أشرف حكيمي.. هنري ماتيس.. وابن مشيش
خالد غيلان
إن تتويج أشرف حكيمي بالكرة الذهبية الإفريقية لم يحصل بأرض سبعة رجال يومه الاثنين 16 دجنبر 2024 لعدة اعتبارات منها ما هو في علم المعلوم ومنها ما هو في علم علام الغيوب. وكأن أشرف حكيمي، المُزداد نهاية الألفية الثانية (1998) مُطالب وهو يمضي نحو القمة بأن يدرك أن الطريق إليها ليس على بساط من حرير بل به مسالك وعرة بين نزول وارتفاع. يعرف بفطرته السليمة وبروحه القيادية بأن إتقان العمل هو المنهج، وخدمة المجموعة هي الوسيلة، وإدخال الفرحة هي الغاية الحميدة. يريد جيل الألفية الثالثة ربح الرهانات الكبرى بتجاوز الاكراهات التي فرضتها الجغرافيا؛ بربط الصلات بين الشرق الأدنى والأقصى وإفريقيا، بعدما أدرك الغرب براهن المغرب واعترفت أمريكا بأسبقيته على باقي الأمم والشعوب. حكيمي واحدٌ من أبناء هذا البلد الأمين يُدرك أن المُستطيل الأخضر أفقٌ محدودٌ، لكن يستطيع رغم ضيق المساحة مواصلة جولاته الإبداعية – الفنية والجمالية -، سواءٌ داخل العالم الحسي أو خارجه، لأن التتويج هدفٌ وليس بهدف، فردي لكنه الرافد الذي يصب في المصلحة العامة.
إن المُتتبع لخطوات حكيمي يعلم علم اليقين بأن طريقة لعبه وسلوكه داخل وخارج الميدان يأتيان في مجملهما في حبكة فنان تشكيلي، بأسلوبٍ تغلب عليه لغة أهل العرفان، البسيطة والراقية، على نمط أهل الأنوار؛ أقطاب التصوف بالمغرب ومنهم مولاي عبد السلام بن مشيش وتلامذته أبو الحسن الشاذلي، ومولاي عبد الله الغزواني، واللاَّئحة طويلة، من مقامات أهل الطّريق؛ طريق التذوق والارتقاء.
رحلة داخل الذات…
إن ما حصل بمراكش كشفٌ عِرفاني – وإن كانت التظاهرة رياضية صرفة -، فهي بدلالات صوفيةٍ تاريخيةٍ غنيةٍ رابطة الماضي بالحاضر، وإن ما وقع يتطلب تفاعلاً مناسباً بواسطة شحن الوُجدان بالإيمان، والاستمرار في أداء العمل بإتقان. لقد استطاع بعضُ أقطاب التصوف المغربي ومُبكراً أن يجمعوا بين الفلسفة والدين، وبين التأمل وخدمة الغير، بين زراعة الأرض وإراحة النفس، والرعي باستعمال الناي وإنشاد اللحن، والجمع بين الصناعة والطرب في زاوية واحدة ضيقة من محترف الدرازة، وإعداد ماء الورد ورش الفكر بالدين. أعادوا للمشرق ولأقصاه نوراً وهاجاً مع ابن عربي، والششتري، وأبي الحسن الشاذلي وغيرهم….واليوم اللاعب المغربي أشرف حكيمي يستوعب هذا الصعود من قلب مراكش ليسكن قلوب المغاربة ومحبيه. وقف العالم ليشهد التعبئة التلقائية خلال التظاهرات الاحتفالية وفي حالة الأخطار المُفاجئة مثل ما حصل مع زلزال الحوز الأخير؛ مبدع هو الإنسان المغربي بطبعه، عازفٌ ماهرٌ على وترٍ حساسٍ من عدة شُعيرات جلدية…هي البنيات اللاواعية التي تفرض قوانينها على الجميع؛ على حكيمي كما فرضته على الفنان التشكيلي هنري ماتيس (1869-1954) ومن قبلهما على مولاي عبد السلام بن مشيش (1163-1227م)، ومولاي عبد الله الغزواني (توفي 1591م)؛ التجربة الصوفية التي تعيد بناء الذات في قلب التربة المغربية؛ بالجمع بين البُرهان والعرفان من جهة وبين العمل النافع والتعفف.
كُتب لأشرف حكيمي أن يستوعب تاريخ المغرب بتفاعلاته مع الضفة الأخرى بين مراكش و“مجريط”، ومع باقي البقاع في العالم، واستطاع في ظرف وجيز أن يكون في القلوب قبل العقول مستوعباً رسالة الإنسان المغربي في الوجود. تتعدد تجليات ما وقع بمراكش والمغاربة يتطلعون معه للتتويج ونزع الاعتراف، إلا أن الصعود الذي حصل هو في مجال تربية النفس بسفر جديد داخل الذات من أجل نحتها فتصبح هي الكأس وهي الذهب. يمضي أشرف لمراكش للتويج فيعيده القدر للمستطيل الأخضر للاشتغال أكثر، هذا ما وقع لمولاي عبد الله الغزواني منذ أربعة قرون خلتْ بعدما نزل من شمال المغرب لجنوبه، غير بعيدٍ عن القصر الكبير لمراكش، قاصداً شيخه عبد العزيز التباع للمزيد من العلم وبالتالي نزع الاعتراف منه ومن غيره، إلا أن التباع أمره بالاهتمام بالبساتين وإعداد المشاتل؛ فكان العمل في البستان هو الوسيلة لبناء الذات وجلب الخضرة والماء. وعلى هذا المنوال كُتب لأبي الحسن لشاذلي (1179-1258م) أن يعود من أقصى الشرق، من بغداد لجبل العلم من أجل الارتواء… يقول أبو الحسن الشاذلي عن تجربته (عبد اللطيف الوهابي، القطب اللامع والغوث الجامع، مولاي عبد السلام بن مشيش، 2018، ص: 94-95): “كنت في سياحتي في مبدأ أمري… فحصل لي تردد: هل ألزم البراري والقفار للتفريغ والطاعة والأذكار، أن أرجع إلى المدائن والديار لصحبة العلماء الأخيار… ولما دخلت أرض العراق واجتمعت بالولي الصالح العارف بالله أبي الفتح الواسطي الذي لم أر له نظيراً بأرض العراق قال لي: أنت جئت تبحث القطب في العراق والقطب في بلادك [أي المغرب]؟… ارجع إلى بلادك وستجده… ولما رجعت إلى بلادي [قبيلة الأخماس] سمعتهم يتحدثون عن ولي يعيش بقمة جبل يعبد الله في خلوة بعيداً عن الناس… فقررت الرحيل إليه وهكذا كان لقائي بشيخي وأستاذي مولاي عبد السلام بن مشيش… ”.
وفعلا وصل الشاذلي عائداً من العراق لربط الصلة مع قطب الأقطاب؛ “… فصعدت إليه في مغارته ليلا وقلت: لا أدخل عليه في هذا الوقت… ومكثت غير بعيد فإذا بي أسمعه يقول: “اللهم إن قوما سألوك أن تسخر لهم خَلقك، فسخرتَ لهم خلقكَ فرضوا منك بذلك….اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق عليٌ حتى لا يكون ملجئي إلاٌ إليك”. فالتفتُ إلى نفسي وقلت: “… يا نفس انظري من أي بحر يغترفُ هذا الشيخ؟… فلما أصبحت دخلت عليه فارتعبت من هيبته”.
من هذه البلاد المُلهمة سيكتشف هنري ماتيس كذلك أسلوبه في الرسم بعدما بحث عنه في كل مكان، بتوصية من عملاق آخر في الفن التشكيلي اسمه أوجين دولاكروا (1798-1863م) الذي نصح الفنانين بزيارة المغرب؛ سيقع فعلاً في سحر طنجة التي طاردت فرشاة الفنانين وأقلام المبدعين.
بالمغرب وجد الفنانُ نفسه…
وهكذا سينبعث الجانب الشاعري في لوحات ماتيس الذي سكنته طنجة قبل أن يقيم فيها. عاد من بحر الفوفيزم؛ الأسلوب الوحشي ليقف مندهشاً بين بحرين معبراً عن إعجابه بالمغرب البلد المتوسطي، الأطلسي، والصحراوي، فقذفت به أمواج طنجة بين بحرين، بين هنا وهنالك، لزمن لا يشبه أزمان أوربا، ولا يشبه باقي الأزمان. ينعطف ماتيس خلال هذه التجربة من الفوفيزم للانطباعية، ويتخلى بالتالي عن المدرسة الوحشية، فاختارَ لنفسه الوجوه التي تغيب عنها التفاصيل الدقيقة. فرضت عليه طنجة وبقوة الدرس الجمالي الصوفي، المختزل في بساطة اللحظات التي خلدتها لوحاته، والتي غابت عنها التفاصيل والمظاهر النهائية، لاح نور الفرح اللانهائي في الأفق، مُخترقاً الطولَ والعرضَ….حضرت الحركة في تناغم مع إشراقة اللون المنبعث من الوجه، بين يوجد ولا يوجد، كما هي تفاصيل الحياة المغربية بفطرتها. فالإبداع مفهوم أكبر من الكأس، طاقة روحانية مشبعة بالأحاسيس. ألهمت تجربة ماتيس كتاب آخرين سقطوا في عشق طنجة بالإضافة للهبيين الذين قدموا لاكتشاف المغرب؛ وعلى درب طنجة رحلوا للصويرة ولشفشاون، هروبا من بطش الحروب وبحثاً عن المعنى.
لقد كتب لهؤلاء المبدعين استخلاص من ذواتهم ما ليس موجود فيها! كما يقول هنري برغسون (1859-1941م) فامتلكتهم القوة الروحية ووقعوا تحت تأثير سحر المكان. نحن هنا نستحضر الأمكنة وهالتها ليس لصعود اللون فحسب، فصعوده على اللوحة يقتضي صعوداً للذوق الإنساني؛ فالتصوف فيها حاضر، والموسيقى منها ترتوي، والتشكيل غاية في الدهشة، والشعر من وحيها متدفق قوافي وسواقي… هكذا اختار ماتيس أن يتواصل مع عشاق التشكيل، عبر اللوحات، باستعمال لون البهجة والحرية؛ إنها “ كثافة في مجال ضيق”، كما يقول نقاد أعمال ماتيس “L’immensité et l’intensité dans un espace étroit”
يستوحي ماتيس لحظة ولادة اللون – كما يقول هو- “من الملاحظة، من المعنى، ومن تجربة حسية مرهفة”، فهذه الكثافة في استحضار الأشياء حسب الحواس وليس كما تبدو في حد ذاتها، وهذه الرؤية الفنية هي التي ساعدت ماتيس على التأسيس لروابط بين الذات والمحيط سمحت بتدفق الألوان، حتى وإن اصطدمت تنثر السعادة النفسية والطمأنينة… لأن الفنان يستوعب بحسه المُرهف عبقرية الخالق في خلقه، والنباتات التي رسم نبضاتها خير مثال على ذلك. إنَّ ماتيس كما تقول مساعدته السَّيدة دومنيك سيزيمونياك، قدم لطنجة وهو يحمل إرث ثقافة النسيج الأوربي (وهو من مواليد ناحية مدينة ليل بالتحديد المعروفة بالنسيج)، فوجد في المغرب زخرفة ساحرة وقف عند أنماطها مع قفطان الزهرة، وشربيلها المزركش بالصقلي، وحمل هذا الموروث ليوظفه حتى وهو يرسم نباتات الحديقة معتمداً على عناصر خطية أو هندسية بقواعد تميل للتماثل تارة، وللتقابل تارة، وحتى الاصطدام في بعض الأحيان. ستسمح له الألوان الروحية الصوفية من التحرر من ضُغوطات الواقعية الأوربية ليغوص في صدى أنماط شكلية من عالم المثل والقيم العليا ومن وحي الفطرة الأولى. سيعيد هنري ماتيس تشكيل أعماله بأسلوب يبتعد عن الغرب ويقترب أكثر من المغرب بمسحة دينية صوفية، يختلط الإنسان بالنَّبات وتقترب الأرض من السَّماء… وكأنَّ الفنان هنا يستحضر الخالق، فينجز عمله على قواعد هندسية لا تُرى، وما يبرز للعيان والعيون هو فقط الجمال، الألوان التي تسحر القلوب والعقول. فاستطاع ماتيس أن يهتدي لرسم الأحاسيس المُتدفقة التي يصعب تصويرها فابتعد عن السَّطح ليغوص بذلك في الأعماق التي لا تُرى… وكما يقول المثل الصيني “فالرَّسام هو الذي لا يرسمُ فقط الشجرة كما هي، بل يحاكيها كما تنمو وهي صاعدة …يستوعب إحاسس التَّغيير فيها ويشاركها النمو وهي تتنفس أريجَ الحياة ”.
إنَّ الحكمة هي المحبة، والأسمى هو الانسجام، والأرقى هو أن لا يلوم الإنسان لا نفسه ولا غيره… ولا يُمكن لوتبة التناغم هذه أن تحصل للراغب في ذلك إلا إذا وصلتْ النفس إلى مستوى الصَّفاء وأدركتْ الهدوء من أعماق الأعماق الجُوانية. نحنُ هنا أما مسلك الفضيلة والمعنوياتِ العاليةِ من خلالهما تتدفق الطاقة الباطنية ولا تنضب أنوارها. من هذا الأفق سيتروي ابن مشيش، وهنري ماتيس وسيتعلم الدرس حكيمي ليستمر في إبداع أجمل الزخارف والفنون، ويطلق البارود، ويحول الملاعب لمسارح تنشد فيها العيوع، وترتفع الزغاريد بعواصم العالم رغم كيد الكائدين.
خاتمة
تتعدى القراءات لما حصل بمراكش، إلا أنَّ العالم أجمع أدرك بأن الرُّوح المُبدعة مُتأصلة في هذه التربة وبإمكانها أن تُسعد مهما كانت المُضايقات حتى وإن غاب الاعتراف… فالمغربي داخل وخارج الوطن يعرف كيف يعيش، ويتألم بلا شكوى، ويحيى مبدعاً ومنشداً. لعل هذا هو ما وقف عليه الفنانون الغربيون بالمغرب، فاقتنعوا بأن الأمور على بساطتها هي السبيل لإدراك الجوهر، وهذه الأسرار طبعت أسلوب المتصوفة من الذين رحلوا لمشارق الأرض ومغاربها بروح المسؤولية الفردية المُنصهرة في خدمة البيئة والمجتمع.
فنزع التتويج ليس فقط سؤالا ذاتياً عابراَ يخص إمكانية الحصول على الكرة الذهبية، إنه في اعتقادنا سؤال له ارتباط بإرادة بناء الذات من الدَّاخل وسط موازين قوى غير مُتكافئة، “فالفرد يحوز وعيا مستقلا” بحسب جان بودريار، لكن ليس منفرداً بل في تشابك مع أطراف كثيرة مختلفة، في إطار حركية مجتمعية تدافعية، تقتضي أولا إرساء قواعد لثقافة الاجتهاد ومساراً للاعتراف بالآخر، في إطار “الاحترام المتبادل للمكانة المتساوية والفريدة للآخرين” كما يقول أكسل هونيث، تفادياً للإحباط. فتصبح الرِّياضة مثل الفن السبيل للوصول لهذا الاعتراف. وهذا يحصل مع التصوف المغربي الذي ينقل الفرد من السقوط في دائرة الحرمان والإذلال و“ التشيؤ” ليرتفع به لبناء هوية ناجحة تعمل لوجه الله تعالى وحب مخلوقاته بروح المسؤولية.