غاستون باشلار: أمبادوقليس (4-5)
ترجمة: سعيد بوخليط
أشار لويس بونيرو، بين فقرات دراسته عن ماثيو أرنولد، إلى وجود مقاربات كُتَّاب آخرين دَبَّجوا أعمالا مسرحية حول موت أمبادوقليس.
هل ينبغي التَّذكير بأنَّ مشروع كتابة نصٍّ درامي حول مصير أمبادوقليس، استحضره باستمرار ذهن نيتشه؟ بحيث تصوَّر كتابه ”ولادة الفلسفة خلال حقبة التراجيدية الإغريقية”، ثلاث مخطَّطات:
الأول سنة 1870، حقبة الحرب الفرنسية-الألمانية.
الثانية سنة 1871، إبَّان فصل الربيع .
انطوت الأولى على أربعة فصول، بينما تضمَّنت الثانية خمسة فصول.
غير أنَّ تصوُّر مخطَّطٍ جديد أحدث تقريبا تغييرا على سابقه، لامس بعض مشاهد المسودَّة. لكن للأسف لم يتحقَّق فعليا مشروع العمل الأصلي.
أعاد نيتشه تعقُّب خطى أمبادوقليس: “بدا له هدف وجوده أن يتدارك الأوجاع النَّاجمة عن الكراهية، وإعلانه وسط عالم الكراهية عن فكر يتَّسم بانسجامه ويبثّ في كل مكان ترياقا ضد الألم، الصادر عن الكراهية. إنَّه يكابد الحياة بين أحضان عالم الأوجاع والتَّضارب؛ ولايمكنه تفسير وجوده سوى نتاج خطأ؛مما دفعه خلال حقبة غير معلومة، إلى اقتراف جريمة، وقتل عمد، وكذا الحنث باليمين”(11) .
تجلَّى حضور امرأة سواء مع مشروع المخطَّط الأول أو الثاني. بداية، لم تحمل اسما معينا، إنَّها ”امرأة، رمز للطبيعة”، ثم صار لها اسم”كورين” عبر فصول المسودة الثانية. أما باقي شخصيات صفحات هذه المسودَّة، فهي كثيرة جدا. تمتلك وزن حياة الأبطال المركَّبَة.
بغض النظر عن اللَّغو الذي ساد المشاهد الأولى، ستقدِّم لنا شذرة مثلما أرادها القصد النهائي، مشهدا عظيما، يمكنني القول عنه، بأنَّه مشهد ظلَّ عائما ضمن مخططات الكاتب. انزاحت طموحاته ككاتب مسرحي عن وجهة كلامه. سنة 1870، اختزل المشهد الأخير بما يلي: ”بجوار معبد الإله بَّان (Pan)”، فقد ”توفيَّ بَّان (Pan) الكبير”، يجتمع القوم حول فوهة البركان. أعلن أمبادوقليس، قبل اختفائه وقد أصلبه الجنون، حقيقة الانبعاث. مات صديق رفقته”.
حين العودة إلى نسخة أكثر تطوُّرا، نلاحظ بداية المشهد الخامس على شكل حفل ليلييٍّ: ”خطاب روحي حول الرحمة. تدمير لغريزة الحياة. موت الإله بَّان pan، فرار القوم”. كورين رفقة أمبادوقليس. تنبعث مقذوفتا حِمَم من فوهة البركان: ”استحال عليهما الهروب من براثن ذلك. أحسَّ أمبادوقليس بأنَّه قاتل، يستحقُّ عقابا، يتطلَّع نحو ولادة أخرى بعد موت مثل له تعويضا. حافز دفعه نحو إتنا، راغبا في إنقاذ كورين، لكنَّهما صُرِعا معا. ”فهل تخلَّى ديونيزوس عن أريادني؟”.
سمحتُ لنفسي بالإحالة على نموذج استشهادات قصد تمكُّنِ القارئ من تقييم السِّجال. ألا توفِّر هذه النصوص دليلا عن استحالة الارتقاء بالأداة المسرحية غاية المشهد النهائي؟.
هل تعتبر نفس الدراما من انتهت ببلوغ الجنون كالتي هيَّأها إحساس بالنَّدم جراء اقتراف خطأ؟ هل ألقى أمبادوقليس بنفسه وسط النِّيران؟ أم جرفته الحِمَم البركانية المندفعة بكيفية أسرع من هروب امرأة ورجل؟ ثم لهيب الحِمَم، أيّ انحدار بالنسبة لخيال موصول بفضاء الكون!
لكن نيتشه لم يكتب نشيدا نهائيا. كان بوسع عبقريته الشعرية التغلُّب على التناقضات النفسية لحياة ماقبل – البطولة. أمكنه بالصورة السيطرة على عقدة أمبادوقليس لديه .سأظهر لاحقا قوَّة هذه العقدة.
حسب اعتقادي، يعفيني إخفاق الشعراء الثلاثة الكبار، هولدرلين، ماثيو أرنولد، نيتشه، من ضرورة الرجوع إلى مضامين الأعمال الثانوية. أعتبر هاته الإخفاقات بمثابة دلائل عن قصور التفسير النفسي. فالعِلَّة النفسية لاتفسِّر القصائد، بل يلزم السعي نحو تناول تأويل غنائي، وعلى مستوى الصورة.
نكون حيال ارتماء أمبادوقليس وسط إتنا، أمام فعل/ صورة، ثم صورة/ فعل، بحيث يمكننا تناول تأثيرها لدى كل روح تتخيَّل، مع كل فكر يضاعف الحقيقة بصور مهيمنة.
سأحاول، أن أتناول قليلا عن كثب هذه التصرُّفات/ الصور، وهذه الصور/ التصرُّفات، حتى لو أمكنني اقتفاء كل الانعكاسات التي تضفي دينامية بشكل مضاعف على النفسية التي تتخيَّل.
عند التَّموقع حاليا أمام الحياة المتخيَّلة، حياة تغدو شعرية بالنسبة لحالم يستعيد حياة الأفعال الدراماتيكية، لا ينبغي نسيان أيّ شيء: يرتمي أمبادوقليس وسط فوهة إتنا.
القفز وسط النِّيران،
القفز وسط البحر،
القفز وسط الهوَّة،
بالتالي، يعكس الاستسلام وفق فعل واحد، إلى النار، الماء، الجاذبية، الإمساك بإرادة خلال لحظة يتوخى إبَّانها الوجود الانقياد بكل إرادته، نحو اللا-إرادة. في نظر التناقض، يمثِّل الوجود والعدم متناقضين مجرَّدين: أريد ولايمكنني قط إبداء المحاولة.
من خلال كل هذه الأفعال التي لانبادر إليها أبدا، يستطيع الشعراء أن يخلقوا منها قصائد، بحيث يلقون أنفسهم وسط الصورة.
ينمُّ الارتماء وسط صورة كونية، انتماء إلى سلطة الشعري الأكثر شمولية. يتوقَّف انسياب الأفكار حين سيادة الصورة، ونختزل بها العالم. تسود الصورة كلّ شيء: التجربة والعقل.
لاحظتُ فعليا وأنا أبذل مجهودا، عبر مختلف فصول كتبي حول الخيال قصد مضاعفة التيمات الميتافيزيقية المجرَّدة بواسطة صور حسيَّة، بأنَّ قدرة الصورة على تحقيق فارق دقيق بلور إمكانية تجسيد موضوعة الفلاسفة الذي تكلَّموا عن ”انفتاح العالم”، وكذا كينونة الإنسان كـ”كائن مُلْقى به”، وسط العالم. يزيل الفلاسفة الطَّابع الحسِّي عن الكلمات قصد تيقُّنهم من كونهم يتأمَّلون. عملية تأخذ منحى معاكسا مع سلطة الشعري: يدثِّر الشاعر الكلمات بصور، تتآكل قليلا دونها. أليس الارتماء وسط صورة كونية، انفتاحا على العالم،ثم افتتاحا لهذا العالم؟ تتضَخَّم صورة نتماهى معها بكيفية تامة، وتصبح نواة العالم.
لكن موضوعة ”القذف بالإنسان إلى العالم” غير ملموسة مبدئيا سوى ضمن الوصفات التي تستبدل العالم بأحد عناصره المهيمِنة. يظلُّ الفيلسوف أمام العالم عبر التأمُّل الفلسفي. بينما، يلقي الفعل الشعري بالحالم وجهة عالم معين.
تحديدا، يمنح فعل أمبادوقليس دلالة شعرية تتجاوز التأمُّل. نادرة هي مسؤولية الصور الأدبية، بخصوص اندفاع الكائن برمَّته وسط اللهيب، ثم الانتقال من التأمُّل إلى المشاركة. غير أنَّه بوسعنا مع كل صورة لأمبادوقليس، اكتشاف مؤشِّر إغواء. تغوينا هنا الموت بشكل عملي، موت كليّ، وفق دلائل، في إطار الصورة ومن خلالها.
لكن إغواء الموت نحو النار، باستمرار متحكَّم فيه. بالتالي، هو إغواء رفيع، موسوم بدمغة الخيال الجميلة. نحياه دون مجازفة عند الحلم بأسطورة أمبادوقليس.
بينما تترك الدَّوخة أمام الهوَّة آثارا مؤلمة داخل كل نفسية، صارت دوخة أمبادوقليس المرهفة أمام شعرية النار دوخة قراءة. نقرأ أسطورة أمبادوقليس دون الشعور بالارتجاف.
سأحاول تناول هذا الدُّوَار المسيطَرِ عليه، دوخة قارئ، ضمن حيثيات وقائع صغيرة لصور نصادفها. هنا، في الأدب، تربط ازدواجية بدقَّة المازوشية والسادية، تختبر حينها القيم السادية والمازوشية انقلابات لانهائية. حيال صورة من صور أمبادوقليس، ينتفي اليقين التَّام، بأنَّ الكاتب ألقى بنفسه وسط اللهيب صحبة بطله. يراقب، وفي غضون ذلك، يدفع قليلا البطل وجهة اللهيب. يبرز السادية بواسطة الصورة، ويلقي بالفيلسوف وسط الفوهة. فأن تشارك ثم قول فلنشارك، تكمن فقط مستويات وانعكاسات! الأدب عالم، بينما تسود السلطة الشعرية عالما.
حين تبنِّي الموقف البسيط للتعبير الأدبي، بوسعنا التأكيد بأنِّ أمبادوقليس قُطْب تلميحات قويٍّ، يجتذب تلميحات بعيدة تصبح ملموسة بمجرَّد الحلم قليلا ونحن نقرأ. بالنسبة للذين حلموا كثيرا بأمبادوقليس، ستبدو لهم شعلة شمعة بركان إتنا بالنسبة لِذُبابة .تسلك الصور الصغيرة سبيل تلك الكبيرة، فالخيال يضخِّمُ كل شيء.
يؤسِّسُ هذا التقارب تآلفا بين التَّدمير واللامعنى. بالتالي لم تكن الحياة شيئا يُذْكر، مادام أنِّها مع شعلة بسيطة بوسعها تدمير ذاتها. لكن، سيصادف الاندثار-انقلاب القيم- وسط الشهب، نارا جسَّدت اللاشيء الخاص به، يخبرنا المجد الإنساني. لنتذكَّر عبارة غوته: ”أريد مدح الكائن الحيِّ الذي يتطلَّع نحو الموت بين طيات شعلة”.
حينما يقترح كاتب معين الكتابة حول النار، يحلم ضمن أبعد مدى يأخذه مصيره، على منوال مصير لأمبادوقليس. هنا تحديدا كناية ضمنية على صورة أمبادوقليس.
سنة 1906، كتب بول كلوديل إلى صديقه غابريل فريزو، رغبته في كتابة سلسلة حكايات درامية حول الفاكهة بعد سلسلته عن الشجرة: ”بعد الفاكهة، سأكتب عن النار التي ستكون إذا أراد الله، محرقة لتأبيني”. بالتالي تتوخَّى نهاية العمل ”نهاية للحياة” (12).
تجري نهاية عمل وحياة ضمن نفس ضياء مصير أمبادوقليس. لقد عثرت حياة كلوديل على مصير آخر. لكن ينبغي الانتباه إلى الصورة العابرة المنسابة من الفاكهة غاية النار على شاكلة ”أمبادوقليس ضمني” في تشكيلة صورنا عن النار.
أحيانا فيما وراء معارضة صورة أمبادوقليس، جراء تناقضات، يمكننا العثور ثانية على سبيل للانجذاب إليها. لا يتحقَّق إغواء الارتماء في حضن النار. نتردَّد من الوهلة الأولى أمام أدنى احتراق. نحتمي مبدئيا ضدَّ الحرارة الساخنة جدا. تتيح لنا هذه الآليات الدفاعية الفيزيولوجية إمكانية التمتُّع بأمان تامٍّ بإغراءات أمبادوقليس.
أخيرا، يحيل أمبادوقليس على واحدة من هذه الصور النادرة التي لم تخلِّف قط ضحيَّة. هكذا، تتبدَّى عقدة أمبادوقليس من خلال عقدة متكيِّفة بوسعها الانتعاش مع كل عنف ضمن سيادة الشعري.
هامش:
Gaston Bachelard :Fragments d une poétique du feu (1988).PP :151-151.
(11) ترجمة جنيفييف بيانكيس، غاليمار 1936،ص 143 -155
(12)هنري موندور: ”كلوديل أكثر حميمة”، غاليمار، 1960، ص 70 .