ماذا يمكن أن يقال بعد؟
جمال الموساوي
مهما بدت الصدف عشوائية، فإننا لا نستطيع التملص من آثارها. أكثر من ذلك قد تكون المحدد الأساسَ للكثير من اختياراتنا في الحياة. الحياة بالتداعي الحر للكلمة ودلالاتها غير المحدودة التي لا يمكن اختصارها بين حدي الولادة والوفاة، بل تتجاوز ذلك إلى كل ما يتراكم خلال هذه الرحلة ليشكل الوجود الفعلي للإنسان بذاته في تجلياتها المتعددة المادية والمعنوية.
لماذا قد تبدأ شهادةٌ بمقدمة كهذه؟ قد يكون هذا السؤالُ غير ضروري، فللكتابة مداخلُ عدة تختلف باختلاف من يكتب ولو تعلق الأمر بالموضوع ذاته، وبالتالي فإن الجواب نفسهُ لن يكون وحيدا ونهائيا. ولكنني أطرح هذا السؤال لأستعيدَ ما يعلق بالذاكرة، عادة، من الأحداث التي كان للصدفة فيها يدٌ وتأثير.
في بداية التسعينيات، وأنا أتلمس طريق الكتابة، وأقرأ ما كنت أستطيع الوصول إليه، لم يكن في ذهني من عبد القادر الشاوي إلا عنوان “كان وأخواتها”. العنوان فقط لا الكتاب الذي لم أكن قد رأيته بعد. دلفت إلى مقر اتحاد كتاب المغرب بزنقة سوسة في أمسية رمضانية حاملا في يدي “دليل العنفوان”، الذي كان حديث الصدور، وكان أول كتاب يوقعه لي كاتبٌ.
فبدأت رحلتي مع كتابات الشاوي مفتونا بما أشار إليه الأستاذ محمد برادة بـ”شهوة الحكي عن الذات قبل الحكي عن الآخرين”، بالتزامن مع أولى سنواتي الجامعية، كما لو أن تلك الصدف المشار إليها تدفعني للبدء من حيث بدأ. من الرباط، ومن جوطيته حيث ركام من الكتب المستعملة بأسعار زهيدة، والتي صادفت فيها حالات تشبه الحالة التي كان السارد في “دليل العنفوان” يفاوض البائع عن الثمن مدافعا عما سماه بـ”اقتصاد الحال، بشيء من الكذب والتحايل” فيستجيب البائع أحيانا، ويحرن في أحايين كثيرة.
هل هي المصائر التي تتشابه في الإطار (الهجرة إلى تطوان، الدراسة في المدينة، الالتحاق بالرباط في بداية العشرينيات من العمر، وحشة الأيام الأولى، قلة الدراهم، البداية من غرفة في فندق رخيص بباب الحد فرنسا /باريس في “دليل العنفوان”) وتتباين في التفاصيل، جعلتني بعد هذا الكتابِ الأول أقتفي كتابات الشاوي وكأنني أقتفي خطاي إلى حد أن أقرأ هذه الكتابات بالكثير من التواطؤ والتماهي أحيانا، بالرغم من قناعتي أن الكتابة الإبداعية عموما والروائية خاصة هي ابنة التخييل وتحتمل الإسقاطات والتأويل حتى وإن كانت تنطوي على الحقيقة أو ما يقترب من الحقيقة في علاقة الذات الكاتبة بالوقائع والأحداث.
وأذكر أنني عبرتُ عن هذا الانحياز في مرات كثيرة. وكتبت بينما كنت أقرأ كتاب “التيهاء” الصادر سنة 2021 أنني في الكثير من الأحيان عندما أقرأ عبد القادر الشاوي، أشعر كأني أعيش حياتي التي ربما في وقت من الأوقات تصورت أن تكون حياتي، لكنني أخطأتها أو أخطأتني إما لطيش أو سوء تقدير أو حظ أو جبن أو صدفة، (هو يتحدث كثيرا عن الصدفة في هذا الكتاب وأنا مدين لها في ديوان)، وربما لعامل الزمن كونه جاء قبلي وعاش ما عاش، بينما جئت بعده، وما كان بالإمكان لزمنه أن يعود كي أكون فيه.
كي أعزز هذا الزعم، استعنت بفيرناندو بيسوا في شذرة من شذراته يشير فيها إلى أن كل واحد منا يعيش بالضرورة حياتين، الأولى هي التي يغوص فيها يوميا حتى أذنيه والثانية يحلم بها ولا تتحقق. (إذا حدث وتحققت فهي تغير مكانها لتفسح المجال لحياة أخرى تكون هي المحلوم بها… وهكذا). ولم أكن، وأنا أطلب خدمات هذا البرتغالي، أعلم أنني سألتقي به كأحد الروافد التي استقى منها عبد القادر الشاوي بعض الإلهام لتغذية كتاب “مديح التعازي” الصادر سنة 2022، الذي وظف في كتابته أسلوبا يجعل قراءة الموت أمرا ممتعا، من خلال تجاوز التصور الظاهري للموت ممثلا في تغييب الجسد بالتخلص من الجثة، بالدفن أو غيره، إلى أبعاد أخرى تغرف من الفلسفات المختلفة ومن غير الفلسفات، على غرار ما أورده على لسان الشاعر محمد الماغوط في إحدى رسائله إليه (إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى، الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء) !
إن ما أسميه القراءة المتواطئة التي تُسقط القارئ في التماهي أحيانا (القارئ الذي هو أنا لكنه بالتقمص يتخلى عن أن يكون أنا)، هي التي دفعتني في لحظة من لحظات الوعي بما أقرأ إلى طرح السؤال الذي قد يطرحه أي قارئ بينه وبين نفسه عندما ينحاز في قراءاته إلى كاتب معين، ويستغرق في الإنصات إليه من خلال كتبه دون أن يشعر بالضجر أو بالرتابة. يتمحور السؤال المذكور حول الأسباب التي قد تجعل قارئا ما يميل إلى كاتب ما أكثر من غيره. إن الجواب على هذا السؤال يبقى جوابا مشوشا وغير واضح، لكنني مع ذلك اعتقدت دائما، على مدار أكثر من ثلاثين سنة من مداومتي على الكتابة، أنني أكتب الشعر لقارئ لا أعرفهُ بالتأكيد، وهو قارئ هلامي وغير متشكل، إلا أن له في مخيلتي ملمحا واضحا، هو أنه قارئ يجد أن ما كتبته يعنيه، وربما كان قد فكر في كتابة ذلك بنفسه أو كأنه كتبه بالفعل أو أنه شعر بأنه مكتوب له خصيصا لأن حالته صادفت حالة النص الذي قدمته له.
خلال الاستغراق في هذا التساؤل ومحاولات الجواب، يطل علي عبد القادر الشاوي من “كتاب الذاكرة” الصادر سنة 2015، محاولا زرع الشك في هذه القناعة بالقول إن جوابي هذا ربما هو فقط جواب “لمداراة سائل”، قبل أن يعود ليؤكد، كما استنتجت، أن الأمر هو كذلك بالفعل، أي عندما قال إن “الكتابة الأدبية لا يمكن أن تتحرر من ذات كاتبها، بل إنها، كما هو المؤكد، تتعالق مع أخص مناطق تلك الذات إيغالا في الغموض فتصدر عنها صدور الماء عن نبع دفين لا ترى طبقاته الأرضية السميكة”. استنتجت من هذه الفقرة أن الارتباط بين الكتابة والذات الكاتبة هو ما يعطي، في الغالب، للقارئ ذلك الإحساس اللذيذ الذي يجعله يقول “هذا ما أفكر فيه”، أو “كأنني كتبتُ هذا”، أو “إن هذا مكتوب لي”. وذهبت أبعد من ذلك إلى حد الاعتقاد، والحالة هذه، أن القارئ، وأتحدث بالتعيين والتخصيص عن نفسي، يعثر على صورته في الكاتب، أو في شخصية من شخصياته، أو في فكرة من أفكاره.
لعله من الواضح أن شهوة الحكي عن الذات قد أخذتني تماما، واستحوذت على خيط الكتابة في هذه الشهادة، فأمعنتُ في الحديث عن علاقتي بالأعمال الإبداعية للأستاذ عبد القادر الشاوي، أكثر من الحديث عنه ككاتب وكإنسان، أي عن تلك الذات التي هي نبع تلك الأعمال، لأن ذلك في تقديري يدخل في حيز السؤال الذي طرحه هو نفسه في “مديح التعازي” بصدد الراحل محمد شكري. وهو “ماذا يمكن أن يقال بعد؟” عن هذا الكاتب الطنجاوي الذي جاب اسمه الآفاق، قبل أن يهتدي إلى أن يتحدث عن “شكري الذي لا نعرفه”، فاتحا شرفة للنظر إليه من زاويته الخاصة التي تعنيه هو فقط. ولعلي فعلتُ الأمر نفسهُ في هذه الكلمات، ذلك أن الأستاذ عبد الحميد عقار، في الكتاب الاحتفائي الذي أعدته فريدة الخمليشي بعنوان “عبد القادر الشاوي، تجربة حياة” الصادر سنة 2008، جمع الشاوي الذي نعرفه في توصيف لا حشو فيه بقوله “يظل الشاوي مثقفا ومبدعا يتسم بالحضور والحيوية، ويعبر بجرأة، ويحتفظ للبعد الإنساني بعمقه وضرورته في التواصل والتوادد مهما شطت السبل وارتحلت بالأصدقاء في اتجاهات مقفرة. يكتب لكي لا تصير التجربة مدى مستعارا للنسيان أو للحنين فقط”.
* شهادة في الندوة الوطنية الثالثة للرواية المغربية، دورة عبد القادر الشاوي، من تنظيم جمعية النجم الأحمر بمشرع بلقصيري 2024.12.29-28