أساطير مؤسسة للذكاء الاصطناعي
رشيد برهون
أنْسنَة الذكاء الاصطناعي
يخاطب الذكاء الاصطناعي في الإنسان مخاوف متأصلة ترسخت في النفس، تعود إلى قرون خلت، وتراكمت طبقاتها واستسرّت عميقا في الذهن، ومنحتها الأساطير والأعمال الفنية، من مسرحيات وروايات وأفلام، بعدا تخييليا ملتبسا يعكس الحيرة والانبهار والعجز أمام أداة ملغزة. تقود ردود الفعل هذه إلى محاولة ترويض هذا الكائن وإحاطته بخصائص قابلة للاستيعاب، ما قد يفسر ظاهرة إسقاط صفات وخصائص بشرية على هذه الكيانات غير البشرية، وقد يفسر أيضا هذا الميل كطريقة طبيعية يتفاعل بها العقل البشري مع التكنولوجيا المعقدة، عبر استخدام مفاهيم مألوفة من حياته الخاصة لفهم شيء غير ملموس، بل إن إلصاق الذكاء بهذه الأداة التكنولوجية يمثل أحد أوجه هذه الأنسنة، فكأن الإنسان يحلو له أن يستعيد قولة لودفيغ فيورباخ الشهيرة: إن الإنسان خلق الإله على صورته، ليجعلها في علاقة مع هذه الأداة المحيٍّرة: إن الإنسان خلق الذكاء الاصطناعي على صورته!
هكذا، مع تطور الذكاء الاصطناعي وزيادة قدرته على محاكاة التفاعل البشري، أصبح من الشائع نسبة خصائص إنسانية إليه، سواء بشكل إيجابي أو سلبي. ومن الأمثلة على أنسنة الذكاء الاصطناعي، نجد وصف الكانيبالية. يستخدم هذا المصطلح مجازياً للإشارة إلى قدرة الذكاء الاصطناعي على “التهام” و”أكل” أو إعادة توظيف أعمال فنية أو نصوص بشرية لإنتاج أعمال جديدة. يتم تفسير هذا الأمر أحيانًا كنوع من “التطفل” أو “التغذية الذاتية”، وهو وصف بشري للغاية لتفاعل تقني قائم على معالجة البيانات. وهناك أيضا وصف “الهلوسة“ الذي يشير إلى ظاهرة إنتاج الذكاء الاصطناعي لمعلومات خاطئة أو غير دقيقة بثقة مفرطة، فالملاحظ أن أنظمة الذكاء الاصطناعي لا “تعترف بعجزها” بل تقدم إجابات رغم خطئها. يُنسب مصطلح “الهلوسة” إذن لأننا نفترض وجود عملية تفكير شبيهة بالبشر وراء إنتاج هذه الإجابات. وتوصف هذه البرامج أيضا بالإملال، إذ أحيانًا يُقال إن إجابات الذكاء الاصطناعي قد تخلق شعورا بالملل، نظرا لطابعها العقلاني الجاف والمكرور، وهو افتراض إسقاطي بالكامل ناتج عن الحيرة أمام مخاطَب يخلخل معايير الحوار. .ومن النعوت التي تُلصَق بالذكاء الاصطناعي الأدب المفرط، حيث يُظهر الذكاء الاصطناعي استجابات مفرطة الأدب، مثل الاعتذار المتكرر أو المجاملات، لهذا يُنظر إليه على أنه “متعاطف” أو “لطيف”، مما يعزز الإحساس بأنه يمتلك وعياً أخلاقياً؛ والكذب، إذ يُقال أحيانًا إن الذكاء الاصطناعي “يكذب” عندما يقدم إجابات خاطئة أو مضللة عن عمد، ومن الأمثلة على هذا “الكذب”، رد فعل الذكاء الاصطناعي أمام رائز حروف التحقق (Captcha)، حيث يعلن أنه “غير مبصر”، في إنكار تام لطبيعته وعجزه! ومن الإسقاطات البشرية كذلك القول إنه يعتمد تقنية “التعلم والخطأ“، كما لو أن الذكاء الاصطناعي “يتعلم من أخطائه” كما يفعل الإنسان. في الحقيقة، عملية التعلم في الأنظمة الاصطناعية تعتمد على تحسين النماذج الرياضية وليس “التجربة” أو “الشعور” بالخطأ كما يحدث للبشر. وأيضا “الإبداع“، حيث يُنظر إلى إنتاج الذكاء الاصطناعي للأعمال الفنية أو الأدبية على أنه “إبداع”، لكن في الواقع، الإبداع البشري يتضمن نية وخبرة وعمقا عاطفيا، بينما يعتمد الذكاء الاصطناعي على تحليل الأنماط وإعادة تركيبها. و”المفاضلة”، فعندما ينتج الذكاء الاصطناعي محتوى يبدو وكأنه يقيم نوعا من المفاضلة (في تفضيل نغمة معينة أو أسلوب سردي)، كهذا يتم إسقاط فكرة الموازنة البشرية عليه، مع أنه لا يملك وعيًا ذاتيًا لتكوين أي مفاضلات؛ و“تُمنَح له أيضا “شخصية افتراضية“، ذلك أن بعض برامج الذكاء الاصطناعي تُظهر سمات “شخصية” في طريقة التفاعل، مثل استخدام حس فكاهي أو لغة تعاطف، مما يؤدي إلى افتراض المستخدمين أن النظام يمتلك نوعًا من الوعي الذاتي؛ ويُزعَم أنه يصاب “التعب” ويضطر إلى استرداد “أنفاسه” و”التريث المؤقت”، عندما يتوقف الذكاء الاصطناعي للحظات أثناء معالجة البيانات، ويُشار إلى ذلك أحيانًا بأنه “يفكر” أو “يتردد”، مما يعكس الميل إلى ربط العمليات التقنية بالخبرات البشرية.
مخاوف مُتأصِّلة
ما زاد الطين بلة هو ظهور ما يسمى بالذكاء الاصطناعي التوليدي القادر على خلق مضامين وصور ونصوص صوتية وشيفرات وعلى الحوار والنقاش مع مستعمله. هكذا يلفي الإنسان نفسه وهو يتحدث مع آلة، متسائلا في خضم الذهول عن طبيعة محاوره ومن يكون. ورويدا رويدا، لا يتمالك نفسه من إسقاط مجموعة من التصورات والاستيهامات على هذه الأداة، بل وأنسنتها. وتأتي السينما والفنون والأدب لتغذية تلك الصور والاستيهامات، مغذية أساسا شعور الخوف إلى أن يترسخ في الأذهان، خاصة وأن هذا “الكائن” الذي خلقه الإنسان يذكر بمخاوف متأصلة مرتبطة بمخلوقات من صنع البشر، تمردت على صانعها. وطوال التاريخ، توالت الأساطير والأعمال الأدبية والتطورات العلمية التي أججت الخوف من ظهور كائن خلقه الإنسان يثور على خالقه، بل ويهدد البشرية جمعاء. فالخوف كل الخوف أن يفلت الذكاء الاصطناعي في تطوره المتزايد من سيطرة الإنسان، مما يذكر بمحكيات مترسخة في الثقافة الجمعية.
في رواية فرانكشتاين لماري شيلر يصنع فكتور فرانكشتاين كائنا حيا من طريق جمع أجواء من جثث، يحدوه الأمل في خدمة البشرية، غير أن مخلوقه الدي يتعرض للنبذ وسوء المعاملة يقرر الانتقام من خالقه. وهناك أيضا مثال غولم مدينة براغ، الكائن الصلصالي الذي بث فيه الحياة حاخام لحماية جاليته، بيد أنه سيخرج عن السيطرة ويزرع الدمار حوله. إلى جانب أسطورة صندوق بندورا، فبعد فتح الصندوق، الذي يضم كل شرور العالم، يحرر باندورا الألم والموت والمعاناة لتتفشى في الأرض. ومثال القنبلة الذرية أيضا له دلالته هنا في ارتباط بهذا الصندوق الأسطوري وبالذكاء الاصطناعي، فبسبب بحث الإنسان عن سبر أغوار الذكاء البشري وكشف ألغازه وآلياته، قد ينتهي به الأمر إلى تحرير قوى قد تفلت من العقال وتخرج عن السيطرة. ولا ننس أيضا أسطورة بجماليون، والنحات الدي يصنع تمثالا لامرأة مثالية، سرعان ما أغرم بها. تقوم الإلهة أفروديث بنفخ الحياة فيها، ولكن تحولها هذا سيصبح نقمة على النحات. وقد تناول الأدب هذا الموضوع، وكمثال دال مسرحيتا برنارد شو وتوفيق الحكيم بعنوان بجماليون، وأيضا قصيدة تلميذ الساحر التي نظمها الأديب الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته عام 1797. تعتبر هذه القصيدة من الأعمال الأدبية الشهيرة التي تناولت فكرة استخدام المعرفة والسحر دون تحمل المسؤولية الكاملة عن عواقبها. يقرر التلميذ أن يستخدم بعض التعاويذ السحرية التي تعلمها من سيده لإنجاز المهام المنزلية بطريقة أسرع. يقوم بإلقاء تعويذة لتحويل مكنسة عادية إلى خادم سحري لجلب الماء من النهر. ومع مرور الوقت، لا يستطيع التلميذ السيطرة على المكنسة التي تستمر في جلب الماء بشكل مفرط، حتى بدأت في إغراق المنزل، ليدرك التلميذ حينها أنه لا يعرف التعويذة المناسبة لإيقاف المكنسة. وتساهم السينما بدورها في تعميق هذه المخاوف. ولا نعدم مجموعة من الأفلام مثل أوديسة الفضاء سنة 1968، وماتريكس سنة 1999، وعين النسر سنة 2008، وهير سنة 2013 وإيكس ماشينا سنة 2015.