هي أيام خلت …

أحمد حبشي
معصوبي الأعين كنا، لا حق لنا في الحديث والحركة إلا بمقدار، الأيادي تعتصرها أغلال، والنوم مستباح، إلا ما استطعنا صده بالهمس ولغة الإشارات. كنا عشرة في غرفة لا يتسع المجال فيها لأكثر مما تقوى عليها أجسادنا للتمدد على اليمين أو على اليسار، مع أخذ كل الاحتياط حتى تكون الحركة بمنأى عن أن تسبب إزعاجا لمن يجاورك في الفراش. أغطية مهترئة تعج جنباتها بخبيث الحشرات، لسعاتها تدمي الجسد كلما حاولت صدها بجرف الأظافر للحد من قسوة اللسعة. امتد وقع هذا الحال لما يزيد أو يقترب من سنة، لا نغادر المكان إلا عند الرغبة في قضاء الحاجة، إذا ما تفضل القائم بالحراسة وسمح بفسحة المرحاض.
وأنا أستعيد كل لحظات الاعتقال بالمخفر السري، تسمو في ذاكرتي مساحات دفء كان يلفني، يدنيني من مباهج الطمأنينة والارتياح، فأسمو إلى مراقي عناد التحدي لهزم كل مدارج الاستسلام. لم أعد أهتم بتداعيات المكان ولا مآل غدنا ومصير القادم من الأيام. على يساري كان صلاح يداري النوم لسويعات أقل مما كنت استسلم له، ثم يهمس يسألني: «واش عرفتي فين انت؟ سؤال يعقبه كتمان قهقهة، كثيرا ما كان لا يقوى على صد حجم صداها رغم كل الاحتياط. يتأكد من أن القيد مازال يشد يديه، ويتلو على آخر ما جادت به لواعجه من أشعار.
كنا في تكافل وانسجام نقاوم منعنا من التواصل وحقنا في الكلام، صارت لكل منا لغة تواصله الخاصة، لتحقيق الاطمئنان على أن ما يعرفه الجلاد ليس هو كل ما في الحقيقة من أفعال وطبيعة العلاقات ونوعية الروابط. ما كان كل ذلك ليتم بدون تآزر وتكافل يحد من صولة الجلاد وأعوانه، الذين يترصدون كل حركة أو همس يستلزم العقاب.
ما أن تجاوزنا رهبة المكان واستقراء مستوى تعاون العاملين بالمخفر وحدة قسوتهم وامتثالهم للأوامر، وكذا حدود ومدى تمردهم الخفي على تعليمات رؤسائهم، حتى اكتملت أشكال تواصلنا في تنظيم مراقبة حركة جلادينا ومعاونيهم، واتسعت مسافة الحوار وتبادل الأفكار في سعي للحد من قسوة العزلة وهلوسة سلخ الذات وضبابية المآل، لصد كل استقراء لما كان وما يجب أن يكون. هكذا تمكنا من أن نراقب كل حركات أعوان الجلاد، وفتح مجالات لتعميق التعارف وتبادل المعارف لتمتين علاقات المودة والاستئناس بكيفية ومعاني تدبير الاختلاف.
تكفل بعض الرفاق بمراقبة حركة الحراس وتنقلاتهم، واتفقنا على إشارة الإنذار من أجل أخذ الحيطة والحذر. فكان أن اتسعت دائرة الحديث وتجاوزنا ثنائية الحوار إلى الخوض في نقاش جماعي إذا ما استدعى الأمر ذلك، لتقريب وجهة نظر أو تعميم المعلومة على كل قاطني الغرفة، وتفاعل الآراء. كان الرفيق مصطفى أنفلوس في موقع المراقبة، يرسل إشارة الإنذار كلما تحرك الحارس اتجاه الغرفة توجسا أو يقينا أن هناك تجاوزا للتعليمات أو تواصلا مكشوفا بين النزلاء.
ذات مساء تجاوزنا الهمس وتبادل الإشارات، فأثار شغبنا غضب الحارس الذي فشل في ضبط تحديد مصدر الأصوات التي كانت تصله كوشوشة بوثيرة فيها استهتار، فشلت كل محاولاته لأنه لم يدرك أنه كان تحت مراقبة أنفلوس، الذي اعتمد أساسا على حركة خياله الذي كان يسبق خطواته فمصباح الممر كان خلف ظهره. تعددت محاولاته وطاب لنا أن نواصل في استفزازه، فما أن يغادر باب الغرفة عائدا إلى مركز الحراسة، وقد أطال تمحيص المكان لتحديد مصدر الأصوات، ونحن من تحت الأغطية نتظاهر بأننا في نوم عميق، حتى نستعيد صخبنا وسخريتنا من غبائه. بعد أن أعيته المحاولات صار يتحرك حافيا ظنا منه أن وقع حذائه سببا في تحذيرنا بقدومه، لم يجد في الأخير إلا أن يشهر عقابه الجماعي لكل من كان في الغرفة، أشعل الأضواء وأخذ يضرب ضربا عشوائيا بغاية الانتقام. غضبه الهستيري زاد من بهجتنا لأنه كان أبشع الحراس الحاقدين على وجودنا، بحيث كان يحرص على أن لا يتحرك أحد من مكانه طيلة فترة المداومة التي كان يكلف بها، لا يسمح بالذهاب إلى المرحاض ويكثر من السباب والقذف بالكلمات النابية. أشهرنا التحدي فكان لابد من مقاومة سلوكه الاجرامي بمناوشات مستفزة، حيث يكتر الرفاق في طلب الذهاب إلى المرحاض من كل الغرف، وهو ما كان يرد عليه بكلمات نابية أو بالضرب العشوائي بغاية الإيلام. وهو ما كنا نواجهه بعناد وإصرار حتى نرد الصاع صاعين في تحد لغلو وسفالة سلوك يستهدف الادلال.
على العكس من ذلك كان من يرتقي بسلوكه الإنساني إلى درجة التقدير، يطوف على الغرف يسأل عن من به حاجة لقضاء ضرورة من ضروريات الإنسان، والبعض يكشف عن تضامن مستتر، يقدم الخدمات ويدعو أن ينجلي ما نحن فيه، “بغيتي تبول نوض تبول… انعس حتى يموت الكلب..”. في حضرة هؤلاء تفتح كل نوافذ التواصل فيما بيننا، سرد حكايات من تجاربنا المختلفة، نقاش قضايا راهنة أو مرتبطة بتجربتنا النضالية، في سعي لرفع المعنويات والحد من التفكير السلبي وجلد الذات.
مصطفى أنفلوس يفتح أبواب السخرية، يشحذ الهمم باستصغار لكل النوائب، وتقزيم تأثير كل التوقعات. له أسلوبه الخاص في استقراء حجم تأثير كل ما قد يقع في أقصى الأحوال. لا يكف عن التعليق باستهجان عن كل سلوك أو وقائع تصله معطياتها أو يستعيد بعض تفاصيلها من تجاربه الخاصة، وما كان يصادفه من أشخاص تتباين طباعهم أو تشد عن المألوف. وجوده بيننا في نفس الغرفة جعلنا نحس كأننا في قاعة انتظار، لا شيء يحد من فورة تفاؤلنا، وأننا في زمن عابر تنجلي بعده نسائم الحياة.
مارس 2025