الصيغ المجازية والأبعاد الدلالية في قصص “ظل النعناع”
عبد النبي بزاز
لعل اللافت في قصص “ظل النعناع” للأديبة اللبنانية إخلاص فرنسيس هو التعابير المجازية ذات الحمولة الشعرية بصورها، إيقاعاتها، وتشكيلاتها الجمالية، وهو ما يطالعنا ابتداء من الإهداء الذي سبق أولى نصوص المجموعة “النورس”، حيث يضم صورا تتضمن التشبيه (ثمة وجوه مثل المعابد)، والاستعارة، والموسيقى سواء على مستوى الصياغة أو العبارة باستعمال الاستعارات كعنصر بلاغي يضفي على نص التقديم عمقا جماليا، وبعدا دلاليا (أخوض معركة الاستعارات)، فتطويع الاستعارة، كخيار فني وإبداعي، يستدعي جهدا ذهنيا وحسيا وكذلك الإيقاع الموسيقي (أشعل وريدي بموسيقا الترقب)، مع المتح من معجم يزخر بمفردات وعبارات كالمعابد، والإله، ورغوة الكلام، ومطر، والمرايا وتوظيفها في خلق صور غنية بأبعادها الدلالية والجمالية. وهو إهداء/ تقديم يرهص ويوحي بالدفق الشعري الذي سرى في أوصال المجموعة وثناياها مخترقا تفاصيلها، ومتغلغلا في صيغها وتشكلاتها. ففي أول نص “النورس” ومن أول جملة يبرز التعبير المجازي: “كان النهار يلفظ أنفاسه الأخيرة، والشمس تجر ذيولها… ” ص 5، في استعارة الأنفاس للنهار، وجر الذيول للشمس داخل سياق تدثرت فيه عبارات شائعة ومألوفة (يلفظ أنفاسه، تجر ذيولها) بمسحة بلاغية (استعارة) للتعبير عن قدوم المساء، وحلول زمنه. إلى آخر نص “أرنب أسمر”، حيث نقرأ: “كان شغفي أن أصغي لعزف الريح وحفيف أوراق البلح الممشوقة التي تعانق السماء حيث تتلاقى والسحب الهائمة في الفضاء.” ص151، حيث الشغف بالإصخاء لموسيقى الطبيعة المشكلة من حفيف أوراق الأشجار، وما ترسمه شجرات البلح الباسقة في التقائها بالسحب من صورة تتماهى وموسيقى الطبيعة فتسعد النفوس، وتبهج القلوب. فتتوالى العبارات الزاخرة باستعارات ذات جمالية بلاغية، وعمق دلالي كما في قولها: “شاخ الفجر، وهرم المساء… ” ص 8، باستعارة الشيخوخة للفجر، والهرم للمساء، وما يخلعه ذلك على النص من تعبير خاص، واستعارة الشفة للحلم: “وطبعت قبلة على شفة الحلم … ” ص 11، ورسم قبلة على شفة هذا الحلم الذي غدا مرافقا للساردة؛ يمشيان معا، بل ينخرطان في جو من ألفة حميمية: “وسارت معه بين قصب السكر يدا في يد، والخد على الخد، واختفيا عن الأنظار في أزقة الكرنك، يلفهما الليل وأساطير العشاق. ” ص 11، فتتوالى التعابير المجازية بشتى الطرائق والأساليب: “وبدأت تورق شفاهي بكلمات عشق حضورك. ” ص 16، فصورة الشفاه وهي تورق صادعة بعشق منثال عبر كلمات تمجيد واحتفاء . وتزداد دائرة الوصف المجازي اتساعا وامتدادا في تعابير مثل: “لأغزل الموج على خصلات شعرك، وأعزف موسيقا الوجود على سلسلة الظهر، وأقتبس من شفتيك أوزان الشعر، أرسم جغرافية الكون على محراب عنقك، وألقن التاريخ درسا كيف تقهر الممالك أمام ابتسامتك. تعالي لأدرس علم الفلك في عينيك، وأعزف في مجرة روحك…” ص 66، حيث تصبح المرأة ملهمة، ومحركة لما تعج به الدواخل من توق يتم تصريفه عبر صور تنم عن مقدرات خلق رفيع، وابتكار مبهر (تغزل الموج على خصلات الشعر)، و(تعزف موسيقا الوجود على سلسلة الظهر)، و( تقتبس من شفتيها أوزان الشعر) في لوحة يلتئم فيها الشعر بالموسيقى لتشكيل لوحة غنية بأبعادها الجمالية والدلالية ترقى إلى أعلى مدارج الخلق والابتكار (أرسم جغرافية الكون على محراب عنقك)، و(ألقن التاريخ درسا كيف تقهر الممالك أمام ابتسامتك.)، و(لأدرس علم الفلك في عينيك، وأعزف في مجرة روحك…)، إلهام يخترق حدود التاريخ والجغرافيا، وعلم الفلك من خلال التغني بمحاسن ملهمته وفاتنته. ويصعب مواكبة ما تعج به ثنايا المجموعة من تعابير تجللها نفحات الشعرنظرا لفيض العبارات المجازية الزاخر وسريانه في جل نصوصها، وما تميز به من استخدام لعناصر بلاغية من استعارة مثل: “سوف أمد يدي أقطف الوقت من بساتين الغياب والبيوت المهجورة…” ص ، وتشبيه كقولها: “شامخة روحي كهذه الأعمدة التي تشهد حكايات الأولين.” ص 10. بل لم تتوان القاصة في التصريح، بأسلوب كاشف وأخاذ، بمجازية اللغة، في قولها: “تألمت من السؤال الذي أرغمني عليه شوقي إليك، والحلم الذي يدغدغ شفتي، وخيالك المنتصب بين حروفي، والريح ومجاز اللغة المتدفقة من محيط ابتسامتك…” ص 71، تصوير تلتئم فيه عناصر الحلم، والخيال، والريح لرسم صورة تعكس إحساسا عميقا بعشق لا محدود، وتوق لامتناه. ورغم أنه لا يمكن عدم الإقرار بهيمنة الجانب المجازي، في تجلياته الرمزية والتعبيرية، على نصوص المجموعة، مما ُيصَعِّب أمرالإحاطة به، والإلمام بجميع عناصره والتي لا يكاد يخلو منها أي نص، إلا أن هذا لا يعني خلوها من مكونات وتيمات أخرى ذات قيمة إبداعية وسردية متميزة ويمكن التمثيل لها في عنصر التماهي في قصة “الكرنك” حيث نقرأ: “وجدتني حين وجدتك، عرفتني حين عرفتك …” ص 10، بِنفَس صوفي مستوحى من نظرية الاتحاد والحلول لدى أعلام التصوف وأساطينه، وما يفتأ يغدو أكثر عمقا وسعة في “عيد الحب”: “شبيه شبيهي… ماذا تريدين يا أنا؟” ص 16، في تمازج وانصهار بالذات الواحدة المتوحدة، وحلول الروح وانتقالها عبر كائنات مختلفة: “لتكون أنثى بروح فراشة.” ص 25، في إشارة لانتقال الأرواح وتناسخها من (أنثى البشر إلى فراشة) حسب رؤية قد تتعدد انزياحاتها في القراءة، والاستنباط. وفي نفس السياق من خلال: “كيف جمعوا ما بين روحين من عالمين مختلفين…” ص 59، تجسيدا لنظرية الاتحاد التي تكررت في أكثر من نص من الأضمومة كما في: “وأسكن داخلك، ونتحد في رقصة لا تنتهي…” ص 60، وفي: ” هو ذلك الإنسان الذي اتحدت روحه بتلك الأرواح…” ص74. وكما تعددت أساليب المجاز في قصص المتن السردي، وإن بشكل أبرز، تعددت كذلك مظاهر التماهي من خلال نظرية الاتحاد والحلول التي توزعت في العديد من سياقات نصوص المجموعة. ويبرز كذلك عنصر التضاد الذي استخدم بأشكال متعددة ومتنوعة: “اشتبكت الفضيلة مع حجارة الخطيئة… ” ص8، وفي: “أفكر في … الفراق واللقاء، أتأمل الجمال والقبح الجوع والاكتفاء.” ص 47، مفردات موسومة بالتناقض الذي يغدو، أحيانا، مكملا لبعضه كما في: “تعالي نكمل الغياب بالحضور…” ص66 ، في تكسير لمقابلة الجمال للقبح، والفضيلة للخطيئة بصلة الغياب بالحضور، وشغل حلقته المفقودة، وتحويلها من تقابل وتضاد إلى تكامل وتآلف. كما تحضر موضوعات عديدة، منها ما يحمل طابعا وجوديا مستوحى مما هوعقدي ديني مثل قصة حواء وآىم: “تبشر بحواء تكبو تحت دفء الأحمر على جسد آىم…” ص16، وما يضفيه على السياق السردي من دفق وجداني مختزل في رمزيْ حواء وآىم، وما يزخران به من حمولات وجودية ضاربة في جذور الإرث العقائدي بمختلف أسسه ومكوناته. وأسطوريا رمزيا مثلا في سيزيف: “كان سيزيف يعاود رفع صخرته الأبدية… ” ص17، في إحالة لأسطورة سيزيف وما تجسده من عناء أزلي مضن ولا مجد، ومن خلال سؤال يجترح افقا ذا أبعاد ميتافيزيقية: “هل العالم الآخر هو النهاية؟” ص73، بحثا عن تحديد تصور لنهاية يكتنفها الغموض، ويجللها الإبهام. وارتبطا بما هو وجودي تبرز في ثنايا قصص المجموعة مظاهر دينية، مثل: “تناهت إلى أذنيها أصوات أجراس الكنائس مع أصوات المؤذنين للغروب…” ص 10، وتشبيه لطائر مقيد ينشد الحرية بمسار المسيح، وسعيه لتحرير النفوس: “مثلما سار المسيح على طريق الجلجلة، ليطلق النفوس حرة، سار هذا الطائر مقيدا كي يطلق أجنحته غلى السماء حرا…” ص137، وعلاقة الحرب بالموت في تفاصيل تضمنتها دفتي الأضمومة: “تخرجت وفي يدي بندقية، وفي حقيبتي سكين بدل قلم الحمرة… كنت أراهم فوق الأكتاف يرفعون الصندوق الخشبي الأبيض المزين بالورود…” ص 24، مع تحديد زمن بداية الحرب ومدى ارتباطه بالموت: “وكيف للحرب أن تبدأ في فصل الربيع، والموت في فصل الحياة…” ص 30، وإن كان زمن الموت يشكل فصلا من فصول حياة منفتحة على المجهول الرابض في ضفاف الغموض وأدغاله. فالحرب مصدر مأساة ومعاناة: “هل أنت ممن أصابتهم الحرب، وهجرتهم من قراهم؟” ص 88، لتغدو، أي الحرب، جزءا من واقع معيش: “لقد تركته منذ اختلطت أجراس الكنائس بالقذائف… ” ص 133، ويصير الموت امتدادا للحرب: “الحرب لا ترحم، والفراق على قيد أنملة منا في كل لحظة… “ص 133، وما ينجم عن ذلك من تبعات تفرخ أوضاعا قاسية ومزرية مثل الحصار المديد: “بعد حصار دام أكثر من ثلاثين سنة. ” ص 134، وموضوع القومية العربية وما تعيشه من تفكك يسبب ألما ممضا خصوصا في أوساط الكتاب والشعراء: “الوجع هو القاسم المشترك بين كل الكتاب والشعراء في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، لامفر منه في الكثير من الدول العربية، الاضطرابات والأكفان لمجموعة ممن هم على هامش الحياة.” ص 39، هذه الحياة المكتظة بؤسا وحرمانا نتيجة سياسة زعماء وحكام أغواهم عشق السلطة ونعيم الحكم: “ألا يكفي ما تناله بلادنا من مصائر شعوب في قبضة طغاة عتاة تجبروا، واستهانوا بحياة البشر؟” ص 61، موازاة مع وطن يعيش على إيقاع المآسي الموشومة في الذاكرة والوجدان، وفي أماكن كالحيطان: “وبكيت على وطن، فوق حيطانه مثلا طفولة مقتولة، وأمومة ما زالت تنزف حتى آخر قطرة.” ص 135، تساوقا مع أوضاع اجتماعية، داخل الوطن العربي، لم تسلم هي الأخرى من آفات الفاقة والعوز كما تصور ذلك قصة “القميص الأسود”: “لا يفهمها الرجل الجالس في المقهى على جانب الرصيف، يقرا جريدة أمس لأنه لا يملك ثمن جرائد اليوم.” ص 51، جليس المقهي الذي لا يملك مبلغ شراء جريدة لما يعانيه من ضنك العيش وضيقه. أو في مشهد “مشرد الزمالك “: “لم يمنع هذا الفيضان من البشر السائرين في الشوارع إلا قليلا، والباعة المتجولون والشحاذون وماسحو زجاج السيارات كأنهم تحدوا في سبيل لقمة العيش مزاج الطبيعة… سعيا وراء سراب الحياة منسيين مهمشين على قارعة الزمن…” ص115،الذي يصور حياة الفقر والتهميش التي ترزح تحت وطأتها فئات عريضة من أفراد مجتمع عربي مفكك ومأزوم (شحاذون، ماسحو زجاج السيارات) في تعقب لقمة عيش شاقة ومكلفة. والانزياح الذي فتح آفاقا غير مألوفة في نسج خيوط علاقة مع عناصر كالموجة في نص “الموج”: “نادتني موجة، التفت فرأيتها تلوح لي مبتسمة.” ص 55، ورغم عدم تصديق ذلك، واعتباره ضربا من الحلم: “فركت عيني، علني أحلم لأصحو من هذه التهيؤات، لكن كنت هناك على الشاطئ بكامل وعيي … ” ص55 ، وهي مظاهر تصب في خانة الغرائبي حيث لم يقتصر الأمر على ما صدر من الموجة من تلويح وابتسامة بل تعداه إلى القول: “سمعتها تقول: هل تفكرين بغيري؟” ص 56، مشهد سوريالي سرعان ما توقف لينتقل إلى رؤية طيور النورس: “التفت حولي لأرى مصدر الصوت… لم أر سوى طيور النورس تتحرش بباقي أكياس الطعام الذي خلفه المصطافون على الشاطئ” ص 57، أو في تخيل وتصور ما يمكن أن تقوله الحجارة: “كأني بي أسمعها تقول لي: (اتركينا وشأننا)” ص 94، انزياح غرائبي في نقل فعل النطق والكلام إلى كائنات كالنسور، وشجرة الصبار: “وقالت النسور: أتبعك بعين عاشق، وقالت شجرة الصبار: أحميك بأشواكي.” ص 119، تعبيرا عن لواعج عشق من النسور، وحماية وتحصين من شجرة الصبار.
وقد تم ذكر أسماء الكثير من أعلام الأدب، والفكر، والعلم كجبران، ومي زيادة، والمتنبي، وسارتر، وأندريه جيد، ورامبو، وإينشتاين. وأسماء آلهة من الأساطير القديمة كإيزيس.
وعلى مستوى البناء القصصي فقد امتثلت نصوص المجموعة للثوابت المعروفة من حوار، وشخوص، ووصف… وإن لجأت إلى أسلوب النهاية الموحية المفتوحة كما في قصة “الثالث عشر من نيسان” في الإعلان عن حدث وفاة بشكل مقتضب ومختزل: “أتى الغد ولم يستيقظ.” ص 113، وفي “القميص الأخضر” الذي يرهن النهوض من نوم يشبه الموت بزمن قادم/ ربيع آخر: “وتنام في حضنه على أمل أن يستيقظ في ربيع آخر.” ص 131.
لنخلص، أخيرا، إلى صعوبة الإحاطة والإلمام بكل عناصر ومكونات قصص “ظل النعناع” الموسومة بالتعدد، والتشعب، والامتداد فاقتصرنا على مقاربة بعضها على سبيل التمثيل حينا، والإشارة أحيانا.
________________________________________________
* ظل النعناع (قصص) لإخلاص فرنسيس.
ــ مطبعة: دار سائر المشرق ـ بيروت 2022.