العملية العسكرية الروسية ذات طابع دفاعي
د. زياد منصور
تضج وسائل الإعلام بالكثير من الأخبار والأنباء المضخمة حول طبيعة العملية العسكرية الروسية، والتي حددتها القيادة العسكرية الروسية في إطار منطقة حوض الدونباس لا أكثر ولا أقل.
وبغض النظر عن طبيعة البيانات والتهديدات التي تصدر عن دول أوروبا، واعتبار ما يجري خرقاً للقانون الدولي وانتهاكاً للديموقراطية، يبدو أن التيار العسكريتاري في الغرب ماض في توهماته وأوهامه حول الخطر الروسي الزاحف باتجاه أوكرانيا على حد تعبيره، ضمن سياق اعتماد منطق، لا يأخذ بعين الاعتبار المصالح الروسية الوجودية التي أعلن الكرملين مراراً أنه تم التنكر لها رغم المطالبات بضرورة تقديم ضمانات حول عد ضم كييف رسمياً إلى حلف الناتو، ومراعاة هذه المصالح.
وإذ نجح الغرب فعلياً في تسعير الصراع من خلال إصرار بعض أوساطه على ضرورة اندلاع هكذا حرب، والتي تبدو ضرورية للغرب وبعض أوروبا، وتحديداً بريطانيا التي عملت على تقويض كل محاولات إيجاد حل سلمي بالعودة إلى ما نصت عليه اتفاقيات مينسك القاضية بمنح نوع من الحكم الذاتي لكل من لوغانسك ودونيتسك، ظهرت تصريحات وزير الدفاع البريطاني “بن والاس” الذي أكد أننا استعداد بريطانيا لضرب المصالح الروسية في أي مكان في العالم إذا لزم الأمر”، مضيفاً أننا هزمنا روسيا يوماً في حرب القرم عام 1853، وسنهزمها هذه المرة”. مما أثار موجة غضب كبيرة في الجانب الروسي، حيث أوصى الممثل الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية، اللواء إيغور كوناشينكوف، في تعليقه على كلام الوزير البريطاني حول الاستعداد لضرب مصالح روسيا، بقوله:” على الجنود البريطانيين أن يدرسوا جيدًا ليس فقط جغرافية روسيا، ولكن أيضًا تاريخها، حتى لا نثري تاريخنا العسكري المشترك بحياتهم لإرضاء السياسيين البريطانيين ذوي التعليم الضعيف”.
وفي معرض الرد عينه تضمنت كلمة الرئيس الروسي بوتين، والتي أعلن فيها عن بدء العملية العسكرية الروسية في لوغانسك، ما مفاده:” ينبغي ألا يساور أحدا شك في أن الهجوم المباشر على روسيا سيؤدي إلى وعواقب وخيمة على المعتدي المحتمل. في حال حدوث تدخل خارجي في الوضع بأوكرانيا سترد روسيا على الفور”. مؤكداً أكثر أنه: “لا يمكن لروسيا أن تشعر بالأمان وتستمر في الوجود والتطور في ظل تهديد دائم من أوكرانيا، وانَّ محاولات موسكو الاتفاق على عدم توسيع الناتو باءت بالفشل والوضع بشأن توسع الحلف أصبح أكثر خطورة ولم يعد بإمكاننا الصمت”. وأردف بوتين: “بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها هذه سياسة احتواء لروسيا لكنها بالنسبة لنا هذا تهديد حقيقي لوجود الدولة”.
وبعيداً عن حجم التضخيم الإعلامي الهائل، يرتسم السؤال، هل من حدود للعملية العسكرية؟ وماذا في الأفق؟
لا شك أن لهذه الحرب تداعيات جيوسياسية واستراتيجية، رغم كل الكلام أنَّ لا حاجة لدى بوتين مباشرة للسيطرة على كامل أوكرانيا، وهو لو أراد ذلك لاستطاع تحريك الروس في أقاليم عدة في أوكرانيا وفي كييف نفسها بما يشكل ضغطاً كبيراً على الإدارة الأوكرانية الحالية التي يعتبرها الجانب الروسي أنها نفذت ما يشبه الانقلاب عام 2014. لكن هناك حدود على ما يبدو لهذه العملية بما يؤمن الأمن الروسي وينتزع اعترافاً غربيا بهذه المصالح الاستراتيجية. رغم قناعة روسيا أن العقوبات سلاح ذو حدين، وأن القيادة الروسية درست بعناية حجم هذه العقوبات وآثارها، ومهدَّت لذلك بحملة إعلامية ركزت على أن روسيا اعتادت على العقوبات وباستطاعتها الصمود في وجهها رغم كل ما يروج حول تداعياتها، مستندة إلى أن الأوروبيين يتحلون بالبراغماتية ولا يريدون حرباً شاملة ويعرفون عواقب العقوبات على أوروبا والعالم”.
في المقابل هناك من يعتقد أن هناك احتمال لسناريو آخر يمكن أن يحقق للروس مكتسبات أخرى من خلال نشر قواتهم عند الحدود الشرقية وعند حدود بيلاروسيا، وفي حال تقدموا نحو غرب أوكرانيا وغرب بيلاروسيا ، أي في استعادة للصورة التي ارتسمت ما قبل الحرب العالمية الثانية عندما ضم ستالين هاتين المنطقتين إلى الاتحاد السوفييتي، فإن هذا سيساعد على نشر قواعد عسكرية وصاروخية تهدد المصالح العسكرية الاستراتيجية للناتو، وسيتيح الانتشار على الحدود البولندية خارج منطقة كالينينغراد أوبلاست ، وهي منطقة غير متصلة بالبر الروسي. يبلغ طولها 232 كلم، وكذلك على طول الحدود الشرقية لسلوفاكيا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا والتي يبلغ طولها 650 كلم، كما من المحتمل تحريك القوات في مولدوفا وتشكيل جسر بري من شبه جزيرة القرم إلى مقاطعة ترانسنيسريا (بريدنستروفييه) الإقليم المنفصل عن مولدوفا، إضافة إلى تحريك القوات في كاليننغراد لدرء المخاطر المتأتية من دول البلطيق التي تتلقى دعماً عسكرياً غير محدود من حلف الناتو، والتي تعتبر المناطق الأكثر خطرا على روسيا وتماثل الخطر المتأتي من أوكرانيا وربما أكثر. ففي حال استمرت المعاندة وسرت الأمور باتجاه المزيد من التصعيد، فليس هناك من ضمانة بأن لا تشرع القوات الروسي بعملية مشابهة في البلطيق مما يعني تورط الناتو مباشرة أو اضطراره لاتخاذ خطوات هجومية، وليس دفاعية كما هو معلن حتى الآن. إن المشكلة اليوم تكمن أيضاً ليس في مجال حماية الأمن الروسي ولكن حماية الروس في الجمهوريات السوفييتية السابقة، وفي أنَّ الغرب يتعامل مع روسيا وكأنها روسيا الإمبراطورية –روسيا المتوحشة الزاحفة لابتلاع أوروبا، رغم أن الاعلان الروسي يحمل في مضامينه أبعاداً أيديولوجية حول مقاتلة النازيين الجدد في أوكرانيا وغيرها من دول الاتحاد السوفييتي السابق، وهي على استعداد لاستخدام القوة العسكرية لحماية من يجري تعريفهم على أنهم ذوي الأصل الروسي والناطقين بالروسية وغيرهم من الجماعات التي تتقاسم روابط ثقافية ودينية وتاريخية مع روسيا.
الواضح تماماً أنّ التشويش هو الذي يسود في أوروبا حول آفاق واحتمالات المستقبل، وروسيا تعلن ولا تزال أن ذهنية التعاطي باعتبارها كياناً تابعاً ولا تؤخذ مصالحه بعين الاعتبار هو عبارة عن انعدام الثقافة بشأن التاريخ الروسي، وهي تريد اليوم أن تمارس نفوذها خارج حدودها الحالية ولكن ضمن ساحتها، ولن تتعدى حدود إمبراطورتيها القديمة أي ما يسمى المجال الحيوي لها، وفي حال فشلت في ذلك ليس هناك من ضمانة من ان التفكك سيصيب الاتحاد الروسي عينه وهذا هو خطر وجودي لا يمكن السماح به. يذهب الكثيرون إلى اعتبار أن موسكو تحاول فرض نفوذها من جديد على منطقة نوفوروسيا في جنوب أوكرانيا وربما مالايا روسيا، مما سيخلق جسراً برياً بين روسيا والقرم، بالإضافة إلى الربط بينهما وبين بيردينستروفييه التي تقع تحت السيطرة في مولدوفا، بيد أن السيطرة لن تكون مهمة سهلة؛ لأنها تتطلب الاستيلاء على مدن محصنة مثل ماريوبول وأوديسا التي تعتبر في قائمة أكبر المدن الأوكرانية.
ختاماً فإن اعتبار انَّ بوتين يريد تغيير خريطة وجغرافيا العالم في البحر والبر يبدو أمراً مبالغاً به وينم عن خيال واسع، خصوصاً أن بوتين يعي تماماً إمكانات اقتصاد بلاده، ويعي تماماً حجم التدخل الغربي الذي يكتفي إلى الآن بإطلاق مواقف دعائية يحتاج إليها لحفظ ماء الوجه.. الأوروبيون يعون تماماً حجم المصالح الروسية والأهم ألا تصل الأمور إلى قطيعة اقتصادية والتي ستكون تأثيراتها على أوروبا أكبر مما يتصوره عاقل.