كلُّ عامٍ والدّنيَا بخير..!
د. محمُّد محمّدالخطابي
على عتبة العام الجديد 2025 الكلّ كان ينتظر، ويرقب، ويترقّب، ساعةَ الصّفر، ثمّ ما لبثت أن انطفأت أضواء النيون اللّازوردية في كلّ مكان، وطفقت العناقات تلوَ العناقات، ودارتِ الأكْؤُسُ الدّهاق، وتلتها الأكوابُ المُترعة، ووُزّعت الصّحون الشهيّة، وامتلأت البطونُ حتى التّخمة بالطعام المُزّ، والشّراب المُرّ، ووزّعت الشموع الملوّنة، وأضئت القناديل المعلقة كثريات الذهب، وتمّ إيقاد الشمعدانات المفضضة ذات الأيدي الأخطبوطية المتشعّبة، التي يضيئ زيتها حيناً، ويخبو حيناً آخر، تتراقص، أنوارُها فى رومانسيّة حالمة، خافتة، وتتأرجحُ فتائلها فى خَجلٍ بفعل الرّقصات الصّاخبة، وإهتزازات تنّورات الصّبايا الحِسَان، المكان يملأه الأثاثُ المزخرفَ على نمط أثاث لويس الرابع عشر، والأواني المزركشةَ، والألوان الزّاهية، والمآدبَ الفاخرة، والمصاطب العليا، ومشروبات الكوكتيل الشهيّة الملوّنة، وبدأت تدور صواني طحالب السُّوشي اليابانية، وبطارخ الكافيار الرّوسيّة، والإيرانيّة، وشطائر أسماك جاوة النادرة، وشرائح السَّلمُون النرويجي المُدخّن!. وخلف النوافذ المُشرعة تتراءى من بعيد الشهُب الاصطناعية البرّاقة التي تملأ الفضاءَ الفسيح، والتي تكاد تُغشى الأبصار، إنهم يفرحون، يمرحون، يعبثون، يتشاجرون، يتصالحون ، يصيحون، يُغنّون، ويُهلّلون، ويتعانقون فرحين مهلّلين احتفاء بمقدم العام الجديد..!
هَوَس ونزَق وفرح ومرح
ها قد أزفتْ هنيهةُ (توديع عامٍ 2024 – واستقبال عام 2025).. انهم يصيحون بصوتٍ جهوري فى هوس: أطفئوا المصابيحَ.. أوقدوا الشّموعَ، والقناديل، وانشروا الأنوارَ، والضّياء.. الوجوهَ باشّةً هاشّة ً ضاحكة، والقلوبَ تخفق هناءةً وحبوراً، وتلمح الأيدي، وهي تمتدّ في جَذلٍ نحو أخرى لتُصافحَهَا مهنّئةً إيّاها بإنسياب حِقبةٍ من الزّمان وإنقضائها، وبزوغ أخرى. كلّ المدن، والحواضرالكبرى تسبحُ في ثبجِ فضاءٍ أثيريٍّ بهيج، والاضواءُ تملأ الدّنيا، تنتشر في أماكان بعينها، ويستمرّ الظلامُ الدامسُ مُطبِقاً في أماكن أخرى.. عاقرت الكؤوسُ بعضَها بعضاً، وانفرجت الأشداقُ من فرط القهقهات، وزاغت العيونُ من فرط النظرات والجنون، وانتفخت الأوداج والبطون، وتاهت الأفئدة والعقول.
المنسيّون، المُهمّشون يلفّهم البردُ القارس الزّمهرير الذي يَصْلىِ المَقْرورَ، ويُبيحُ كلّ محظور، ويُجمّد الثلجَ الصقيعُ المتكاثفُ الجسومَ الهزيلة، وأبدانَ عاصبي البطون المُرمّلة النحيلة، الذين يمزّقُ أوصالَهم الطّوىَ، ويُغلفهم البؤسُ والتعاسةُ، ويسكنهم الضنكُ، وتسربلهم الكآبة، والعَوَزٌ، والخصَاصَةٌ، والفاقةٌ، والفقرٌ، وقبضٌ من ريح، وحصادٌ من هشيم.
ودار الزّمانُ على (دارا)، وانصرف العام وتوارىَ، وتوارت معه بعضُ أفراحِنا، وجذلِنا،ومآسِينا، واستقبلنا في ذاتِ الوقتِ عاماً جديداً لا زالت أيامُه، ولياليه في خبايا المجهول، وطيّ الكِتمان، وعِلم الغيْب. ها هو ذا عامٌ آخر قد هَوَى، وانْزَوَى، وَمَضَي لحالِ سبيله حميداً بأهله، لينسابَ كالسّيلِ العارمِ العَرَمْرَم، أو الأتيِّ المنهمِر النازل بين أخاديد أيّامنا المنهوكة، يذوي بين طيّات الزّمن، ويضيع بين ثنايا النّسيان، وثبج السّنين، ويتبخّر فى معارج طِباق السّماوات، ومدارج سديم الفضاءات السّرمديّة الأثيريّة، اللاّنهائية، واللاّمنتهية، واللاّمتناهية لينضمّ إلى سلسلةِ عقودِ الأعوام المنصرمة والقرون التي ولّتْ، ومضتْ، وانقضتْ، وتوالتْ، وذهبتْ بدون رجعة..!
أزهار بودلير و ترتيلة طاغور
الشاعر الفرنسي المتجهّم ” شارل بودلير” كان يكره الليل، لأنه كانت تتفاقمُ آلامُه المُبرحة فيه، كانت تتراءى له فيه هوّات عميقة، سحيقة، لا قعر، ولا قاع لها أودت به فى آخر المطاف إلى التّوى، كان فى جُنحه كان يشمّ رائحة القبور. ”أزهاره الشرّيرة” الملعونة تملأ مزهريّاته إنه فنّان معنّى، ومُبدعٌ معذّب، لا يشاطر الناسَ، ولا السّامرين شغفَهم بالليل، وهيامَهم بحلكته،إنه نقيضُهم على آخر الخط، وهو يعي جيّداً ما يقوله ويعنيه. وهذا صنوه فى الإبداع الغريب “طاغور”العظيم في ” إنتقام الطبيعة” يؤكد لنا أنّ انشطار الليل والنهار لا يهمّه، ولا إنقسام الشهور، ولا الأعوام، فتيّار الوقت عنده قد توقّف، يرقص الزّمنُ على أمواجه، ويتمايل القشّ وتميس الأغصان على أهدابه، هو وحيدٌ تراه، مُجندلاً، كئيبباً، وحيداً في هذا الكهف المظلم المدلهمّ، منغمراً في نفسه، منهمكاً في ذاته، منهوكاً بفكره، والليل الأسودُ، الأبديّ، البهيمُ، ساكنٌ فلى قلبه كبحيرة فى أجمةٍ نائيةِ، بعيدة الغُور، عميقة القرار، تخافُ عمقَها نفسُه، الماء ينضحُ، ويرشقُ، وينساب، ويقطر من الشقوق المُبلّلة، وفي البِّرك الناتئة، والغُمُر المُوحلة، والتِّرع الآسنة تسبح الضفادعُ العتيقة، إنّه حبيسُ ذاتِه، ينشد ترتيلةَ اللاّشئ… إنّه طاغور.!
الليل سارق الضّياء
كان البدائيّون يبكون أفولَ الشمس، وغيابَ القمر، وكانوا ينتحبون سدولَ الليل، ذلك أنّ الليلَ كان يسرق منهم الضياء، ويحرمهم من الدفء، ويطويهم تحت جبّته العملاقة الحالكة، ويبتلع كلّ شئ.. والآن تَرَى النَّاسَ يهلّلون لمقدمِ الليل، ويضجرون من وضح النهار، ذلك أنّ الليلَ فى عُرفهم ساكنٌ، راكنٌ هادئٌ، حالم سماوى، لا حرّ ولا قرّ فيه، من أين يأتي الحرُّ، ومن أين يجيئ القرّ، وهناك العديد من المدفآت، والمبرّدات، ومكيّفات الهواء، والمراوح، والرّيش، والطنافس، والسجاجيد، والألحفة التى بمقدورها التحكّم في قيظ الحرارة، أولسعة البرد حسبما شاؤوا، أو أرادوا، إنّهم مُحقّون في ذك لا ريب، فالنّهار ليس لهم، إنّه للكادحين، والعسيفين، المُتعبين، الذين يعملون في الحقول، والمغاور، والمعامل، والمَصانع، والمَزارع، والمَقالع، والمَدامع، والمَعادن، أمّا الليل فهو ملك لهم، أفرأيتَ إذن كيف انقلبت الآية..؟ أفرأيتَ كيف أنّ النّاس يتشاءمون ،ويتثاءبون، ويستاؤون من غياب النّهار.
عام مضى وعام أقبل
تُرىَ ماذا يحمل تحت جناحيه وأعطافه هذا اليعسوب الأثيريّ الطنّان الذي لا يتوقّف عن الزَنِّ والتحليق منذ الأزلْ، ولم يزلْ، تُرىَ ماذا يُخفي في طيّاته وثناياه..؟ أَشَهْداً حُلواً مُصفّى وتَمْرَا..؟ أم حنضلاً مُرّاً وصِبْرا..؟ الكلّ ينشد السعادةَ، والهناءةَ، في عالمٍ مشحونٍ بالرّداءة، والكآبة، والشّقاء. تفاقمت الحروب، وزادت نارها، واشتعل أوارها، وحمي وطيسُها، نمتْ واستشرت الفِتنُ، والقلاقلُ، وتفجّرت الثوراتُ في مختلف أصقاع المعمور، وفي أماكنَ بعينها من العالم ما زالت رحى الحرب الممقوتة تدور بثقالها وثفالها الكريهة وستظلّ إلى أجَلٍ غيرِ معلوم.. في تلك البقعة النائية من العالم حيثُ القومُ الذين وُهِموا بالهداية والنّصر، ما برحوا يحتسون نُخبَ العام الجديد في جماجم بشرية، أنا، وأنت، وهو، والآخرون يعرفون أين تقع هذه الأرضُ الطيّبة المكلومة.. إنها حيث يتسلّل الصيّادون ليلاً بفِخاخ البشر، وحشيتُهم أحدُّ فتكاً من أنياب الذئاب الماكرة، وكبرياؤهم أشدّ عمىً من الآجام المظلمة، لننسَ أو لنتناسى قليلاً.. هكذا يقولون، كفانا هُراءً، وهرطقةً، وزندقةً، وتفلسفاً، وإفلاساً، وتذمّراً، وتنمُّراً، وتنطّعاً، وشكوىَ، وأنين فلنعانقْ، ولنعاقرْ ولنحتفِ، ولنمحِ من ذاكرتنا كلَّ شئ، ولو إلى حين، ولنجعلْ بيننا وبين الأحزان، والأشجان، والأدران برزخاً واسعاً، وهوّةً سحيقة عميقة لا قرار لها.
تعاقب الليالي والأيام
يُخبرنا الشّاعر المصري الراحل كامل الشناوي البدين (جسماً) والرقيق (إحساساً) أنه عندما وضع يوماً عمّته وجبّته من على رأسه وبدنه الضّخم فى الأزهر وإنصرف، وَضَعَ معهما كذلك كلَّ همومِه وأحزانِه، وأتتهُ الجرأةُ، والجَّهر بالحقيقة.. حقيقة الموقف الفادح، فصاحَ ذاتَ يومٍ والخلاّنُ يمرحون، والإخوانُ يصيحون مهنّئين إيّاه : ”كلّ سنة وأنت طيّب يا سّى كامل.. صحّ النّوم “فصاح فيهم منشداً، مغتمّاً، مهموماً، كئيباً، حزينا فقال:
عُدْتَ يا يومَ مَوْلدِي/ عُدْتَ يَا أيّها الشقيّ
الصِّبا ضَاعَ من يدِي/ وَغَزَا الشَّيْبُ مَفْرِقِي
هذا الشّاعر كان فى رحلة عمره فى كلّ خطوة من خطواته يشبّ فى قلبه حريق، ويضيع من قدمه الطريق، كان صادقاً مع نفسه، ومع خلاّنه، ومع إخوانه، ومع واقعه لحظة تقييمه ليوم مولده، فقد خالف الناسَ في عُرفهم ، إنّه يتوجّس خيفةً وهلعاً ورهبةً من هذا اليوم، لأنّه يعرف مدَى فداحة الموقف بالنسبة له وللآخرين، فهو لم يُخْفِ وجهَه، ولم يُدارِ مُحيّاه في الرِّمال كما فعل غيرُه من الزرافييّن!، خرج عن القطيع، ورفع رأسَه، واشرأبّ بعنقه عالياً، سامقاً، ليُدينَ الزَّمنَ القاهر، الذى لا يتوقّف عن الدَّوَرَان حتى يصادف اليومَ المشهودَ الذي زُجَّ به بدون إستشارته في هذا العالم المشحون بشتّى ضروب العُنف، والعَنت،والتنكيل، والشقاء،والعذاب ، والمُعاناة. ولئن قُرِنَ الكلامُ هنا بعيد ميلادِ شخصٍ فرد، فذلك لأنَّ له إرتباطاً وثيقاً به، وفيه مَعنىً متقارب جدّاً بالنسبة لانقضاء عام، وقدوم آخر،هذا العام في الواقع هو بمثابة عيد ميلاد للبشر جميعا، أو للبشرية جمعاء،ذلك أنّ كثيرين منّهم يشتركون في الاحتفال، والاحتفاء به جماعةً في كلِّ مكان، ففيه ترتفع الأهازيجُ، وتعلو أصوات الشّدو، والطرب، والغناء، والسّماع، وصلةُ كلّ هذه المعاني هي إلى الألمِ، والحزنِ، والأسى، والشّجن أقربُ منها إلى الفرح، والمرح، والسعادة، والجّذل، والغِبطة والحبور، ومع ذلك تراهم يتمادوْن في لامبالاتهم، ويتظاهرون بأنّهم سُعداء…وقد يكون صنيعُهم ذاك من باب الانتقام، واغتنام الفرص وَعَمَلاً بنصيحة ”الخيّام” القائل في هذا القبيل أن تمتّع بيومك قبل غدك، فمن أدراك أنّك راءٍ أو مُدْرِكٌ هذا الغدَ المجهول..
إنّه كلام يتناثر، ويتطايرفي الفضاء، تماماً كما تناثر وتطاير في القديم كلامُ مَنْ شَيّد في أخيلته مُدناً فاضلة، وأقام فيها صروحاً وقصوراً ولكن العدالةَ ظلّت فيها طائراً حسيراً، كسيرَ الجناحين يحلّق بالكاد حولها، لا يَشمُّ سوى رائحةَ الظلم، والعنت، والتفاوت في كل مكان، واليومَ لم يعد ثمةَ أناس من هذا الصّنف، فقد أصبحوا في عُرف الآخرين شبيهين بالحَمْقى أو بالمجّانين الذين يُفنون أعمارَهم في الأوهام، والأحلام، والخيالات، والترّهات التي لا طائلَ تحتها. بل ربّما كان هؤلاء هم الذين يعانون أكثرَ من غيرهم مختلفَ ضُروب البّؤس، والتعاسة، والضنك، النكد، والحرمان، بعد أن كسدت أسواق الفكرالخلاّق، ونشطت حركاتُ التقاليع الرّخيصة المبتذلة في كلّ شئ، فى دنيا الفنون، والجنون، والمجون من كل ضرب، ربّما كان هؤلاء أكثرَ حظّاً، وحُظوةً من أولئك في الحياة الرّغيدة.
شُجيرات الصّنوبر وخطر الانقراض
فى هذه التواريخ يهيم الناس مُسرعين، ومُهرولينً، يذرعُون الشّوارعَ، ويجوبون الأزقةَ والدّروبَ، يجرون عاجلين فوق البسيطة، ويزحفون تحتها، ويطيرون فوقها في الفضاء اللاّمتناهي الفسيح، ويغوصون فى أعماق البحار، وفى أغوارالمُحيطات، ويتزلّجون فوق لججها وأمواجها، ويقطعون الصّحارى والقفار؟، والمَفاوز، والمهامه، والآكام، والآجام، لعلّك سمعتَ هذه الأيّام عن حركات، وتحرّكات الطيران غير الاعتياديّة، وعن إقلاع السّفن، والبواخر، وإنطلاق السّيارات، والقطارات وسواها من وسائل النقل، والسّفر، والتِّنقال، والترحال في جميع أنحاء المعمور؟! فإنّك لو اطّلعت على الأعداد الهائلة من المُسافرين، والمتنقلين، والمغامرين، والرُحّل في هذه المناسبات لذُهِلتَ من الأرقام التي تنطق بها الإحصائيات في هذا القبيل. إنّهم يتسارعون على غيرِ هُدىً منهم، وعلى غير عادتهم، يُسرفون، ويبذرون، يقتنون الحاجيات، والآليات، والمأكولات، والمشروبات، والهدايا، والهبات بِشَرَهٍ وَنَهَمٍ وبدون حساب، ويقتلعون شجيراتِ الصّنوبر الغضّة، ويجلبون أغصانَ الأَرز اليانعة التي نحن في مسيس الحاجة إليها في هذه الأطوار العصيبة التي يجتازها العالَمُ المتحضّر، والمتصحّر أو فى طريق التصحّر..! وتماشياً مع سياسات الحفاظ على البيئة، واحترام الطبيعة، وَصَوْن الأدغال والغابات، والدفاع عن المحميّات الطبيعيّة، والإيكولوجية من كلّ نوع، بل نحن في حاجةٍ إليها أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، لنستظلَّ بظلالها، ونستمتع برونقها، وننعم ببهائها، وببساقتها، وبساتنها، ونضارتها، وجمالها الخلاّب. كم أنتَ قاسٍ أيّها الإنسان، كيف تسمحُ لنفسك؟ وكيف يتمادى بك الغيُّ، ويبلغُ بك الغرورُ لتتطاول وتتجنّى على الطبيعة أمّنا الكُبْرىَ، وتقتل، وتقتلع بغطرسة تلك شجيرات الصنوبر البريئة لتجعلها زينةَ، وقتيةَ، عابرة في منزلك، تغمرها بالباقات، والبطاقات، والياقات، والورقات، والأضواء، والألوان، لتطوف حولها وأنت ثملٌ عديم الإحساس بها، وبما، وبمن حولها في لحظاتٍ كان أجدرَ بك فيها تعميق فكرك، وإعمال نظرك فيما يدور حولك ويمور من أمور، وما يجري فى هذا العالم من رزايا، وخطايا، وقضايا، وأهوال، وويلات. البشريةُ غزا الشيبُ مفرقَها كذلك مثل شاعرنا المكلوم إيّاه، وأضاعت عمرَها هباءً منثوراً في ويلات التقاتل، والتطاحن، والتشاكس، والمواجهة، والمعاداة، والبغضاء.لعلّ هذه الأمور تجعلنا نأسى ونتأسّى، وتبعثُ اللّوعةَ، والحزنَ، والضّنكَ في الأنفس الملتاعة المعنّاة.،وظلمُ البشرية لا ينحصر في بني طينتها وحسب، بل إنه يطولُ حتّى الطبيعةَ، أمّنا الأولى، ومختلفَ الكائنات الحيّة المحيطة بها ، فالإنسان هو الكائن الوحيد في عالم الأحياء و”العُقلاء”! الذي يقتلع الأشجارَ ويصنح من لحائها ورقاً ويكتب عليه: (حافظوا على الطبيعة وصونوا البيئة..!) وهو الوحيد الذي يقتلُ فقط للاستمتاع وإشباع رغبة الانتقام في نفسه الآمرة، أو الأمّارةُ بالسّوء.
على مشارف المَجْهُول
دقّات ساعة مُنتصف اللّيل.. إطلالةٌ أو إيذاناً بدنوّنا من مشارف المجهول فى استقبال عام جديد، الذي يحمل في طيّاته، وثناياه كثيراً من التخوّفات، والتوجّسات، والتساؤلات، والاستفسارات، والإرهاصات، والآمال، والتطلّعات، والآلام معاَ، إنها لعبة الجَدّ، أوالحظّ كما وصفها أبو الطيّب المتنبّي ذات يوم، التي تبتسمُ حيناً في وجه هذا، وتكشّر طوراً في مُحيّا ذاك، وهكذا حتى تفضُلَ فيه العينُ أختها، أوحتى يكون فيه اليومُ لليومِ سيّدا. وأنت أيّها العام المنقضي، لقد ودّعنا فيك، وخِلاَلَك، ومعك بألمٍ مُمضّ صفوةَ من أصدقائنا، وثلّة من أحباّئنا، وخلاّننا، ومعارفنا ممّن كنّا نتعايش معهم، وكانت تربطنا بهم علائقّاحترام ومحبة، ونسجنا وإيّاهم عُرى مودّة وإخاء، وأقمنا معهم وشائجَ صفاء ووفاء. فواحسرتاه عليكَ أيّها الحَوْلُ النّكد… وتبّاً لك أيّتها الأيّام، بل أيّتها الأعوام لقد تأسّى من قسوتك، وتشكّى من فداحتك، السّابقون، وها أنتِ ما فتئتِ تنوئين بكاهلنا، وتثقلين بكلكلكِ ظهورَنا، وتتوالين مُهرولةً غير عابئةٍ، لا تلوين على شئ، مُنثالةً، مُسرعةً، تنهبين أعمارَنا نهباً مُخيفاً، وتعصفين بحياواتنا عصفا مُريعا، ومع ذلك نظلّ نأمل، ونتأمّل، ونرفع رؤوسنا، ونجيلُ بأعيننا إلى السّماء نحدّق فيها بإمعان، كأننا نستلطفها، ونستعطفها أمراً مّا كامناً في كنه أنفسنا، وفى أعماق أفئدتنا، وفى قرارة وجداننا، في مطلع هذا الحَوْل الجديد الذي يطلّ، ويهلّ علينا خجولاً من وراء الغيب، وألسنةُ حالنا وأحوالنا تتوقّف برهةً، حتى نمعن النظر، ونعمل العقل فى هذه اللحظة الحاسمة الفارقة بين عام فات، وعام آت.. بقي ان نقول مثلما قلنا فى سالف الأزمان : كلّ عام وأنتم بخير.. وكل عام والدنيا بخير !