الغار (2)

الغار  (2)

 الدكتور أحمد العلوي 

قال لي شيخي غفلان: 

 – لابد ان تجد طريقة للإفلات من الموت كما وجدها الحكماء من قبلك.  

قلت له:

  –وكيف ذلك؟

  قال لي:

 – انا اريك كيف تجدها. انها مسجلة في كتاب تلقاه في نهاية هذا الغار المظلم.

 دخلت الى الغار وقضيت عشرين سنة في البحث ولم أجد شيئا ومع اكتمال السنوات العشرين اصطدمت بجدار عفن لم أنفكك منه الا بشق النفس وعذابها.

  قلت له:

 – لم أجد شيئا. لقد كنت ابن عشرين وانا ادخل هذا الغار وانا الآن ابن اربعين. هل كنت مخطئا في حساباتك؟

 قال لي:

 ابدا. الكتاب الذي فيه طريقة النجاة من الموت والخلود في الحياة موجود في هذا الغار. ابحث عنه. 

 قلت له:  

اين؟ امامنا الجدار؟ نشقه؟

  قال لي:

  افعل وشق الجدار.

  كان معي فأس فدققت به الجدار فلم يندق منه شيء وحاولت المرة والمرة بعدها دون اثر ولا جدوى.

  قلت له:

  ان الجدار من حديد ولا يشقه الفأس ولا ما هو اقوى منه. انه حديد متصل لا يدري سمكه الا الله.

  قال لي 

عدنا الى الله؟ الم اقل لك ان تعتمد علي؟ اين الله؟

 قلت له:

 هذه لغتي. فيها اسم الله واليه انسب الاعمال العظيمة. 

 قال لي:

 اذن فلم استشرتني؟ انا لا اعتمد على أحد الا على نفسي.  

قلت له:  

على كل هذا الجدار من حديد ولا قدرة لي على اختراقه بالفأس.

قال لي: 

 – اذن فقد أخطأنا كتاب الطريق الى الخلود في موضع من الغار مررنا به ولم ننتبه اليه فلنعد ادراجنا.   

عدنا ادراجنا الى جهة باب الغار باحثين عن الكتاب وقضينا عشرين سنة اخرى وحين اقتربنا من الباب وبدا لنا النور

  قال لي: 

فلنرجع مرة اخرى. لا تخرج فإنك ان خرجت هلكت وان كل داخل الى هذا الغار يهلك ان خرج منه. 

 قلت له:  

الآن صار عمري ستين سنة. لم أعد آبه لأقوالك. لقد فحصت الغار مرتين واستغرق الفحص اربعين سنة. دخلت الى الغار شابا وها أندا شيخ على بابه وتريد ان أكر راجعا الى قعر الغار مرة أخرى. لو فعلت لوصلنا الى الجدار مرة اخرى في عشرين سنة وسيكون عمري ان عشت ثمانين ثم نعود الى جهة الباب فيكون عمري مائة ولن نجد شيئا مما زعمت.

  قال لي:

  – بل ارجع. هذا امر.

 قلت له:

 – ما عهدتك تامرني. كنت اظن ان الامر اختيار.

 قال لي:

  – لا اختيار. ارجع والا هلكت. الم تقسم لي على الطاعة؟ الم تبايعني؟ انظر. ها هي نسخة مبايعتك الاصلية. انا الذي انقذت الامم من الضياع ولابد ان انقذك من الموت الذي يتربص بك. الم تر انه اهلك آباءك واجدادك وانه سيهلكك. ارجع وابحث عن الكتاب الى ان تجده ولو استهلك عمرك واستفناه.

ترددت. أخرج ام لا أخرج؟ خفت ان أخرج. لأن المحدث الذي يأمرني بالعودة الى قعر الغار كانت له منزلة عظيمة عندي. كنت افتخر ب على الأقران قبل دخولي بأمره الى الغار. كان يؤلف الكتب في النظرية اللغوية والاجتماعية وفى الانتروبولوجيا والفلسفة وفى كل العلوم وكان يعلنها في الناس باسمي. كنت اجله لأنه كان وراء الرفعة العلمية التي اكتسبتها في بلدي بل في العالم اجمع. بلغت من الرفعة حدا جعلني ازهد في السعي الى عضوية المجالس العلمية والاكاديميات والجوائز والاتحادات الادبية والاحزاب السياسية. كانوا جميعا دوني بحكم انهم لم يؤلفوا جميعا عشر ما الفت. كانت كتبي تدرس في الجامعات ويستدل بها الفقهاء والفلاسفة والمتكلمون والسياسيون الكبار لا الجهلة الذين يصوت عليهم جهلة مثلهم فى الانتخابات والانقلابات. السياسيون الجدراء بالاحترام قلة وهم الذين كانوا يقرأن كتبي ويهتدون بها الى الصواب. لهذا ترددت ولم اخرج. كنت بايعته بعد ان ألف لي الكتب الاولى التي نلت بها المكانة في كل البلدان بين المفكرين. بايعته حينئذ على الحلو والمر وعلى الطاعة في المنشط والمكره واقسمت له ب أغلظ الايمان لئن حنثت في يميني لانتحرن ولأسيلن دمى بيدي على نحرى وصدري. ما العمل؟ اخرج من الغار واحنث ولا اقتل نفسي واتنكر للذي كان وراء شهرتي وصيتي الذائع في الارض.؟ اتنكر له؟ أنكره؟ وماذا يكون مصيري بعد خروجي؟ من يكتب لي مثل الكتب التي كتبها لي هذا الاستاذ الشيخ الولي الصديق المخلص؟ سيلقاني المتملقون وطلاب رائحة الشهرة وعباد المشهورين وسيسألونني رأيي لينشر في الجرائد العظمى وفى مجلات الاكاديميات والجامعات الفخمة وسيطلب منى ان اكتب عن الامر الفلاني وان احاضر عن الشأن الفلاني او قد يحدث ان اجتمع بجماعة من العلماء والفلاسفة والمفكرين الذين هم دوني طبعا ولكنهم ذوو موقع في قومهم فمن يسعفني حينئذ بالعبارات العلمية التي لا يحسنها إلَّا صاحبي ولا يحسن صناعتها أحد من الجن والانس. اختارني من بين الناس ليكرمني بنسبة اعماله الفكرية الي وأنالني المنزلة الرفيعة والوسيلة الى المعالى والفضيلة المزينة للظاهر والباطن في عرف قومي واقوام اخرى فكيف اخونه واخرج الى النور واتركه في الغار المظلم؟ الم يدخل معي لمجرد امر لي فيه مصلحة لا له، لأنجو من الموت لا لينجو هو. هو لا يموت. عرف الطريقة وعمل بها وصار خالدا. قرات عنه في الكتب القديمة بصفته وشكله وسحنته وعلمت انه كان حيا في عهد آدم وفى العهود التي بعده وظهر في كل عصر لأعظم مفكر فيه وهداه الى اكسير الحياة الخالدة ولم يمت أحد من اولئك المفكرين. ما زالوا احياء يعبرون العصور ولكنهم لا يظهرون أنفسهم للناس ويعيشون في الظل. هو يعرفهم واحدا واحدا. ولقد كنت انا ذلك المختار الذي اختاره في عصري لأكون سيد الكونين في المعرفة والحكمة. كيف اذن اخونه واخرج من الغار المظلم الذي فيه كتاب الاكسير. ان كنا لم نجده فلعوار في عيني والا فلم وجده المفكرون والحكماء الذين قادهم اليه من قبل في هذا الغار نفسه. لما ذا لم يجده هو؟ لأنه لو وجده هو لما نفعني انا. الطلسم الذي يحكمه يقضى بان المنتفع به هو الذي عليه ان يجده. ولولا ذلك لعثر عليه هو ولهداني الى مكانه من اول وهلة فانه يعرف مكانه دون شك. اذن ما العمل؟ أخذت الفأس وعزمت على البحث في السقف. لم نبحث فيه من قبل. كنا نبحث في الجدران وفى ارض الغار. اخذت سلما وطلعت الى قمته وطرقت السقف طرقات خفيفة مستكشفا مساحته ثم وجهت الى جهة منه ضربة قوية. خر السقف على وعلى شيخي وحدثت ضجة عظيمة تذوب لها الابدان وغبت عن حالي ثم استيقظت فوجدت نفسي في العراء. لا لباس ولا مال ولا صحة.

Visited 44 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. أحمد العلوي

أكاديمي مغربي، أستاذ اللسانيات بكليات فاس والرباط وبني ملال وعمان٬ أثرى الساحة الثقافية في العالم العربي بأعمال علمية رصينة وأسهم في تجديد البحث اللغوي العربي وتأسيس مدرسة لغوية مغربية جديدة.