يوم التقيت دوميتيلا

يوم التقيت دوميتيلا

لحسن أوزين

          أصارحك القول إنَّني التقيت صدفة بامرأة في سوق الجوطية للكتب المستعملة. ماذا أقول مخضتني، وزلزلتني، وانتزعت بكلّ عنف أغلب أوساخ الأصل والطبيعي والجوهر الثَّابت الَّتي تحملها أنت وكلّ أصواتي الكامنة في أعماقي. ما كدت ألمس غلاف ثوبها البالي حتَّى صرخت في وجهي بكلّ ما أوتيت من القوَّة “ دعوني أتكلَّم”. عندئذ تذكرت مصطفى صفوان “الكلام أو الموت”. فعرفت أنَّني أمام تجربة حياة صعبة وقاسية لتعلم حرّيتي من جديد. خاصَّة وأنَّني لم أتراجع، بل تجرأت في مد يدي للتَّحية ليس إلاَّ، فكانت الصَّفعة التَّالية: “ قال أحدهم :” بوليفيا غنية جدًّا، لكن سكانها شحاذون “. وهذه هي الحقيقة، لأنَّ شركات متعدّدة الجنسيات تسيطر على بوليفيا وتدير اقتصاد بلادي. والكثيرون من البوليفيين يفيدون من هذا الوضع ويبيعون أنفسهم بدولارات قليلة ويتعاونون سياسيًّا مع” الغرينغوس “ويساندونهم في حيلهم. إنَّ ما يهمهم هو المزيد الَّذي يستطيعون الحصول عليه لأنفسهم فقط. بازدياد استغلالهم للعمَّال يزداد فرحهم. وهم لا يكترثون حتَّى لو انهار العامل من الجوع والمرض”.

منحتها وقتي بالتَّمام والكمال، ليله كنهاره، فاستمعت إليها مرَّة، مرَّتين، و مرَّات عديدة…
الانصات إلى كلام هذه المرأة الجميلة المفعمة بالحبّ، والأمل الإنساني، وبحلم وعشق الحياة الأفضل للجنس البشريّ، ليس ترفا ولا تسلية أو طلبا للَّذة النَّوم كما يفعل قراء الطبيعة الأصليَّة، وهم يعيشون نهاية زمن تخشعهم الكاذب في النَّص، ضدَّ منطق الحياة في كونهم كائنات تاريخيَّة، محكومة بضرورة اكتساب حريَّة تقدُّمهم، الآن هنا، في المستقبل. كلام دوميتيلا ليس انعكاسا للواقع، إنَّه امتداد لواقع الممارسة الحيَّة للإنسان في وحله الصّراعي اليوميّ والتَّاريخيّ. “كنت في البيت مثلا حافية دائما ولا استعمل حذائي إلاَّ للذَّهاب إلى المدرسة. وهناك أمور كثيرة أخرى علي القيام بها، والبرد قارس في بولاكايو، حتَّى أنَّ يدي كانت تظهر فيهما شقوق وينز منهما ومن رجلي دم كثير، ومن فمي أيضا وشفتي. وكان وجهي ينزف. وكلّ ذلك لأنَّه لم يكن عندنا ثياب كافية تحمينا من البرد”. كلام دوميتيلا شكل من أشكال العلاقات المترابطة والمعقدة التَّفاعل بين مستويات هذا الوحل البشريّ المسمَّى الواقع المجتمعيّ الحيّ الَّذي يرفض الشَّعب فيه رفضا تامًّا التَّخلي عن الفرح والأمل والحياة، ولو تطلب ذلك التَّضحية بحياته، لأنَّه غير خاضع لمنطق الرّبح والخسارة الَّذي يعجز عن فهمه المنطق البشع للرأسمالي. في تربة هذا الصّراع بسياقاته المتعدّدة، في البنى الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة الدَّاخليَّة، وفي ثقافاته وتقاليده، وعاداته وتمثيلاته الاجتماعيَّة الحاضنة للمشرق والمظلم، للتَّقدم والتَّخلف، للحبّ والكراهية، للتفتت والتَّجزيء، للوحدة والتَّعدد، والانتماء الوطنيّ والإنسانيّ. وبالتَّرابط البنيوي أيضا مع صراع الحداثة في صورتها البشعة والهمجيَّة، كسيطرة وهيمنة في شكلها الامبريالي الأرقى لإبادة الجنس البشري، كجرائم ضدَّ الإنسانيَّة خلفتها جهنم التَّراكم الرأسمالي، وهي لا تكفُّ عن القول هل هناك من مزيد؟ وهي تغلق فوهة في هذه القارَّة، لتفتحها هناك في قارَّة أخرى، ممتدَّة في الزَّمان، من القرن التَّاسع عشر إلى الألفيَّة الثَّالثة. وهي تتقاطع في عنفها الكارثيّ مع كلّ تعفنات ظلام القرون البائدة. في هذه التربة بمقوماتها تلك ولدت دوميتيلا وتكوَّنت ونمت وتطوَّرت وعيا وفكرا وممارسة، وهي تكتشف وعيها وزمنيتها التَّاريخيَّة في قريتها سيغلو 20. فتحسَّست إرادتها لتبني حرّيتها ضدّ ما قيل أنَّه طبيعة وأصل النّساء. “عندما ماتت والدتي كان النَّاس ينظرون إلينا ويقولون: آه المسكينات خمس نساء، ولا رجل واحد… ما نفعهنَّ؟ الموت أفضل لهنَّ. لكن أبي كان يقول مفاخرا: لا أتركوا بناتي وشأنهنَّ سوف يعشنَّ. وحين كانوا يحاولون دائما أن يشعرونا بأنَّنا نساء لا فائدة لنا كان يقول لنا: أنَّ النّساء لهنَّ نفس الحقوق الَّتي للرّجال. وأنَّنا نستطيع القيام بالأعمال نفسها الَّتي يقوم بها الرّجال. لقد أنشأنا على تلك الأفكار. نعم كان ذلك تعليما خاصا جدًّا. وكان له تأثير إيجابيٌّ على مستقبلنا. لذلك لم نعتبر أنفسنا أبدا كنساء لا فائدة ترجى منهنَّ”. فاستطاعت هذه الإنسانة أن تنزع رداء الذُّكورة الأسود، و البنفسجيّ الجنائزيّ، من على إرادة وعقول وأفواه النّساء، حيث انطلقت عازمة على تقويض مسلّمات الطبيعي والأصل في وجود النّساء.

 “قال زوجي ماذا؟ هذه الغبيَّة الصغيرة بالكاد تستطيع أن تعتني بأطفالها. ردت نوربرتا: لا إنَّ الفرصة لم تسنح لها فقط”. كانت هذه الكلمات الجارحة منعطفا إيجابيًّا في حركة تطوُّر سيرورة تشكلها الدَّؤوب. وفرصة للخروج من أسطورة الأصل لشفرة المرأة الجاهزة الَّتي ولدت لكي تكون غبيَّة ناقصة خنوعة حرمة وسبية…إنَّها ليست بغلا ولدت لكي تكون بغلا. هكذا انخرطت في الفعل المجتمعيّ الَّذي هو صراع معقَّد وعنيف ضدَّ القيم الثَّقافيَّة و الاجتماعيَّة المحليَّة لاحتقار وقهر النّساء، وضدّ الاستغلال الاجتماعيّ والطبقيّ في ترابط مستوياته المتعدّدة: سياسيًّا واقتصاديًّا وإيديولوجيًّا، داخليًّا ضدَّ الدّكتاتوريَّة العسكريَّة، وخارجيًّا ضدَّ السَّلفيَّة الرَّجعيَّة للحداثة، في احتضانها لسلفيات الاستبداد، حيث اصطدمت دوميتيلا بنساء ورجال الدّين الَّذين يدعمون القهر والبؤس و التَّخلف وسفك الدّماء، وفي تناقضها – رجعيَّة الحداثة – الكامل مع إنسانيَّة الحداثة في انبثاق قيمة الإنسان والأخلاق العلمانيَّة والدّيمقراطيَّة في الفكر والواقع الحديثين.

“أوّل ما رأيته حين فكُّوا العصابة عن عيني كان علم الولايات المتَّحدة، ومن الجهة الأخرى العلم البوليفي، وصورة داخل إطار ليدين كتب عليها ”تحالف من أجل التَّطور“. وعندما سألها رجال الاستخبارات الأمريكيَّة ردَّت عليهم بشجاعة:

”من أنتم لتسألوني عن ذلك؟ إذا كانت عندي مشكلات نقابيَّة أو سياسيَّة، فعلى حكومتي أن تعالجها. ويبدو أنَّه يجب أن أسألكم : من أنتم؟ وماذا تفعلون هنا؟ أنا مواطنة بوليفيَّة، ولست من أمريكا الشَّماليَّة“.

 تتجاوز دوميتيلا عري الواقع المباشر لقريتها ولحياة العمال، لتعرض بذخ الغموض الَّذي يتستر عليه عري الطبيعي والأصل للوجود المباشر لحياة العمَّال والفلاحين، وكلّ فقراء وبؤساء الوطن.” ذهبت لأعيش في سيغلو20، القرية الَّتي ولدت فيها والَّتي علمتني فيما بعد كيف أناضل، ومدّتني بالشَّجاعة. استطعت رؤية الظّلم بوضوح، والفضل في ذلك يعود إلى فطنة النَّاس هنا، وهذا أشعل في نارا لن يخمدها إلاَّ الموت“. لقد تعلمت الكثير من قريتها، وهي تمارس حرّيتها وتفعل إرادتها في الاختيار للحياة الَّتي تريد عيشها، وما كان لها لتتعلَّم وتعي وتفكّر وتمارس لولا انضمامها إلى ” لجنة ربات البيوت“ الَّتي افرزها الفعل النّضالي للنّساء في وجه آلة القمع المزدوجة: الاستبداد المحليّ المخبأ تحت رداء العلم الوطني، والامبرياليَّة الأمريكيَّة. 

” نحن النّساء، رفيقات الرّجال ونعمل معهم. لقد تربينا منذ الطفولة على أنَّنا وجدنا للطَّبخ وللعناية بالأولاد فقط، وأنَّنا نعجز عن تولي أعمال مهمَّة، وأنَّه يجب أن لا يسمح لنا بالتَّدخل في السّياسة. لكن الضَّرورة جعلتنا نغير حياتنا. منذ خمس عشرة سنة في فترة واجهت فيها الطَّبقة العاملة مشكلات عصيبة تنظّمت مجموعة من سبعين سيّدة يطالبن بإطلاق سراح رفاقهنَّ الَّذين القي القبض عليهم لمطالبتهم برفع الأجور. حصلت السّيدات على كلّ ما طلبنه، بعد عشرة أيَّام من الإضراب عن الطعام. ومنذ ذلك الحين قررن أن ينتظمن ضمن مجموعة سمينها “لجنة البيوت في سيغلو 20”.

 وبذلك تغيّرت أيضا الشَّفرة النَّفسيَّة الثَّقافيَّة الاجتماعيَّة التَّاريخيَّة عند الكثير من الرّجال والنّساء. فاستطعن التَّغلب على العدو الأكبر، المندس في السَّمفونيَّة الأولى الصَّامتة للقهر والخوف، بممارسة حريَّة حقّ الكلام. ما أشبه هذا بالسّمفونيَّة التَّاسعة لبتهوفن. إبداع ناذر، ورائع أليس كذلك؟

 “جعلتني سيغلو 20 أدرك فطنة النَّاس. كم من الرّجال العظماء ناضلوا من أجلنا، أشخاص من قريتنا. وكم من النّساء أيضا ك بارتولينا سيسا مثلا في ثورة الهنود الحمر، و جوانا ازورداي دو باديلا في حرب الاستقلال، وبطلات لاكورنيللا في تلك الحرب نفسها. ونساء عظيمات مثقَّفات توصلن إلى مستوى رفيع مثل: ماريا جوزفا موجيا، وأديلازاموديو، وهما شاعرتان عظيمتان…لقد عرفت مثلا نساء عديدات لم يتعلمن حتَّى أن يتكلمنَّ قليلا مثلي، ولكنهنَّ بطلات لا تذكر أسماؤهنَّ، دافعن بشجاعة عن النَّاس، وقدمن حياتهنَّ من أجلهم…أنا مدينة بكلّ ما أنا عليه، وما أعرفه للنَّاس، وبالشَّجاعة الَّتي أمدوني بها”.

 وفي ذلك البذخ الغامض المدثر خلف عري الواقع نكتشف مع دوميتيلا علاقات وشبكات الظّلم العنيف اللاَّإنساني الَّذي لا يكتفي بالاستغلال والقمع، وبالقتل البطيء لحياة الإنسان والوطن، من خلال القهر وسوء الغذاء والأمراض الفتَّاكة، بل يخوض حربا نظاميَّة قوامها الجيش ضدَّ الشَّعب الأعزل الَّذي بفضل سواعده وقواه وعمله الدَّؤوب يتنعم القتلة في بحبوحة العيش، بكلّ لوازم الرَّفاهيَّة، حيث يرتكبون المجزرة تلو المجزرة، كلَّما ارتفعت أصوات الشَّعب للمطالبة بأبسط الحقوق للعيش الكريم.

“إنَّ المجزرة الكبيرة الأخرى الَّتي نسميها مجزرة سان جوان حدثت عند فجر الرَّابع والعشرين من حزيران سنة 1967. كانت رهيبة لأنَّها فاجأتنا. كانت أصوات الأسهم النَّاريَّة والمفرقعات تسمع في كلّ مكان يوم العيد، تلك طريقة نعبّر فيها عن سعادتنا. ودخل الجيش وبدأ يطلق النَّار، ارتبك النَّاس لأنَّهم اعتقدوا في البداية إنَّ ذلك كان صوت المفرقعات. لقد خطَّط الجيش لكلّ شيء. وصل أشخاص بلباس مدني، أتوا بسيارات شحن إلى محطَّة كانكاتيري، نزلوا واطلقوا النَّار على كلّ من رأوا، كان ذلك رهيبا، رهيبا…فتحنا الأبواب ولم نكد نفتحها حتَّى بدأوا إطلاق النَّار ثانية. كانوا قد أخذوا مراكزهم. اطلقوا النَّار على كلّ واحد، وعلى كلّ شيء…يا لهول ما رأيناه في تلك اللَّيلة، رأيت امرأة حاملا في سيارة إسعاف مصابة بطلقة في معدتها. مات طفلها. امرأة أخرى صرخت في وجهي ماذا جرى لابني؟ ساعديني، رفعت الولد وأخرجته من البيت. وعندما كنت سأضعه في سيارة الإسعاف وضعته في حضني و…رأيت جمجمته كانت فارغة. مشاهد لن أنساها أبدا، ولا تزال حيَّة . مشاهد شاحبة فعلا. عائلات بكاملها ماتت. أنهار من الدّماء سالت. أشخاص ماتوا في أسرتهم لأنَّ الجنود كانوا يطلقون النَّار بوحشيَّة، بوحشيَّة فعليَّة على كلّ شيء… لا أحد يعرف عدد القتلى. في اليوم التَّالي بعد أن دفنوا الأموات بالمئات في المقبرة وقفت على حائط، وخاطبت النَّاس، وأنا أصرخ: لا نستطيع أن نحتمل هذا. يقتلون الَّذين يقدمون الكثير ويعملون ويغنون البلاد؟ لم يكونوا عادلين معنا. لماذا؟ إنَّ الحكومة أخذت أجورنا وكلّ ما نطالب به هو حقّنا. ثمَّ يقتلوننا بهذه الطريقة ليس هذا محقًّا. جبناء سفلة.”

عندما تتكلَّم دوميتيلا تجعلني أنصت جيّدا لكفاح الإنسان أين ما كان، و أصير معنيًّا بأفراحه  وأحزانه، وبصموده المستميت في وجه بشاعة آلة الموت، القادمة من الاحتقارات العفنة لمناجم البداوة البربريَّة، المستخرجة بآليات الحداثة الرَّجعيَّة، كما يحدث الآن في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق… كما أنصت للتَّواطؤ الدَّاخلي لهذه الاحتقارات النتنة في أعماقي، وأنا أحميها بحرص شديد من دم الشُّهداء العزل. أي نذل أنا، وأنا أصبح وأمسي على إيقاع هذا الموت الَّذي يلفني، ويلجم فرحتي بنجاح الثَّورة أين ما اندلعت في بقاع العالم. هل تفهم الآن لماذا أنا مشغول ومجنون بضرورة دفن هذا الجزء الميّت من ذاتي، القابع في أعماقي، وكأنَّني أنا وأنت وهو مجرَّد أهرامات تسكنها مومياء أجداد هويّتي وطبيعتي وأصلي وديني وملَّتي…؟

ستعرف أيضا عندما تنصت لكلام دوميتيلا أية امرأة أنا معني أكثر من أيّ وقت مضى بدفنها. إنَّها المرأة الَّتي صنعتها خيالاتي العرجاء والعمياء، الرَّجعيَّة منها، وحتَّى التَّقدميَّة، بفضل متخيلي الاجتماعيّ الثَّقافيّ، البعيد كليًّا عن حقيقة النَّوع الإنسانيّ. في الحقيقة وبكلّ صراحة ودون خوف من قوَّة وعنف سلطة الكلمات أنا لا أبحث عن أكثر من دفن البغل الَّذي كنته، لأعرف ما تخبئه الأرض والسَّماء بفضل النّساء. وأهمس في أذنك أنَّ قضية الجندر أو النَّوع الانساني ليست في الصالونات والقاعات واللّقاءات والمؤتمرات، ولا في الكراسي والموائد المستديرة إنَّها في الممارسة الممارسة…

خاتمة على سبيل التَّقديم

         مقرفة جدًّا تلك المقدّمات المسكونة بهواجس التَّميز والمعجزة والعبقريَّة، حين تقدّم أعمال الآخرين بمساحيق مفرطة في نمطيَّة الكتابة، كأن تقول مثلا: بأنَّ الكاتب أو المفكّر أو…تخرج من الجامعة في سنّ مبكّر، وقد أصدر أوَّل كتبه في عقده الثَّاني، أو أقلَّ من ذلك بكثير، بالإضافة إلى توابل أخرى توحي بالعجرفة والاستعلاء الأجوف في قدرتها على القراءة والإحاطة والإلمام بأعمال الكاتب، أو المفكّر الَّذي يتمُّ تقديمه بأسلوب يحرّض على الغثيان والقيء.

أو غيّر هذا من أشكال التَّقديم الاستثنائيّ الأسطوريّ الَّتي تحتقر نفسها والقارئ والإنسان عموما، في وقت تعتقد تميّزها وقدرتها الفائقة على الوصول إلى المتميّز الرَّائع، الجدير بالقراءة والثَّناء والاتّباع. لأنَّها تجهل الكثير من العطاءات، والتَّعبيرات الشَّعبيَّة: من الانتاجات الفنّيَّة والأدبيَّة والفكريَّة والسّياسيَّة والفلسفيَّة…الَّتي يمارسها المنسيون: من العمَّال والفلاَّحين والمزارعين والباعة المتجوّلين و“ربات البيوت”… هؤلاء الَّذين يمارسون كلَّ أشكال الفعل الإنسانيّ، وبمختلف المواد و الأدوات والوسائل، وبتنوُّع وتنويع الأساليب والصياغات وفق استراتيجيات للعطاء لها من العمق والاتّساع والصَّدر الرَّحب ما يحتضن كلَّ الاختلافات، وما يثري ويخصب الحياة والوجود الإيكولوجي والإنساني. هؤلاء الَّذين يراكمون ما هو أفضل لهم، وخاصَّة للأجيال القادمة وللأخرين. قليلا ما تنتبه الكتابات النَّمطيَّة للثَّقافة العالمة، لمن يسمُّون النُّخبة أو الصَّفوة، إلى هذا الوجه الشَّعبي العميق والغنيّ للفكر والإبداع والثَّقافة، إلى هذا التَّاريخ المنسيّ والمهمَّش، لكنَّه الأساسي والمؤسّس للفعل الإنسانيّ، والَّذي يمثّل عطاء النُّخبة أحد وجوهه الجميلة قليلا، والبذيئة الفجَّة كثيرا.

الهامش:

دوميتيلا باريوس دوشنغارا: “دعوني أتكلَّم”، ترجمة: سمية فلو، الطبعة الثَّانية 1985، مؤسسة الأبحاث العربيَّة.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي