي القديم، كتب جمال الدين الأفغاني عمله ”الردّ على الدهريين”، مجابها فولتير، مونتسكيو، روسو. أما أحمد فارس الشدياق، فقد تناول بين طيات عمله ”الساق على الساق”، المنظومة الكهنوتية بتحرير العقل، وكتب محمد فريد وجدي “دائرة المعارف في القرن الثامن عشر”. كذلك، استعاد رفاعة الطهطاوي نصوص بور رويال، راسين، كاندياك، فولتير، مونتسكيو، روسو، وترجم رسائل فارسية لمونتسكيو وكتابه الآخر ”روح التشريع”.
أما طه حسين، فاستندت رؤيته التاريخية على المنهج الديكارتي، والثقافة باعتبارها ثقافة البحر الأبيض المتوسط، بالتالي الصلة القائمة بين الشمال الأوروبي وجنوبه العربي.
يجزم حسن حنفي، اندراج دافع استلهام تراث الأنوار من طرف رواد النهضة، ضمن رؤى خاصة لإعادة بناء التراث الإسلامي والموروث القديم: ”القرآن، والسنة والأقوال المأثورة، وتاريخ الصحابة والشعر العربي، لا فرق في ذلك بين الأفغاني وأديب اسحق، بين محمد عبده وفرح أنطون، بين الطهطاوي وشبلي شميل، بين اسماعيل مظهر وسلامة موسى”. (ص 109).
انعدمت هذه الروح التأصيلية مع نخب الجيل الخامس، أي جيل حسن حنفي نفسه، بحيث ترجم نصوص الأنوار لمجرد الترجمة، دون مشروع إعادة بناء التراث القديم: ”وكأن جذور نهضتنا الحالية يمكن أن تمتد إلى اليونان كما فعل أحمد لطفي السيد عندما ترجم ”كتاب السياسة لأرسطو” أو طه حسين عندما ترجم “دستور الأثينيين” أو عادل زعيتر عندما ترجم “روح الشرائع” أو”العقد الاجتماعي”. (ص 109).
أما سلامة موسى، فقد استلهم فولتير من تراث الأنوار، قصد الاستشهاد به فيما يتعلق بأهمية العلم:”فولتير هو محطم الخرافات، والداعية إلى التسامح ضد التعصب وإلى التحرر من القيد ضد الاستعباد، استبداد الكهنة والشرطة دفاعا عن الحق الطبيعي والدين الطبيعي”. (ص 110) .
قدمت أدبيات الثورة الفرنسية سواء لدى الإصلاحي أو الليبرالي، مرجعية صميمة للتحديث، من خلال مرتكزات العقل والعلم الحديث والصناعات العسكرية وحرية الأفراد والاعتقاد والديمقراطيات وتقييد الملكية بالدستور وتأسيس الدولة الحديثة وتأسيس فهم آخر للتاريخ.
تلك المتون الملهمة نهضويا، التي حاول الرواد الأوائل غرسها في الجغرافية العربية؛ أي لبنات التجربة الليبرالية، انتهت فيما بعد إلى نقائضها من خلال هيمنة الإقطاع، التعاون مع البلاط، الولاء للأجنبي، سيطرة الأقلية على الأغلبية، الفساد الحزبي، وانقلبت الثورات العربية إلى ثورة مضادة ثم انبعاث النظم القديمة: ”ويعود جيلنا للسؤال من جديد هل يمكن التثوير قبل التنوير؟ بأيهما نبدأ: الضباط الأحرار أم المفكرون الأحرار؟ ونحن إلى بداياتنا القديمة لدى رواد عصر النهضة الذين كانوا على صلة بفلاسفة التنوير وتعود الثورة الفرنسية إلينا في ذكراها المائوية الثانية لتعاود فينا هذا الحنين”. (ص 111) .
سؤال التداخل البنيوي بين التثوير والتنوير، الذي اختتم به حسن حنفي مداخلته بخصوص موضوع التنوير والليبرالية في العالم العربي، بمناسبة مرور قرنين من الزمان على الثورة الفرنسية، حاول عابد الجابري اختزاله إلى معادلة دلالية بسيطة مفادها، بأنَ التنوير يعكس تثويرا: ”فلا داعي للانشغال بسؤال:”هل يمكن التثوير قبل التنوير؟”، لأنه سؤال يطرح اختيارا لامبرر له ولا معنى. إنه يفرض علينا الفصل بين ”التثوير” و”التنوير”والأخذ بأحدهما قبل الآخر، وهذا موقف ينطوي على خطأ جسيم. والصواب: هو الجمع بينهما فهما لا يتناقضان ولا يتصادمان بل يتكاملان، كل منهما يشكل حقيقة الآخر وجوهره” (ص 112- 113).
أما، عن سؤال البداية والمنطلق والأرضية، التي ينبغي استعادتها ثانية بمناسبة هذا الاحتفال بذكرى الثورة الفرنسية ومن ثمة حيثيات الليبرالية والتنوير، فالمنطلق والمنتهى بهذا الخصوص تكمن أساسا في مشاريع بناء ”المواطن الحر”.
فيما يتعلق بجوهر الإشكال الذي أبرزه حسن حنفي، تحديدا إخفاق حركة التنوير عربيا، توخى عابد الجابري تدقيق بعض المعطيات الملتبسة التي انطوى عليها الطرح وفق تلك الصيغة. أولا، لم يشمل التنوير كل الأقطار العربية، وساد بالدرجة الأولى الشام ومصر. ثانيا، تبرز الحقيقة التاريخية بأنَّ الحركة الوهابية: “التي قامت قبل الثورة الفرنسية باثنتين وأربعين سنة، حينما تحالف محمد بن عبد الوهاب مع أمراء آل سعود عام 1747 “(ص 114)، شمل صداها كل الجغرافية العربية قياسا مع موجة التنوير. ولأنَّ تأثير الوهابية، يماثل حسب عابد الجابري ماحققته الثورة الفرنسية داخل أوروبا، فقد تبلورت حركات أخرى على منوال الوهابية مثلما الشأن مع صنيع الإمام الشوكاني في اليمن (1758- 1843) والسنوسية في ليبيا، ثم المهدية الصوفية في السودان.
إذن، إبَّان سياق الثورة الفرنسية، كان العالم العربي متأثرا أساسا بحركات دينية قوامها الوهابية، السنوسية، المهدية، السلفية، بينما انحصرت حركة التنوير ضمن منطقة الشام ومصر، وحتى بالنسبة للأخيرة، فقد ارتبط الأمر أساسا بـ”النخبة العصرية” دون”النخبة التقليدية”.
عموما، خلص عابد الجابري إلى مسألتين: “الأولى هي أنه عندما نتحدث عن الثورة الفرنسية وامتداداتها إلى العالم العربي يجب أن نتذكر أن هذا ”العالم العربي ”لم يكن ”بدون أهل”، وأن العقل فيه لم يكن ذلك العقل الذي تصوره فلاسفة التنوير في أوروبا على أنه “صفحة بيضاء’… أما المسألة الثانية فهي متفرعة عن الأول وهي أن لغة الثورة الفرنسية، لغة عصر الأنوار في أوروبا، لم يحدث بعد أن تمت تبيئتها في حقلنا الثقافي. إنه لايكفي أن نترجم ألفاظا بألفاظ… إن التنوير والتثوير يجب أن يتم من ”الداخل”. أما ما يأتي من ”الخارج” فلا معنى له إلا بالنسبة لمن يستطيع أن ينقل نفسه إلى ”داخل” ذلك ”الخارج” . (ص 116). (يتبع)
____________________________________________________
(1) حسن حنفي/محمد عابد الجابري: حوار المشرق والمغرب، نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990.