السودان الجريح: جون غارنغ.. روبن هود الجنوب (4)
جورج الراسي
جون غارنغ هو بطل استقلال جنوب السودان. لم يكن يريد الانفصال. كان يريد السودان موحدا. كان يحلم ببناء “سودان جديد، اتحادي، ديموقراطي، علماني “…، لكن أوباش الشمال حاربوه وحرموه من حلمه… فتبنته إسرائيل..!
الزعيم الذي خرج من لا شيء…
لم يكن أحد يعيره أي اهتمام عندما كان تلميذا منطويا على نفسه في مدرسة Rumbeck في جنوب السودان، مكبا على الدراسة دون الاحتكاك بأحد. ويقول من عايشوه في تلك الفترة إنه لم يكن يبدي أي اهتمام لا بالسياسة ولا بمصير أبناء بشرته من السود، أكانوا مسيحيين أم إحيائيين، ممن حملوا السلاح منذ العام 1955، أي قبل عام من استقلال البلاد، ضد حكومة الشمال “العربية – الإسلامية”.
لكن بدل الانضمام إلى صفوف منظمة الأنيا- ني Anya -Nya التي كانت تخوض حرب عصابات، والتي التحق بها كثيرون من أبناء جيله، فإنه فضل السفر إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراسته في مدرسة Grenelle في ولاية Iowa .
عند عودته إلى البلاد عام 1970 التحق أخيرا بصفوف منظمة الـ Anya-Nya التي كان يقودها الجنرال Lagu الذي أصبح فيما بعد، عام 1972، نائبا للرئيس جعفر نميري، بفضل مصالحة ظرفية عقدت آنذاك.
كانت حركة جنوب السودان تحظى منذ ذلك الوقت بدعم إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تكن تنظر بعين الرضى إلى وجود شيوعيين في حكومة نميري (ذبحهم فيما بعد حين حاولوا الانقلاب عليه).
وسافر غارنغ منذ ذلك الوقت إلى إسرائيل بشكل سري لكي يتدرب على حمل السلاح …
ضابط سوداني…!
بعد توقيع اتفاقيات أديس أبابا التي أعطت نوعا من الحكم الذاتي للجنوب عام 1974، انخرط غارنغ في صفوف الجيش السوداني، وما لبث أن ترقى إلى رتبة عقيد. لكنه لم يكن راضيا على الإطلاق على الطريقة التي كان يطبق فيها نميري الحكم الذاتي في الجنوب.
لكن الجنرال Lagu الذي ظل متحالفا مع نميري حتى سقوط هذا الأخير، ضاق ذرعا باِنتقاداته فمنحه الإذن مرتين بالسفر إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراسته .. هكذا يكون غارنغ قد أمضى نحو عشرة أعوام في أميركا، واكتسب تكوينا عسكريا متينا في المدرسة الحربية في Fort Bénin في مقاطعة جورجيا، قبل أن يحصل على شهادة دكتوراه بامتياز في العلوم الاقتصادية من جامعة Iowa .
عاد إلى الخرطوم عام 1981 وعين في قسم البحوث التابع للجيش، وسمح له بإعطاء دروس في مادة اختصاصه في جامعة الخرطوم: الإقتصاد الزراعي… وقد اكتسب صيت الضابط اللامع والمثفف الرفيع المستوى، متفاديا الاحتكاك مع رفاقه، حتى ظنه البعض منزها تماما عما كل ما له علاقة بالسياسة …
احذروا المياه الراكدة…
حتى كان يوم 16 أيار/ مايو من عام 1983، حين اختفى تماما عن أجهزة الرادار الحكومية بينما كان يقضي عطلة بريئة مع عائلته في مسقط رأسه، مدينة بور – Bor- فقد تبخر مع زوجته وأولاده على متن سيارة لاند- روفر، في أعماق الأدغال الجنوبية…
وبعد مضي عشرة أسابيع، وعلى التحديد في 31 تموز/ يوليو من عام 1983 أذاع البيان – البرنامج الصادر عن “الحركة الشعبية لتحرير السودان” التي أسسها خلال تلك الغيبة. لم تمض أربعة أشهر إلا وبدأ بتنفيذ العمليات العسكرية ضد القوات الحكومية.
لم ينجح نميري بوصمه بصفة “إرهابي ماركسي عميل ” على اعتبار دوائر الخارجية الأميركية أدرى بشعابها، وكانت تعتبره في أسوأ الاحتمالات “وطنيا – يساريا ” وتحث نميري على مصالحته…
وجدير بالإشارة إلى أن الدولة الخارجية الأكثر دعما له – ما عدا إسرائيل بالطبع – كانت ليبيا، التي أمدته بمساعدات ضخمة، لسبب ما في نفس يعقوب… وبقدر ما كان يرتاح بالتواجد في تل أبيب، إلا أنه كان يرفض تماما السفر إلى طرابلس للقاء العقيد القذافي… وحتى علاقاته مع إثيوبيا كانت وطيدة، لكن ضمن حدود المصالح المشتركة…
ضد الانفصال
بعكس كل الذين حملوا السلاح قبله ضد حكومة الخرطوم بين عامي 1955 و 1972، لم يكن غارتغ من دعاة الانفصال، بل كان يدين كل أشكال المناطقية والطائفية والدعوات الانفصالية.
فالصراع من وجهة نظره لم يكن بين السود والعرب، ولا بين المسلمين والمسيحيين، ولكن بين الجماهير المسحوقة في كل أرجاء السودان وبين الحكومات المستبدة في الخرطوم التي ركزت جهودها على إنماء وسط البلاد على حساب الأطراف المحرومة. رفع حينها شعارا ثلاثي الأبعاد: الديموقراطية – الاشتراكية – والعلمانية – وهي شعارات ما زلنا نحلم بها في كثير من بلداننا.. ويمكن اعتبار جوهرها مبدأ “فصل الدين عن الدولة”…
والواقع أن “الاشتراكية” التي كان ينادي بها لم تكن تعني لا تأميمات عشوائية، ولا تعاونيات، ولا ملكية جماعية للأراضي، بل مجرد تكاتف المحرومين لانتزاع حقوقهم من النخب الحاكمة سواء كانت شمالية أو جنوبية ومحاربة القوى الرجعية، والإمبريالية… وباقي القاموس الذي كان على الموضة في تلك الأيام… فقدكان يعتبر أن الحلفاء الحقيقيين لحركته هم العمال والفلاحين والطلاب والمثقفين “الثوريين” و”التقدميين” في أوساط الشرطة والبوليس”… (لا أعرف أين كان سيجد هؤلاء)…!
يبقى أنه كان جنوبيا مسيحيا في بلد ثلثي سكانه من المسلمين السنة…
عودة مظفرة…
بعد غياب دام 22 عاما، عاد غارانغ إلى الخرطوم في 8 تموز/ يوليو من عام 2005 ليجد في استقباله أكثر من مليوني شخص رقصوا في العاصمة وهتفوا باسمه، في بداية مسيرة دستورية حددت لها مدة ست سنوات تنتهي إما بالوحدة وإما بالانفصال، وفق اتفاق سلام وقع في 9 كانون الثاني/ يناير 2005 في نيروبي. جاء ليقسم اليمين الدستورية كنائب لرئيس الجمهورية عمر حسن البشير الذي كان على رأس مستقبليه، ورحب به بقوله: أرحب بك وبشعبك، أهلا بك في الخرطوم، أهلا بك بين شعب السودان”. ورفع البشير يد غارانغ عاليا ودعاه تكرارا “أخي”، مضيفا: “ستجد قلوب جميع السودانين مفنوحة لك. هذه الحرب انتهت أخيرا وإلى الأبد”… (رجعنا لحكاية “إلى الأبد”.. لكن يبدو أنها “ظابطة” هذه المرة)…
ونص الدستور الجديد على أن تجري انتخابات عامة خلال السنة الرابعة من الفترة الانتقالية. وكرست عودة غارانغ بداية مرحلة جديدة في عملية السلام بعد حرب دامية أودت بحياة مليون ونصف مليون شخص، وأدت إلى نزوح نحو أربعة ملايين آخرين…
يا فرحة ما اكتملت…
بعد بضعة أشهر فقط على نهاية الحرب، قضى جون غارانغ نحبه في 31 تموز/ يوليو 2005 في حادث سقوط مروحيته لدى عودته من أوغندا..
وعلق الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني على الحادث بقوله: “قد لا يكون ناجما عن حادث”… ورأى آخرون أن المروحية كانت مفخخة للخلاص من الرئيس نفسه ..
وأعقب الحادث أعمال عنف راح ضحيتها العشرات، وتم تشييع غارانغ إلى مثواه الأخير بعد أسبوع على الحادث في جوبا عاصمة الجنوب ..
نفتح قوسين لنقول إن نظام موسيفيني كان يمد الحركة الشعبية بالسلاح والعتاد، ويتولى إيواء معسكرات التدريب التابعة لها. وكانت تربطه علاقة زمالة قديمة مع غارانغ، إذ كانا رفيقي دراسة جامعية في دار السلام في تنزانيا، ولو أن غارانغ كان يعتبر شيوعيا، في حين كان يووري يتلقى دعم المخابرات الأميريكية لمحاربة النظام الماركسي في أوغندا المدعوم من موسكو ومن القوات الكوبية التي أرسلها كاسترو. وقد اجتمع الاثنان حينها على إحياء النزعة الإفريقية لمواجهة المد الاسلامي السوداني. وأبرما منذ ذلك الوقت اتفاقا عسكريا سريا مع إسرائيل وبمشاركة أمريكية. وقد انضم لهذا الحلف كل من الرئيس الارتري أسياس افورقي، والاثيوبي ميليس زيناوي، وهو ما زال قائما حتى هذا اليوم باشكال مختلفة…
سلفا كير.. وقبعة رعاة البقر …
وريث جون غارانغ سلفا كير، كان أحد مؤسسي “الحركة الشعبية” معه عام 1983. و كان أكثر تشددا في موضوع الانفصال، وأكثر تعصبا دينيا، وقربا من إسرائيل التي خصص لها اولى سفراته الخارجية.
اشتهر بلحيته السوداء (ليست حكرا على بعض الإخوان) وقبعته التي تشبه قبعة رعاة البقر الأميركيين. كان حريصا على إلقاء عظة الأحد في كاتدرائية جوبا ..! وقد تعاون فيما بعد مع عمر حسن البشير لإقامة علاقات ودية بين الطرفين، ويبدو أن الأمور نجحت…
إنما الأمر الذي يجب التأكيد عليه هو درجة الحضور الإسرائيلي القديم جدا والعميق جدا في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي…