غاستون باشلار: أمبادوقليس (5-5)

غاستون باشلار: أمبادوقليس (5-5)

  ترجمة: سعيد بوخليط 

       بدون شكٍّ،لم أبرز بما يكفي، ضمن صفحات دراستي السابقة المعنونة بـ”التحليل النفسي للنار”، الصبغة الدَّقيقة التي تفصل المعطى الحسِّي في الحياة الواقعية عن الحياة المتخيَّلة، الخيالية، الوهمية.

تسمح لنا عقدة أمبادوقليس المتحوِّلة كي نضفي منحى دراميا على تأمُّلاتنا الشَّاردة أمام النار، والإفراط فيه.نلج بفضل خيال مفرط مملكة الشِّعري، ونقرأ الشُّعراء وفق مرجعية ديناميكية.

يؤدِّي حضور الشعراء إلى إحياء عُقَد عزلتنا. عندما يقرأ القارئ قصائد حول موت أمبادوقليس، يصير بطلا منعزلا،مثلما الشَّأن مع هذا الشاعر:

إذا لم يكبحني العشق، أريد اقتفاء

أثر هذا البطل وسط الحفرة(21)

لم يهتم قط المحلل النفسي بهذه العُقَد المحيلة على العزلة أو على الأقل، إن صادف آثارا لها،سيبحث لها عن تعليلات اجتماعية، عائلية، ومنزلية. إذا لم يسترع قط مقطعي هولدرلين، انتباه المحلل النفسي، سيجيب الأخير الشاعر بقوله: “عشق يكبحكَ، بالتالي أنت ترغب في الفرار. تحيطكَ حبيبتكَ بالسعادة، تحلم إذن بالموت. تعشقها بعمق، أنت إذن أمبادوقليسي، تضمر شيئا من البغض. فجعلت نيرانا متناقضة تتأجَّج”.

يتجلَّى أكبر درس فلسفي بلوره أمبادوقليس في إقراره بتآلف حميمي راسخ بين الحبِّ والكراهية، لذلك يعتبر رائد فلسفة التَّعارض، بحيث أدرج الحبَّ والكراهية ضمن نظام الكون. فكيف لا ينطوي قلب الإنسان على هذا التعارض؟ كيف لايتضمَّنه بدوره وجود عنصر النار، هذا العنصر الديناميكي الخارق؟ النار طيِّبة وشرِّيرة، إنَّها إله حقا.

هذا يحيلنا على سيادة الصور، وفق نفس دينامية إسراف الصورة. تأخذ عقدة أمبادوقليس أبعادا متحوِّلة بين طيات السيَّادة الشعرية، فتخلق داخلنا تحوُّلات بشكل أو آخر. نستعيد عزلتنا الموصولة بالقراءة، مما يتيح إمكانية التخلُّص من استقصاءات المحلل النفسي الاجتماعية. بوسعنا أن نعيش الشعري دون استحضار للواقعي التابع. مثلما قال جنيفييف بيانكيس: ”لايهم كونها لحظات عابرة إذا حظيت بالخلود”(22). عندما تتمُّ عقدة أمبادوقليس من خلال قصيدة شعرية، تجعلنا نحيا لحظة الموت المجازي الخالدة وسط فضاء الكون.  

جرَّاء مناسبات من هذا القبيل نتبيَّن الشعري حسب هيمنته النفسية. نتيقَّن أكثر في خضمِّ هيمنة الشعري بأنَّنا نستبعد تصميما التأويل النفسي، ونقدِّم علاجا لذواتنا بخصوص ماسمَّاه نيتشه فيما أظن بـ”وباء السيرة الذاتية”.

تسترخي هذه العقدة المتخيَّلة، وتعثر على هدوئها بين صفحات أعمال،أو بالأحرى عمل واحد. نتواجد حقا ضمن نواة البحث على مستوى النشاط الأدبي، في مجال محدَّد يتعلق بشعرية النار. كيف ستغدو الحياة المتخيَّلة التي عاشها نيتشه لو استطاعت في نهاية المطاف خلق أمبادوقليس خاص بها؟

نصادف ثانية إغواء أمبادوقليس حتى ضمن  الصفحات الحانقة والمعاكسة لمنحى أمبادوقليس في كتاب نيتشه ”هكذا تكلَّم زرادشت”. حينما أهان الشُّعل النارية، فقد عظّمَ شأنها، ثم تكبح كل صورة مضادة لأمبادوقليس على نحو سيّئٍ، أمجاد مصير إتنا. تنتمي أشكال العنف المعاكسة، الواحد كالأخرى، إلى نفس السلطة.

لنستمع إلى شتائم نيتشه بصدد البركان، بركان وسط البحر : ”غير بعيد عن جزر زرادشت السعيدة ”: 

أناديك صارخا، كي تخرج من فجوتك يا كلب النار!

وأخبرني عن قياس فجوتك. من أين تأتَّى ماتلْفِظُهُ؟

تشرب بغزارة من البحر… حقا، يُلتمس من كلب ينتمي إلى الفجوة كثيرا من العناصر نحو السطح.

لا أرى فيكَ، على الأكثر، سوى متكلّمٍ من بطن الأرض.

مجرَّد عبارة متكلّمٍ من بطن الأرض تنمُّ عن سخرية حيال كل هدير الأرض، ومختلف صخب البركان المرعب. من يسخر بهذه الطريقة يتسامى فوق تلك المخاوف الطفولية. إنَّه إنسان، إنسان/أعلى،قياسا إلى بشر/أطفال يرتابون من الكلب الذي يعيش داخل الفجوة.

يخاطب نيتشه أيضا، شياطين البركان :

لقد أغضبتم  وطمستم هواء الرَّماد.

وأنتم أفضل الصارخين واستوعبتم جيدا فنَّ طهي الوحَلِ (23).  

أن تهيِّئ هذه الشتائم اقتباسا ضدَّ المحرِّضين الثوريين الحاليين لا يغير شيئا من القضية.إذا أراد الكاتب مقارنة اضطرابات مجتمع معيَّن ثم نكبات عالم تحت أرضي، فإنَّه بصدد تضييع وقته وكذا وقت القارئ. وحدها الصورة حقيقية، وحده البركان يمتلك ديناميكية حقيقية.

تمثِّل الحياة الفعلية لصورة نيتشه، حياة الصور ذاتها.لكنه هنا انساق خلف صور مفرطة، جعلته يتلفَّظ عبارات ملتهبة. عبارات ساخطة، صادرة، ليس إبَّان جلسة، بل أمام بركان إتنا يتخيَّله شخص أمبادوقليسي ثائر يعتقد وهو يتكلم بقوة إعلان رفضه إغواء العدم.

لكن، نيتشه خلال إهانته البركان، فقد انتمى إليه أيضا. وقد اعترف من خلال قصيدة أخرى بهويته الخاصَّة المتعلِّقة بالشعلة النَّارية:

نعم، أعرف موطني!

ألتهم مثل شعلة،

أحترق و أستنزف.

أستمدُّ نورا فقط،

أخلِّف فحما فقط:

حقّا، أنا شعلة(24)

غير أنَّ الفيلسوف، ليس مجرَّد شعلة موقد ملتهب،لكنه لهيب بركان:

نار ملتهِمة، هكذا حياتي؛ وسيعيش لفترة أطول من الضحيَّة دخَّان محرقته المقدَّس. تطير غيمته المعطَّرة بعيدا، فوق البحر(25).

كيف لا نحسُّ مع ارتدادات هذه المقاطع بأنَّ مصير أمبادوقليس يستمرُّ حيَّا ضمن رؤى فيلسوف(26)؟ دخَّان طفيف، سحابة معطَّرة تسود البحر، هكذا اكتمل أمبادوقليس. لم يسرد لنا نيتشه الحكاية، بل طرح كلَّ شيء بلغة صوره المهيمنة. تكفي الصور لأنها عظيمة. تمتدُّ الصور بالإنسان غاية حجم العالم. شعرية النار في غير حاجة إلى سرديات. ليس السرد غير خيط قلادة.لا نهتم بذلك قط، حينما يطوينا اندهاش النار، وأنت تنتقل من تحفة صوب أخرى.

أحيانا يكون اندفاع النار، قد بدأ توقُّده داخل الجسد. لأنَّ الإنسان مشعل حيٌّ. أشارت الصفحة الأولى، من الكتاب الكبير لـ روني شار: ”البحث عن القاعدة والقِمَّة”، إلى حرارة مَحْطَبَة طبيعية، وكذا صورة أمبادوقليسية حميمة. قد نحترق، تخبرنا القصيدة: “تحترق حيّا بنار، فأنت صنوٌ لها”.

يحترق هنا أمبادوقليس قبل القفزة النهائية.يأتي الفيلسوف مسكونا بحلمه الكبير وجهة الاحتراق، فمنح بهذا نفسه للبركان قصد مساعدته. يلزم تأمُّل التالي: ”إذا أسرعتُ نحو لهيب النيران، تهيِّج حرارتي الخاصة الموقد. سنحترق معا، وسط حياة النار المبهرة”. يغدو الحارق والحريق، معطى واحدا. بفضل وقود الاختيار،ي طهِّر الفيلسوف العالم من النَّار المبتذلة، كي يمنحها قيمة. بيد أنَّ صور النار قد أضفت سلفا الحياة على الوظيفة التطهيرية.

يستمر تأجيج كلِّ الشعراء والحالمين النار تحت الجبل. يعيشون البركان، ويمنحونه مصيرا. تفتقد شعرية البركان، شيئا معينا، في حالة عدم عثور دراما أمبادوقليس الحميمة على مجدها عند قمة جبل إتنا.

خلف إشارة روني شار الذي يحسُّ داخل كيانه بنار معادلة لنار اللهيب وتتجاوز شُعَل الأخير، مما يجعلنا نتكلَّم عن موقد باطني، متوخَّى، مقصود، بغية إطفاء بالنار، لتلك النيران الساكنة دواخلنا. هكذا، تجلَّى كنه الهديَّة المسمومة للقنطور نيسوس، عبر الرِّداء الذي أضرم النار في جسد هيراقليس. ينبغي إسقاط اللهيب الإنساني على شعلة الموقد.

ليست محرقة هيراقليس بمحرقة أرامل، بل ترنو صوب المابعدي مادامت تحرق ماضيا. يهزم حضور الصورة كل تاريخ وأسطورة وثقافة.

هل يمكن نسيان صورة التهام جسد هيراقليس نتيجة تلك الهدية؟ هل يعبِّر ذلك الرِّداء عن ندمٍ يتحسَّر، حريق يحرق ثانية ثم سيحرق دائما؟ لماذا صورة من هذا النوع بمثابة صورة أخلاقية تظلُّ سارية حتى ولو امتلكنا بخصوص الأسطورة ذكرى ضعيفة وملتبسة؟ تداول عبارة ”ذكرى دافئة” بلا تحليل و لا صورة. على الأقل طرح الصورة، يجعلها حيَّة ضمن الصور. بالتالي، يضمر كل إنسان محرقته السريَّة.

لكن، وجب التَّذكير، بأنَّ مجمل حياة هيراقليس ”مجد هواء”، بمثابة نار نابضة بالحياة”: ”تختمر طبيعته الشمسية القديمة بكيفية خافتة بين طيَّات الشكل الإنساني”، يكتب بول سان فيكتور(27). تعكس مختلف تصرُّفاته غضبا، تمجيدا لغضبه، وإثراء لكيانه بنيران غاضبة.

يضيف بول سان فيكتور: ”يقال بأنَّ الوحوش التي سحقها انتقمت منه باحتوائها لوجوده. فأسد نيميا، الذي ارتدى فروه، اتضح بعد أن دثَّر رأسه برأس الخنزير  إريمانثوس قد تقمَّصه وأضحى يعيش داخله من جديد بكيفية شرسة”. الأسد، كائن شمسيٌّ، يمدُّ البطل الشمسيَّ بفعالية نيرانه. تكمن النار عند أصل مختلف انتصارات هيراقليس، ويلزمها أن تكون موطن موته.

محرقته بمثابة إكمال لحريق بركان غضبه. تستحضر ريشة بول سان فيكتور، كلمة البركان: ”ينفجر بركان الألم الذي تخمَّر لديه، يخرج شتائم مثيرة، وكذا نداءات تناشد الصاعقة” (28). كي تواصل عاصفة غضبه.   

يستعيد سان فيكتور: ”أسطورة هيرقل الشمسيّ الذي شَكَّلت منجزاته الاثنتي عشر، سمات اثني عشر أيضا تتعلق بالسماء. تنبثق صورة رائعة نحو الفكر، تلك المتعلقة بجسم برجيٍّ ترصِّعه وحوش تبلغ عنان السماء”، ثم يستخلص: ”بمجرَّد استهلاك المحرقة عند قمَّة جبل أويتا، سينطلق هيراقليس الذي تغيَّرت هيأته وسط إعصار مشرق، نحو جيل الأوليمب، ثم جلس ملتهبا نارا، وسط الآلهة”. حتما مختلف هاته الصور خطابية، لا تفسر شيئا(29). لكن يجدر بها، أن تجد مكانا ضمن مجال النار. صور ترتقي بالفكر غاية المتخيَّل.

لقد اشتغل جيل بأكمله من علماء الأساطير على ربط مصير الإنسان بوقائع السماء(30). يتشكَّل بين التحليل النفسي للأبطال وكذا الفضاء الكوني للسماء، حقل مجازات فائقة. تجلَّت التأمُّلات الشاردة الكونية، بطريقة ما، عن طريق بشر أسطوريين. عندما يكون الحلم عظيما، يكبر الإنسان بحجم مقدار العالم. يتيح قاموس مهتَمٍّ بالتفاصيل، إمكانية الانتقال من الدلالة النفسية إلى الأسطورية أو عكس ذلك.

عند تحليل الأسطورة ضمن جدلية لغة تُؤَنْسِن وأخرى تنزع نحو الفضاء الكوني، يمكننا حينها استيعاب الإنساني والكوني خلال الوقت نفسه، أو بالأحرى تخيُّلهما مرَّتين: احتراق  هيراقليس شمس تغرب.

       هامش:

Gaston Bachelard :Fragments d une poétique du feu (1988).PP :158-167 

(21) هولدرلين: ترجمة جينيفييف بيانكيس، 1943، ص 156- 157، وعنوان القصيدة ”أمبادوقليس”.

(22) نفسه ص 14

 (23) ترجمة أرمون كينو: فريدريك نيتشه، صفحات صوفية، روبير لافون 1945، ص139 -140 .

(24) صفحات صوفية، ص 92 -93 . كتبت هذه القصيدة في مدينة جنوا (إيطاليا)، خلال فصل شتاء سنة 1881- 1882، ثم صدرت تحت عنوان”هكذا الإنسان”، بين دِفَّتَي كتاب نيتشه ”العلم المرح”.

(25) كتبت هذه الشذرة خلال نفس الحقبة، لكن لم يتضمَّنها  ”العلم المرح”.

(26) قد يفاجئنا عدم تركيز اهتمام غاستون باشلار في ترجمة أرمون كينو لنيتشه، حول قصيدة كتبت سنة 1883، ثم صدرت سنة 1888، ضمن المجموعة الشعرية “قصائد حماسية لديونيزوس”، تحت عنوان ”رغبة أسمى”. قصيدة أبرزت عبقرية نيتشه القادرة على الاقتضاب بحيث اختصر ماهية ديونيزيوس في كلمتين ”النصر، والاكتساح”، ماهية ديونيزوس- أمبادوقليس. توقَّفت خلال فترة قراءة غاستون باشلار لكتاب كينو ،ثم استأنفها ثانية بعد ذلك. بالتالي، انطوت شهادته عن قراءة هادئة، فوضع عدَّة علامات هامشية غاية الصفحة144، بينما أخذت قراءة الصفحات التالية وتيرة عادية (سوزان باشلار).

تقول مقاطع قصيدة نيتشه ”رغبة أسمى”مثلما تضمَّنتها ترجمة أرمون كينو: 

” الموت،

مثلما رأيتُه يموت، 

صديق، أضاء ظلمة شبابي، بومضات ونظرات إلهية:

مَرِحٌ وعميق،

رَاقِصٌ خلال المعركة،

أكثر المحاربين ابتهاجا،

أكثر المنتصرين صرامة،

يهيِّئ مصيرا، فوق مصيره،

صلب، متأمِّل، مُتَّجه وجهة المستقبل،

يرتجف انتصارا،

مُنْشَرِحٌ أمام الموت في سبيل الانتصار،

حَوَّلَ موته إلى قرار

قرار التدمير

الموت مثلما رأيته يموت: منتصِرا، مُدَمِّرا”

(27) بول سان فيكتور: القناعان، 1881-1883، ص.70

(28) نفسه ص .81

(29) اقتضى الوضع من محرقة هيراقليس استثمار شُعَل كبيرة. لم يكن لديه الوقت كي يمارس تدميرا متأنيّا، يضيف مع كل ذَرَّة دخانه بكيفية مضبوطة. التحليل النفسي للنار الملتهِمَة عند القنطور نيسوس، أكثر تدقيقا وبحثا، لكني لا أملك المزاج الفلسفي اللازم قصد تطوير تحليل نفسي للوحشية. 

(30) الإحالة هنا بالتأكيد على الأطروحات التي تستمدُّ أصلها من مفاهيم ماكس مولر.    

Visited 13 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي