شذرات من مسيرة “سينيفيلي” الذاتية
محمد كلاوي
ابتدأت علاقتي بالسينما وأنا لا أزال في مرحلة الطفولة، عبر الفرجة التي كانت تقدمها بعض القاعات السينمائية، وبالأخص سينما شهرزاد والأطلس والكواكب… صبيحة أيام الآحاد بثمن خمسين فرنكا، أي ما يعادل آنذاك نصف ثمن التذكرة الخاصة بالبالغين. وعلى عكس العديد من أبناء جيلي، مواليد العقد الخامس من القرن الماضي بالدار البيضاء، كان من حسن حظي أن يكون أول من أقحمني في عوالم الصورة السينمائية هو أبي، العامل البسيط في الميناء، والرجل المحافظ الذي لم تطأ قدماه يوما مدرسة بل ولا حتى كتابا. رجل لا يفقه في الدين لكنه ظل إلى آخر رمق في حياته، مثابرا على أداء الصلوات الخمس بطريقته التي استقاها تقليدا، لربما لاعتقاده مخلصا أنها مجرد حركات ركوع وسجود بحيث ينهيها في دقيقة أو دقيقتين. لكنه على فطرته كان متشبعا بالمبادئ النبيلة كالطيبة وحسن المعاملة وخصوصا صون الأمانة والإخلاص في العمل، وهو الأمر الذي جعل مشغليه اليهود في إحدى أكبر مقاولات النقل السككي والبحري “روكوان وجاكيتي” يضعون كامل ثقتهم فيه، من خلال تكليفه بالقيام بدور “الوسيط التجاري” بينهم وبين سائقي الشاحنات. ولذلك كان يمضي وقتا غير يسير في فرز “البونات” وترتيبها حسب أسماء السائقين اعتمادا على ذاكرته. فكانت تلك أصعب لحظات أمضيها بجانبه، أنا التلميذ المبتدئ، وهو يملي علي بنطق يصعب فك شفراته أحيانا. وعلاوة على هذا الامتحان العسير كنت أجدني مجبرا على تلاوة صفحات من قصص “العنترية” و”سيف ذو اليزن” بينما هو ينتشي بهذا السرد البطولي الذي ينزل وبالا علي الرغم مما أسداه لي، لا شعوريا، من تمرس على اللغة العربية من ناحية وتنمية حسي الخيالي من ناحية أخرى. والحقيقة أني لصغر سني كنت أمتعظ من هذا الاعتقال القسري، خاصة عندما يطرق الباب أصدقاء الحي من أجل إتمام مجموعة فريق كرة القدم أو لعبة “دينيفري”.
لكني أجد نفسي اليوم سعيدا رغم تصرفاتي الصبيانية التي لم يكن بمقدورها استيعاب المجهود الذي كان يقوم به من أجل الحفاظ على عمله، والذي هو في ذات الحين ضمان عيش أسرة معوزة هو القائم عليها بحيث لم يفكر قط أن يدفعني، أنا أو إخوتي، للعمل بدل الدراسة، كما كان يفعل جل المهاجرين من البادية إلى المدينة. فقد كان يرى في ابنه العوض في تحقيق مالم يدركه من أبيه الذي تخلى عنه في “عام البون”.
في هذا الساق العام، أتذكر أن ولعي الشديد بصنف “البيبلوم” أو “دق السيف” الذي كان ينتج باستوديوهات “شينيشيتا” الإيطالية، والتي كانت تحتل صدارة العروض في عقد الخمسينيات والستينيات، خصوصا تلك التي يكون أحد أبطالها “ستيف ريفز” أو “كوردن سكوت” أو “براد هاريس” و“مارك فوريست” أو” فكتور ماتير”… دفعني إلى صنع سينما من صندوق كارتوني أقوم بتقطيع وسطه بشكل ثلاثي الأبعاد وأكسوه بورق الاستشفاف، الذي ألصق به صورا أكون قد هيأتها سلفا، ثم أحضر شمعة أستخدمها كجهاز عرض. وهكذا أجدني قد قمت بدور السيناريست والمنتج والمخرج والموضب. ,. غير أن ما يسائلني اليوم، بعد كل هذا الزمن، هو كيف كنت استجلب ريالا (خمسة فرنكات) ثمنا للدخول إلى “قاعة العرض” التي كانت مجرد مطبخ حولته لقاعة، والأدهى هو كيف كان أبناء الجيران يقبلون على فرجة فيها كل شيء إلا السينما. فإذا كان هذا الواقع يعبر من جهتي وجهة أبناء الجيران عن براءة الأطفال، فإنه من جهة الآباء لا يعدو أن يكون تكريسا لحبهم لنا جميعا آو بحثا عن خلوة في غيابنا.
وسوف لن تتحقق استقلاليتي عن أبي إلا في مرحلة “الإعدادي” بلغة اليوم، عندما انتقلت بعد نيلي شهادة الابتدائي إلى ثانوية الخوارزمي، وأصبحت إلى حد ما قادرا على الصمود في مجابهة غطرسة الأشداء من أبناء الحي وأصحاب السوق السوداء، الذين كانت تعج بهم شبابيك التذاكر. أما حين نلج الباب الرئيسي المؤدي إلى قاعة العرض نجد في استقبالنا “الشريف” المكلف بمراقبة التذاكر والذي يطالبنا بمقابل، وإن لم يجد يحتجزنا بعد بداية الشريط لمدة قد تطول أو تقصر حسب مزاجه، غير مبال بــاننا غالبا لا نحصل على تذكرة الدخول إلا بعدما نشبع رفسا وركلا من باعة السوق السوداء وهراوة من لمرود (أفراد القوات المساعدة) المكلفين بتنظيم الصفوف. أما خلال العرض، فتلك محنة أخرى يكون المسؤول عنها هو عارض الشريط، خصوصا حينما يتوقف العرض لعطب تقني أو لخدعة منه لينتقص من عدد اللفات (البوبينات) حتى يخلص من عمله في وقت مبكر أو يعرضها دون اهتمام بترتيبها، فتوقد الأضواء وتنفجر القاعة ضجيجا وشتما في شخصه الذي لا نعرف له شكلا أو هيأة (والقرع وا الشفار…)
اما عن نوعية الأفلام التي كنا نتهافت عليها فهي عموما أفلام الحركة وفي مقدمتهم افلام المغامرات البوليسية وأفلام الإثارة والكوميديا ثم الأفلام الغنائية والعاطفية، سواء كانت هندية أو مصرية، أي باختصار الأفلام المسماة تجارية. والحقيقة أنها أفلام طالما تماهينا مع أبطالها وأغانيها. فمن من أبناء جيلي لا يتذكر “دوستي” و“سانكام” و”الأم إنديا” و“منكالا “… ومن منا “لا يتذكر النجم “شامي كابور” و”ري كابور..” ومن منا لا يعرف ” ألان دولون ” و”كاري كوبر ” و”كيرك دوكلاس” و”برلاند كاستر…”
في منتصف الستينيات من القرن الماضي، شرعت أرتاد خزانة المركز الثقافي الفرنسي الكائن. وقتها في حي عين البرجة. هناك اكتشفت طريقة أخرى في مشاهدة واستيعاب السينما بفضل العروض الأسبوعية المقتبسة من أمهات الأعمال الأدبية مثل “تيريز ديسكيرو” لـ”فرانسوا مورياك ” وزوجة الخباز” لـ”مارسيل بانيول” و”الحسناء والوحش” لـ”جان كوكتو”. وسيكبر شغفي بالفن السابع الذي يختلف عن سينما حي يغلب عليه “النوع الوضيع” وعروض الأفلام الهندية، مع إحداث نادي العزائم السينمائي سنة 1974 الذي انخرطت فيه ثم أصبحت أحد منشطيه بعد فترة وجيزة، وهي نفس الفترة التي نسجت فيها علاقات صداقة مع المخرج سعد الشرايبي الذي اختير رئيسا للنادي وعبد القادر لقطع والأخوين الدرقاوي اللذين كانا قد أنهيا للتو دراستهما في بولونيا، ومحمد الركاب الذي اكتسبت منه مبادئ التقنية السينمائية وأنماط تعبيراتها، حيث كان أحد مؤطري النقاش الذي ظل ملتزما بحدود القراءة الفيلمية.
والواقع أنها محطة مفصلية في تراكم معلوماتي حول السينما ومدارسها، وحول كبار المخرجين الذين لا نجد لهم أثرا في القاعات التجارية. وقتها اكتشفت “أندري تاركوفسكي” و”فريديريكو فلليني” و”جان لوك كودار” و”فرانسوا تريفو” و” كينجي ميزوكوتشي” و”أورسن ويلز” و”جون فورد” و”توفيق صالح” و”يوسف شاهين” و”صلاح أبوسيف” و”برهان علوية” وغيرهم. وكما هو معلوم لدى رواد الأندية، فقد كانت النقاشات التي تتلو العرض هي اللحظة التي يتمرس فيها المتدخلون على قواعد اللغة السينمائية، ولو أن هذه النقاشات غالبا ما تنحرف عن مسارها لتتحول إلى خطابات نضالية في السياسة وانتقاد السلطة الرأسمالية، خاصة في تلك الظروف المقترنة بمخلفات سنوات الجمر والرصاص، ليدفع ثمنها غاليا بعض النشطاء المسيسين الذين انتهى المطاف ببعضهم في ردهات السجون.
وقد شهدت هذه الحقبة أيضا كثافة في الخطاب السينمائي التحليلي والنقدي، خاصة على أموج إذاعات الرباط وطنجة والدار البيضاء ومراكش. وقد كان الفقيد نور الدين الصايل، باعتباره رئيسا للجامعة الوطنية للأندية السينمائية، هو الفاعل المركزي في هذا الإطار، إذ كانت برامجه وخصوصا الشاشة السوداء الذي يستغرق ساعتين على أمواج إذاعة البريهي بالقسم الفرنسي، تحظى باهتمام كبير في الوسط الثقافي عموما والسينمائي بالتحديد، بل تخطى هذا الاهتمام حدود المغرب وجر عليه وبال السلطة بسبب مضمون إحدى حلقات البرنامج الحوارية، إلى حد استدعاءه واستنطاقه من طرف الشرطة طوال ليلة كاملة، كما روى لي المرحوم خالد الجامعي عندما كنت أساهم معه في إعداد عمود أسبوعي على صفحات جريدة “المستقل”. كذلك كانت إذاعة طنجة تبث برنامجا حواريا من تنشيط خليل الدمون يأخذ مني أحيانا وقتا طويلا عبر الهاتف، ولا أجد له من مخرج سوى الإغفاء لبرهة ريثما يصل دوري في المداخلة. ونظرا للعلاقة الوطيدة التي جمعتني مع المرحوم الركاب فقد استدعيت، مباشرة بعد مواراته الترى سنة 1990، في برنامج “الخشبة” الذي كانت تبته إذاعة الدار البيضاء، استحضرت فيه مع صاحب البرنامج خصاله وتفانيه في العمل السينمائي رغم حالته الصحية المتهالكة حينئذ.
خلال سنوات الثمانينيات، توطدت علاقتي بمحمد بهجاحي وحسن نجمي اللذين كنت أتردد عليهما بمقر جريدة الاتحاد الاشتراكي حينما كانا يشتغلان بها، نظرا لقربه من مسكني آنذاك بحي بلفدير. اقترحا علي المساهمة في الملحق الثقافي والصفحة السينمائية التي كان يشرف عليها عبد الكريم الأمراني. بعدها استمرت مساهماتي في عدد من المنابر الورقية كـ”البيان” و”ليبراسيون” و”أنفاس”… والإلكترونية خاصة “السؤال الآن” لصاحبها ذي الذاكرة المتقدة الأخ عبد الرحيم التوراني، ثم في مجلات مختلفة وبالأخص “دراسات سينمائية” التي تصدرها الجامعة الوطنية للأندية السينمائية، والتي التحقت بعد ذلك بهيأة تحريرها. وقد كان آيت عمر المختار، الكاتب العام للجمعية، هو العمود الفقري لإنجازها بدءا بتجميع المقالات إلى إصدارها مرورا بتنقيحها وتصفيفها وطبعها ثم وضعها لدى شركة التوزيع. فكان يزورني قادما من القنيطرة إلى الدار البيضاء، ويطلعني على محتوياتها قبل طبعها.
وقد اقترنت هذه المرحلة بتكوين تيارين بارزين في الممارسة النقدية: تيار متأثر بالمدرسة المصرية يطغى عليه بالأساس الجانب السردي في تحليل فيلم، وهو الذي استأثر بصديقي العزيز المرحوم مصطفي المسناوي رغم إلمامه بقراءة النصوص الفرنسية، وتيار “فرنكفوني” تطبعه القراءة الفيلمية لمجلتي “دفاتر السينما” تحت رئاسة سيرج داني الذي كان له كبير الأثر على مساري النقدي و”بوزيتيف” التي آسسها المؤرخ ” برنار شاردير” سنة 1952 والتي عملت على منافسة الأولى إيديولوجيا. وقد ظل ميشيل سيمون مديرا للنشر بها حتى وفاته في 13 نونبر 2023.
وحوالي منتصف الثمانينيات حينما أصبح المرحوم نور الدين الصايل مديرا للبرمجة في القناة الثانية، طلب منا أنا ومحمد قاوتي وادريس شويكة، بحكم الثقة التي كان يوليها لنا، أن نهيئ برامج ثقافية حول السينما والمسرح. وقد اشتغلنا برفقته بكل تفاني واستصدرنا تصورا عاما عن مضمون المواد، والكيفية الني يتم بها تقديم هذه البرامج ومدتها التي كانت غايتها نخصيص أمسية كاملة للسينما والمسرح على القناة الثانية. فاقترحنا “زوايا” فيما يخص السينما، و”مقامات” فيما يتعلق بالمسرح، وهو البرنامج الذي أشرف على إعداده وتقديمه الأخ محمد قاوتي. لكن لأسباب لا زلت أجهل خلفياتها تم الاستغناء عن نورالدين الصايل، فتوقف المشروع باستثناء “مقامات” الذي استمر إلى حين. وبعد ذلك حولنا وجهتنا باقتراح من إدريس شويكة نحو نشر مجلة للفنون، ستصبح هي “فيزيون”، التي توقفت بدورها لأسباب مادية بعد صدور أعداد محدودة منها.
في سنة 2002 تم تعييني رئيسا للجنة تحكيم النقاد بالمهرجان الوطني، قبل أن توكل إلي عضوية لجنة تحكيم الدورة العاشرة للفيلم العربي بمهرجان “فاميك” بفرنسا والمهرجان الدولي لفيلم البيئة بالقيروان بدعوة من صديقي وزميلي المحجوب الهيبة، الذي كان يشغل آنذاك منصب الآمين العام للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. بعدها تلتها مشاركتي سنة 2008 في ندوة حول السينما وحقوق الانسان بجامعة بيروت، كما شاركت في عضوية لجنة تحكيم المهرجان الدولي للسينما الاسيوية بنيودلهي. وأتذكر أنه خلال تنصيبي سنة 2009 رئيسا لجمعية نقاد السينما اعترضتني بعض العراقيل العملية، بفعل دسائس من بعض الأعضاء الذين ربما أحسوا بنوع من المضايقة، وهي السنة التي تم فيها تعييني، باقتراح من وزير الاتصال آنذاك المرحوم خلد الناصري، رئيسا للجنة دعم الإنتاج السينمائي.
ولا يفوتني في هذا الصدد أن أسجل ما فعله المخرج المتميز والمثقف عبد القادر لقطع بحوار مصور في فيلمه الوثائقي عن تاريخ وواقع السينما المغربية بعنوان “بين عشق وتردد”، كما شرفني الأخ سعد الشرايبي رفقة المرحوم محمد سكري وثلة من المثقفين، بلقطة تكريمية في نهاية فيلمه “نساء في المرايا”.
وقد توج مساري بتعييني من طرف صاحب الجلالة محمد السادس سنة 2011، عضوا بالهيأة العليا للاتصال السمعي البصري، والتي كانت تجربة غنية ومفيدة، بحكم تواجد طاقم إداري وتقني ذي كفاءة عالية.