أبراهام السرفاتي: هل الدولة الإسرائيلية وطن؟
ترجمة: سعيد بوخليط
لاحظنا خلال هذا النصف الثاني من القرن العشرين انبعاث انفجار حقيقي لـ”الإشكاليات”القومية والتباين الدائم على مستوى تعدُّدها وكذا طبيعتها، على الأقل مظهريا، مما يجعلنا ننقاد خلف اعتقاد مفاده عجز الماركسية عن استيعاب تلك القضايا.
تجلَّى التصور سلفا عند إيديولوجيي البورجوازية وكذا مفكِّرين، استلهموا الماركسية،لكنهم غير مرتبطين بالممارسة الثورية. يقود قصور للنظرية من هذا القبيل حتى ضمن صفوف عدَّة أحزاب تدعي الاشتراكية العلمية، نحو التجريبية، والمقاربات التبسيطية السريعة، وكذا إهمال ”تكامل الواقعة”.
مع ذلك، سيكون جحودا في حقِّ الماركسية حين افتراض عجزها عن تضمين الظواهر الحالية المركَّبة ضمن إطار تفسير نظري، وعدم السعي صوب استخلاص خطط عمل من أجل الممارسة.
وطن عربي ثم شعب يهودي، إشكالية الأمريكي الأسود وكذا الزنوجة، إيرلندا الشمالية واستقلال بروتاني، انطلاقا من تنوُّع وكذا تناقضات هذه القضايا يمكن بل يجب تطوير نظرية ماركسية حول الوطن قصد الإجابة عن الحركة التاريخية للإنسانية.
سأطرح بهذا الصدد بعض الإشارات فقط:
المنهجية:
في الوقت الذي يختزل فيه البعض الماركسية إلى مجرَّد نزعة علموية (لوي ألتوسير)، وكذا موجة إنسانية (مكسيم رودنسون)، تبدو ضرورة التأكيد على مرجعية بعض النصوص المنهجية لكارل ماركس (مقدمة عامة لانتقاد الاقتصاد السياسي) ثم تطوراتها ضمن الدراسات الفلسفية للقادة الثوريين الذين واصلوا ذلك، وكذا التعمق فيها من طرف الفلاسفة الماركسيين المعاصرين الآتية أسماؤهم:
سانشيز فاسكيز (1)، إرنست بلوخ (2)، لوسيان غولدمان(3)، أنور عبد المالك(4)، ثم أساسا كارل كاوتسكي(5).
انتقاد تعريف جوزيف ستالين:
يتعارض فورا،الحديث عن جماعة ”راسخة”مع جوهر الماركسية نفسه، وقد أوضح مؤسِّسها التصوُّر التالي: ”يعكس الجدل وفق مظهره العقلاني، فضيحة وكذا رِجْسا بالنسبة للطبقات الحاكمة وكذا إيديولوجييها العقائديين، لأنَّه ينطوي في الوقت ذاته بحسب المفهوم الإيجابي للأشياء القائمة، على ذكاء نفيها المميت، وكذا تدميرهما الضروري، مادام تناول الحركة نفسها بين طيات كل شكل تام مجرد إعداد انتقالي، فلاشيء بوسعه إلزامه، لأنَّ الجدل أساسا نقدي وثوري”.
في المقابل، تهيكل هذه ”الأشكال”، كما سنرى من خلال مفهوم ”المجموعة الواقعية”، مختلف المكوِّنات التي أبرزها تحديدا جوزيف ستالين.
انتقاد النظريات المثالية:
لقد أنجز ذلك لينين، بالتالي لن أعود إلى نفس الأمر. بيد أنَّ التطبيق المتماسك لهذا التصور يمثِّل رفضا لمفاهيم ”الشعب اليهودي” و”الزنوجة” حين بَتْرها عن سياق الزمان وكذا الأمكنة، ثم تعبيد الطريق أمام الصهيونية، أو ”الصهيونية السوداء” مثلما أوضح ذلك جيدا رينيه دبستر،بخصوص الديكتاتور جون كلود دوفاليي(6).
الوطن مجموعة واقعية:
حسب الدلالة التي حدَّدها كارل كوسيك، يُفهم الواقع كـ”مجموع جدلي ومُهَيْكَلٍ”. أحيل على كتاب كارل كوسيك بغية الإحاطة بهذا المفهوم. وجبت الإشارة إلى ملاحظة نقدية حول المفاهيم المغلوطة لـ”الكلِّيانية” التي تنطبق حقا على مفهوم الوطن ومكوِّناته: ”هكذا، مثلما الشأن مع مفاهيم أخرى مهمة جدا بالنسبة للفلسفة الماركسية، يفقد الوعي الزائف، التشيَّؤ، علاقة الذات والموضوع، خاصياتها الجدلية حين النظر إليها بكيفية منفصلة، على هامش النظرية الماركسية للتاريخ، وكذا مفاهيم أخرى تشكِّل معها وحدة و”نسقا منفتحا” تكتسب في إطاره دلالة أصيلة، أيضا تفقد مقولة الكُلِّيانية سمتها الجدلية إذا تُصُوِّرت فقط ”أفقيا”، مثل علاقة الأجزاء بالكلِّ، وحدث فصلها عن السِّمات العضوية الأخرى: بُعدها الوراثي-الديناميكي (إبداع الكلِّ ثم وحدة التناقضات)، وكذا بُعدها ”العمودي”، بمثابة جدلية بين الظاهر والماهية”.
للإشارة، يصعب تمثُّل”جدلية الظاهر والماهية” سوى من خلال مفهوم الممارسة، وكذا الممارسة نفسها.
المفهوم العنصري لـ”الوطن الإسرائيلي” بالعمل على عزل الشعب اليهودي نفسه، داخل المجال الإقليمي الذي تسيطر عليه الدولة الإسرائيلية، وكذا إعادة وصله بـ”شعب يهودي” عالمي، يفضي نحو زيف تبقي عليه المغامرة الفاشية العدوانية.
تتيح المرتكزات الأساسية لنظرية المجموعات، المنضوية ضمن مفهوم الجدل، إمكانية استيعاب بشكل أفضل حركة و صيروة وطن معين كـ”مجموعة واقعية”، مندمجة، ويمثُّل جزءا من ”مجموعات واقعية” أكثر رحابة.
يتوقف إدراك حركة كلِّ ”مجموعة واقعية” قومية، كمجموعة خاصة، وجزء من مجموعة أكثر رحابة، على تناقضاتها الداخلية (صراع الطبقات) وفي نفس الوقت الاندماج ضمن الحركة العامة للمجموعة الشاملة (يكمن ذلك حاليا في الصراع ضد الامبريالية إقليميا وعالميا).
خلال كل لحظة، تضمر كل”مجموعة واقعية” أو ”بنية”، كـ”مجموع جدلي ومُهَيْكَلٍ”، مخاض ولادة أو تكون جزءا ضمن هذا المخاض لـ”مجموعة واقعية” جديدة أو ”بنية” أخرى، تعتبر في الوقت نفسه مكمن الصيرورة والتجاوز.
تداعيات:
عكس ذلك، الاعتقاد بإمكانية انطواء مفهوم الوطن خلال هذه المرحلة التاريخية الراهنة مع تحلُّل الامبريالية وبزوغ الاشتراكية، على نفس دلالته إبَّان مرحلة صعود الرأسمالية في أوروبا، يعدُّ اعتقادا مثاليا لاأقل و لاأكثر. أيضا، كما أوضح فعلا أنور عبد المالك (7)، يختلف المفهوم المعاصر لـ”الوطن”داخل العالم العربي عن ”الأمَّة” المتوافِقِ مع المجتمع المشترك قبل الرأسمالي.
يندرج حاليا، النضال من أجل بناء ”وطن”عربي، ومواجهة التفكيك الذي تفرضه الامبريالية ويغذِّيه عملاء الاستعمار الجديد، ضمن الصراع العالمي ضد الامبريالية ودفاعا عن الاشتراكية. ينبغي على الثوريين، والأحزاب الداعية إلى الاشتراكية العلمية، ثم الحركة العمالية الدولية، النضال حتى يصبحوا ”خالقي” مستقبل الأوطان، وفي الآن ذاته ”حَفَّاري قبور” الأشكال التي عفا عنها الزمان.
حسب نفس دلالة”بيان الحزب الشيوعي”، تعتبر البروليتاريا والثوريين داخل البلدان الرأسمالية بمثابة ”حَفَّاري قبور” النماذج البورجوازية وكذا ”خالقي” نماذجه ”البروليتارية”.
يفضي مبدئيا تحلُّل الرأسمالية وجهة الامبريالية، تحلُّل هذه الأشكال البورجوازية للوطن. يكفي آنيا رؤية كيفية ممارسة الرأسمال الأوروبي الكبير الدعارة أمام الاحتكارات الأمريكية.
سعى التأثير الاستعماري الجديد، إلى تفكيك ”المجموعة الواقعية” داخل البلدان الصاعدة، نتيجة مقاومتها، مثلما تتوخَّى القيام بذلك حاليا الدولة الإسرائيلية في الشرق الأوسط. بالتالي، لا غرابة في أن تشهد حقبة تحلُّل الرأسمالية والامبريالية، انبعاث النماذج التي حَطَّمتها و خنقتها الرأسمالية.وضع ينطبق كذلك على داخل البلدان الرأسمالية. غير أنَّها نماذج ثورية وحاذقة بالصيرورة، فقط إذا شَكَّلَت بدورها مجموعة واقعية تعيش مخاض ولادة كي تنتقل في غضون ذلك نحو إعادة بناء مجموعات واقعية أكثر شمولية.
هكذا يكون ربما الشأن بخصوص حالات بروتاني، إيرلندا، الباسك وكذا مناطق أخرى في أوروبا الغربية، ضمن سياق إعادة بناء ثوري للنماذج القومية لهذه المناطق.يتعلق الأمر،مع حالة السود الأمريكيين، والكنديين-الفرنسيين، وفق السيرورة التاريخية لانهيار القاعدة الأساسية للإمبريالية والرأسمالية، وكذا إعادة بناء ثوري لقارة أمريكا الشمالية.لكن مثل هذا التأويل، لن ينطبق على حالتي ”الزنوجة” أو ”اليهودية” مثاليتين وخارج الزمن.
في المقابل، يصح قول ذلك عن حركة التحرر الوطني والنضال ضد النماذج الرأسمالية، المعتمِدة على الامبريالية عبر مختلف الأوطان التي تشكِّل العالم العربي، وكذا إعادة هيكلة ثورية لها داخل ”الوطن العربي”.
حسب هذه الدلالة، يعتبر ”الوطن العربي” ”حقيقة ملموسة”، أكثر جدية، بمعنى ثان، لأنَّه يتوافق مع صيرورة، تضع نموذجا ”قوميا” معينا، ضمن سبيل التفكُّك نتيجة الانهيار الرأسمالي. لا يعني بأنَّ هذا ”الوطن العربي” سيغدو نسخة أخرى من الوضعية الموجودة مثلا مع إمارات الخليج العربية، أو لا يشمل مجموعات واقعية تابعة تتناسب مع خصوصيات فلسطين مُوَحَّدة أو العراق وقد حسم القضية الكردية.
لكن، مرة أخرى، ولن أركز كثيرا على ذلك، تندمج تلك المجموعات الواقعية التابعة، بين ثنايا مجموعة واقعية أكثر شمولية على مستوى البناء الذي تساهم فيه.بالتالي، لن تكون عنصرا تفكيكيا أو داعمة للتفكيك الاستعماري كما الشأن مع دولة إسرائيل، أو تلك الوضعية المتوخاة من طرف بعض إيديولوجيي الاحتياط الامبريالي، رغم استحالة تطبيقها، عن فلسطين خاضعة لبنيات الدولة الصهيونية، نتيجة وزنها الاقتصادي والثقافي، ومن ثمة البقاء في قبضة الامبريالية.
فماذا عن ”الوطن الإسرائيلي”؟ إنَّه يجسِّد انبعاث ”نموذج قومي” يتناسب، ليس مع أشكال قومية للحقبة الرأسمالية، ولا مجتمعات فيودالية أو طائفية، بل حقبة القبائل البدوية فترة ماقبل العصر الحجري الحديث، حتى على مستوى الديانة اليهودية، فقد عرف هذا المفهوم تجاوزا منذ الأنبياء. أنْ تنبش الامبريالية بين طيات ”نموذج قومي” منقرض، من أجل تحقيق مآرب سعيها، يؤكِّد هراء صنيعها وبأنَّ التاريخ سيدينها.
بوسع السود الأمريكيين، أو الايرلنديين، تشكيل ”مجموعة واقعية”، ماداموا يهيكلون بحركتهم ”حقيقة ملموسة”على مستويات متعددة للبنية التحتية والفوقية، ثم في الوقت نفسه، يرتبطون نتيجة حركتهم الثورية، بمجموعة واقعية أخرى تضمر ولادة، بمعنى ضمن السيرورة الثورية بهدف إعادة بناء أوروبا الغربية أو قارة أمريكا الشمالية.
لا يوجد سبيل ثان أمام يهود فلسطين سوى الانتماء إلى المجموعة الواقعية المجاورة ودعم النضال الثوري، كي تولد فلسطين موحَّدة وديمقراطية، التي ستنخرط بدورها في المسار الثوري بهدف إعادة تشييد العالم العربي.
غير أنَّ كتلة الأفراد المنتمين إلى طائفة يهود أوروبا الوسطى، الذين قَدِموا من أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، هم جماعة أفراد انفصلوا خلال السنوات الأخيرة عن المجموعات اليهودية العربية المنحدرة من العالم العربي، ولايمكنهم تشكيل ”جماعة واقعية” بناء فقط على العنصر الروحي. لن يُشَكِّل تضليلا ظرفيا لمائتي مليون شخص، مبرِّرا في حد ذاته. عموما، لن يتحقق نفس الأمر مع ثوريين مسلَّحين بالاشتراكية العلمية. نستعيد في هذا الإطار جملة كارل ماركس: ”لن يرغمهم أحد على فعل شيء معين”.
مرجع المقالة:
Souffle :numéro15.1969.PP :90-93
___________________________________________________________
1 – سانشيز فاسكيز: فلسفة الممارسة، المكسيك 1967 .
2 – إرنست بلوخ: سيرورة وبنية، باريس 1965 .
3 – لوسيان غولدمان: إبستمولوجيا علم الاجتماع، لابلياد، باريس 1966
4 – أنور عبد المالك: الماركسية وسوسيولوجيا الحضارات، 1968 .
5 – كارل كاوتسكي: جدلية الواقعي، المكسيك 1967 .
6-رينيه ديبستر: مغامرات الزنوجة. مجلة أنفاس رقم 9 ، الرباط 1968 .
7– أنور عبد المالك: الإيديولوجيا والنهضة القومية، باريس 1969.