من المحامي عبد الرحيم الجامعي إلى إيمانويل ماكرون
رسَالة علنِية من الأستاذ النقيب عبد الرحيم الجامعي، الرئيس السابق لجمعية هيآت المحامين بالمغرب،
إلى الرئيس الفرنسِي إيَمانويل مَاكرون
قصر الإليــزي – باريس
أناشِدكم أن تحَافظوا على التاريخ المُشرق لفرنسا وأن تقطَعوا الطريق على مُجرميْ الحرب نتنياهو وغلانت، وتلتزموا بتنفيذ الأمر بإلقاء القبض عليهما والتوقف عن دعم الكيان بسلاحكم وأموالكم وتضامنكم.
سيادة الرئيس،
لستم فقط الرئيس المنتخب للفرنسيين لولايتين اقتربت من نهايتها فحسب، ولستم الرئيس العابر على شاشات الإعلام الفرنسية والعالمية والذي يمر من لحظة لأخرى لتبدو للأبرياء صورة جميلة أنيقة فحسب، ولكن الرئيس الفرنسي في اعتقادي، هو رمز لتاريخ دولة من كبار دول العالم، دولة لها فضائل شتى على الإنسانية، حضاريا وعلميا وأدبيا وقانونيا ومؤسساتيا وغيرها من الإسهامات التي أضاءت طريق الأمم والشعوب بشعار الحرية والمساواة والأخوة وغير ذلك مما يصعب حصره، ومن دون أن يزعم أحد أن أيادي فرنسا كانت دوما بيضاء لم يسبق أن أصابت شعوبا بضربات سياستها الاستعمارية وعساكرها القاتلة، وامتصت خيراتهم وثرواتهم ورحلتها من وراء البحار لخزائــنها.
السيد الرئيس،
فرنسا أشعلت ثورتها التاريخية سنة 1789، وأول من حاسبته الثورة وحاكمته هو رمز عظمتها وقائد جيوشها لويس 16، وعلى هديها سارت شعوب ودول بحثا عن انعتاقها وعن حرياتها وتحررها من ظلم حكامها قبل أكثر من قرنين، فرنسا التي ثارت ثورتها التاريخية الثانية عقب خطاب الجنرال شارل ديغول سنة 1948 من لندن، الذي أعلن رفض الاستسلام وإعلان انطلاق عهد فرنسا الحرة.
فرنسا التي حاكمت نظام فيشيVICHY وقائده الجنرال بيتان PETAIN والجلادين من بعده أمثال موريس بابون M. PAPON وتوفيي TOUVIER وكلاوس باربي KLAUS BARBIE وكلهم توبعوا أدينوا من أجل ضلوعهم ومشاركتهم في جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية والتي تعرفون انها جرائم غير قابلة للتقادم IMPRESCRIPTIBLE، هي نفسها فرنسا التي حاكمت سابقا مجرمي الحرب العالمية الثانية في نورنبورغ، ممثلة بالقاضي الفرنسي البروفيسور هانري دونديو دو فأبر. Le Professeur Henri Donnedieu de Vabres أبرز قضاة تلك المحكمة التاريخية والذي فتح مع ثلة من قضاة المحكمة بوابة امام تاريخ العدالة الجنائية الدولية من دون أن يعلم ويعلمون معه أن المحاكمة ستظل بعد نهايتها مفتوحة على المستقبل أمام كل الطغاة والفاشيين والنازيين الجدد وكل من يتوهمون أنهم سيتمتعون من فُرص الإفلات من العقاب إلى الأبد، وهكذا كان الأمر لما عقدت محاكمات متخصصة لاحقا لمرتكبي الجرائم ضد الانسانية امثال ميلوسوفيتش، حسين هبري، عمر البشير وغيرهم… ولما اسست شعبة الجرائم ضد الإنسانية رسميا لدى عدد من النيابات العامة بالمحاكم الفرنسية…
السيد الرئيس،
إن فرنسا هاته بوجهها التاريخي البارز، والذي لا يمكن أن ينسينا خشونة صورته الاستعمارية، لا يمكنها اليوم ولا يمكن لرئيسها بالطبع، أن ُيلوث صفحات حضارتها، وأن ينتهك نَخوتَها وهي نخوة “الديك الغالي COQ GAULOIS” بالتحالف مع نتانياهو وغلانت وهما متهمين رسميا بارتكابهما ما ارتكبه المجرمون قبلهم الذين حاكمتهم فرنسا بنفس الجرائم سواء أمام محاكمها الوطنية أو أمام محاكم دولية سواء عقب الحرب أو ما بعدها بسنوات…
وانتم الرئيس ماكرون الذي عبرتم عن حسرتكم تجاه ما يتعرض له الفلسطينيون بغزة، لم يُسمع لكم رأي صريح بخصوص الأمر بإلقاء القبض الصادر عن قضاة المحكمة الجنائية الدولية، وتركتم الناطق باسم قصر الاليزي أو وزارة الخارجية يوحي بأن فرنسا توجد أمام إشكال دبلوماسي يثيره موضوع الاعتقال بصعوباته بسبب موضوع الحصانة الدبلوماسية وحصانة رؤساء الدول… فيا لَلْحسرة على الإيليزي وعلى موقفه الُمدهش، إنه موفقــكم بالطبع كرئيس للجمهورية…
إن تعاملكم مع المحكمة الجنائية الدولية ومع قرارها التاريخي غير المسبوق بمنطق الانحياز للمجرمين بدون تحفظ، وهو الأمر بالقبض على نتنياهو وغلانت، هو موقف مخجل UNE HONTE و تعامل مرفوض سياسيا وقانونيا ودبلوماسيا وإنسانيا، إنه موقف يثير التعجب و الاستغراب…
السيد الرئيس،
اسمحوا لي ان انبهكم، وإن كنتم في غنى عن كل تنبيه نظرا لذكائــكم ولخِبرتكم وخِبرة خُبَرائِكم ومُخَابَراتِكم، بأن نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية نظام خاص، يطبق كيفما كانت طبيعة الشخص المطلوب أمامها، وبالتالي لا يُسمح لكم أو لمن يتحدث باسمكم، إثارة موضوع سبق ان تنبأ به نظام المحكمة الجنائية الدولية، ووضع له الجواب القانوني وذلك بمقتضى المادة 27 التي تؤكد على عدم الاعتداد بالصفة الرسمية للاشخاص الملاحقين والمطلوبين وتقول:
1/- يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية، وبوجه خاص فإن الصفة الرسمية للشخص, سواء كان رئيساً لدولة أو حكومة أو عضواً في حكومة أو برلمان أو ممثلاً منتخباً أو موظفاً حكومياً, لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسؤولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي, كما أنها لا تشكل في حد ذاتها, سبباً لتخفيف العقوبة.- 2/ و لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص سواء كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي, دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص)).
السيد الرئيس،
لا يترك لكم القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أي َمفر قد تستعملونه ذريعة للتهرب من مسؤولياتكم لتنفيذ أمر الهيئة القضائية للمحكمة بإلقاء القبض على المجرمين نتانياهو وغلانت ، فموقع فرنسا كطرف أساسي ومصادق على قانون روما، يلزمكم كرئيس للدولة و كمتحدث باسمها وباسم سيادتها وألوان رأيتها وصفحات عظمتها، بالتقيد بقانونها الأساسي وبالمادة 27 منه والمشار إليها أعلاه، والتقيد بالقانون الدولي و بالمعاهدات التي وقعتها دولتكم، والتقيد باحترام القضاء الدولي والأمر الصادر بملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة… والتقيد بشجاعة بالدفاع عن عشرات الآلاف من الضحايا.
إن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، شارك في بنائه بلدكم فرنسا ، بلد الشرائع وعلماء القانون وبلد القضاء والقضاة وبلد أم المؤسسات القضائية في العالم، دولة الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان والشعوب، وميثاق الامم المتحدة، والاعلان العالمي لحقوق الإنسان، بلد روني كاسان و مونتسكيو وفولتير وفيكتور هيكو وبادانتير الخالدون في مرقد العظماء بانتيون PANTHEON، وغيرهم… فرنسا إذن لا يمكن لها أن تستسلم لمجرمي الحرب الصهاينة، أو تتسامح معهم أو تستسلم لضُغوطِهم ولمُناوراتهم ولتهدِيدَاتهم، وبالتالي لا يمكن لفرنسا إلا أن تكون مع المحكمة الجنائية الدولية والمدافع الأول عليها وعلى حُرمتها ومع تَطبيق وتنفيذ قراراتها، ولا يمكنها ان تتعاون او أن تستقبِل أو أن تَحمي أو أن تُدافع عن المُجرمين الدوليين مثلهما أو غيرهما، لأنها بذلك سَتنقلب ضِدها، وستصبح فرسا مشاركة قانونيا معهما في ارتكاب جرائمهم …
إنه لا يمكن لرئيس فرنسا ودبلوماسيتها التناور على قرار إلقاء القبض على نتنياهو وغلانت، أوَ ليست محكمة باريس بفرنسا مؤخرا في شهر ماي 2024 هي من حكمت على ثلاثة متهمين سوريين غيابيا بجرائم الجرب والجرائم ضد الإنسانية؟ أوَ ليست فرنسا من يتربع قاضِي من قضاتها بهيئة قضاة المحكمة الجنائية الدولية؟ أوَ ليست فرنسا هي من أول الموقعين على ميثاقها؟ أو ليسن فرنسا من بين المساهمين في ميزانيتها؟ ومن هنا لا يمكن لرئيس دولة فرنسا إلا أن ينتفض ويقول للمُجرميْن indignez vous ولكل الصامتين على الجرائم التي ارتكبتها جيوش كيان الأبارتايد بزعامة نتانياهو وغالانت وضباط وقيادات جيش الدمار الصهيوني، والتي ليست فقط اعمالاً مؤدية بالمدنيين كما وصفتها وزارة الخارجية الفرنسية، بل هي جرائم جنائية حقيقية لها وَصْفها المحَدد بميثاق روما ولا يمكن لأي كان إعادة تكييفها أو ازالة صبغتها الجرمية عنها، فهي جرائم ومن نفس الجرائم التي أدين من أجلها مجرمين أخرين أمام محكمة نورا نبوغ وكانت فرنسا من بين من اصدروا الحكم فيها…
السيد الرئيس،
يَنتظِرُ مِنكم أحرار العالم، ومُنظماته الحقوقية والديمقراطية والانسانية، عدم التردد باسم فرنسا في تَحمل مسؤولياتكم وإِعْلان الانضباط الكامل لقرار المحكمة الذي أمر بإلقاء القبض على نتنياهو وغلانت، ولابد لكم احتراما لبلدكم أولا و لأرواح شهداء فلسطين وغزة ثانيا ، الذين أبادهم نتانياهو وغلانت بجرائم الإبادة والتجويع والقتل العمد…، أن تُعلنوا أمام العالم الالتزام الصارم بالقانون الدولي باستعمال كل الوسائل المشروعة للقبض عليهما في أية لحظة قدموا فيها لفرنسا، وأن تأمروا قواتكم الأمنية بالتعاون مع كل دول العالم لملاحقتهما احتراما لإرادة المحكمة الجنائية الدولية، وأن تتذكروا وتستحضروا ما قاله الجنرال ديغول من لندن يوم أعلن عن ميلاد فرنسا الحرة:
((أيها السادة، لا يمكن للمرء أن يكون رجل الأعاصير الكبرى ورجل الحرتقات الصغيرة في آن معا، أنا شارل ديغول ولست سياسيا عاديا، وبالتالي فسوف أترك الحكم بدءا من هذه اللحظة، لأنني لا أستطيع أن أنفذ سياستي لمصلحة الوطن في مثل هذه الظروف الدنيئة محتجا على من أرادوا الاستسلام للنازيين)).
كما أنه عليكم أن تنتبهوا السيد رئيس الجمهورية، لنداء رئيسة المحكمة الجنائية الدولية في بداية اجتماع الدورة 23 لجمعية الدول الأعضاء اليوم 2 من دجنبر بلاهاي ـ السيدة توموكو أكاني- التي أكدت في كلمتها الافتتاحية، ((أن الهجمات التي تتعرض لها المحكمة منذ إصدارها مذكرات اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يؤآف غالانت، تشكل “خطرا وجوديا عليها)).
إنه لا يمكنكم السيد الرئيس، الاستسلام لضغوط مُجرميْ الحرب الجُدد، لانكم بذلك ستُضْعِفُون المحكمة جُهودها ووُجُودها، ففرنسا واجهت أمثَالهم قبل اليوم وعبر التاريخ، فلا تخذلوا فرنسا، ولا تخذلوا من يستشهد بتاريخها الحقوقي والإنساني والقانوني، وبالتالي ليس لكم أن تُحَصنوا نتانياهو وغلانت بعد أن أسقط عنهما نظام المحكمة الجنائية كل حصانة و أمر بالقبض عليهما.
عليكم أن تعلموا أيها السيد الرئيس، إن واجبكم اليوم هو واجب الضمير الإنساني الذي يجب أن يجري في عروقكم، أي ضرورة دعمكم اللامشروط لحصانة أوامر وقرارات قضاة المحكمة الجنائية الدولية أولا واخيرا…فإن عَجزتم أو ضَعُفَت إرادتكم وفضلتكم تَركِيع فرنسا تحت اقدام نتنياهو وغلانت بحمايتهما وبتبييض جِرائمهما ومساعدتهما على الإفلات من العقاب،… فما عليكم سوى قطع علاقاتكم بالمحكمة والانسحاب منها دون ضجيج… فهل هذا المَوقف العَار يَرضيكم ويَرضي بلدكم؟
النقيب عبد الرحيم الجامعي
الرباط: 8 دجنبر 2024
cabinetjamai@gmail.com