قصة: قِرَاءَةٌ فِي دِيوَانِ شِعْر
خالد بريش
دَخَلَ بَيْتَهُ مُنْهَكًا مِنَ التَّعَبِ، يَائِسًا بَائِسًا شِبْهَ مُحَطَّم… تَآكَلَتْ بَشَرَتُهُ بَيْنَ فَخْذَيْة، مِنْ كَثْرَة التَّعَرُّقِ، وَالمَشْي، وَالتَّنقُّلِ مِنْ شَرِكَةٍ إلى أُخْرَى، تَائِهًا بَيْنَ المَكاتِبِ. يَخْبُزُ ابْتِساماتِ المُدِيرينَ وَأَرْبابَ العَمَلِ أَمَلًا، فَلا تُنْبِتُ وُعودُهُم لَهُ إِلَّا يِأْسًا… فَهُوَ لا يَطْلُبُ الكِبْريتَ الأَحْمَرَ، أوْ حَجَرَ الفَلاسِفَة، فَقَط يَبْحَثُ عَنْ عَمَلٍ يَكْسِبُ مِنْ خِلَالِهِ قُوتَ يَوْمِهِ… يَخْرُجُ في الصَّباحِ لا يَمْلُكُ إِلَّا الرَّجَاءَ مِنَ اللهِ، يَعُودُ في المَساءِ مُحَمَّلًا بِخَيْباتِ الأَمَلِ، وَالانْكِسَارِ، وَالفَشَلِ، ثَلاثُ سَنَواتٍ وَهُوَ عَلى هَذِهِ الحَالِ… تَمَدَّدَ على سَرِيرِه مُنْهَكًا، فَتَحَ جِهازَ الرَّادْيو، عَلَّهُ يَحْمِلُ جَدِيدًا. سَمِعَ المُذِيعَ يُرَدِّدُ ويَجْتَرُّ نَفْسَ الأَخْبَارِ الَّتي رَدَّدَهَا غَيْرُهُ مِنَ المُذِيعينَ مُنْذُ سَنَواتٍ… حَدِيثٌ عَنْ خُطَطٍ خَمْسِيَّةٍ، وَعَشْرِيَّةٍ، وجَدْوَلَةٍ لِتَنْظِيماتٍ جَدِيدَةٍ، وَمَدِيحٌ لِمَشَارِيعَ جَدِيدَةٍ، لَيْسَ مُهِمًّا أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً، وَلَكِنَّهَا بِلَا شَكٍّ، سَوْفَ تُسْهِمُ فِي رَفْعِ مُسْتَوَى المُواطِنِ والوَطَنِ، وتُحَقِّقُ طُموحاتِ كَثيرِينَ، بِالإِضافَةِ إلى النُمُوِّ الذي سَوْفَ يَبْلُغُ أَقْصَاهُ…
أقْفَلَ الرَّادْيو قَرَفًا، فَمُنْذُ أَنْ وُلِدَ وَهُوَ يَسْمَعُ عَنْ هَذِهِ المَشارِيعِ وَالخُطَطِ، مِنْ دُونِ أنْ يَرَى لَهَا أثَرًا…! أشْعَلَ سِيجَارَةً، عَلَّهُ يُخْرِجُ مَا في صَدْرِه مِنْ غِلٍّ، نافِثًا هُمُومَهُ مَعَ دُخَانِها. سَافَرَ عَبْرَ عُبَابِ ضَبَابِ دُخَانِهِ فِي رِحْلَةِ أمَلٍ، فَكُلُّ مَنْ حَوْلَهُ تَخَلُّوا عَنْهُ… أقْرِبَاؤُهُ كانُوا أوَّل النَّازِلينَ مِنْ قِطارِ مُساعَدَتِهِ، ولَمْ يَبْقَ فِي القِطارِ إِلَّا بَعْضُ الأصْدِقَاءِ المَعْدُودِين، الذينَ لا تَخْتَلِفُ ظُرُوفُهُم، وأَحْوَالُهُم كَثيرًا عَنْ حَالِهِ. أمَّا البَقِيَّةُ البَاقِيَةُ فَيَتَهَرَّبونَ مِنْهُ، بِكُلِّ الحُجَجِ وَالذَّرائِعِ، مَا اسْتَطاعُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلا. دَمْدَمَ كَلِمَاتِ أُغْنِيَةٍ، طَالَمَا شَكَّلَتْ غِذَاءً، وَمَطَرًا لِصَحْرَاءِ رُوحِهِ، وَأَكْسَبَتْهُ أَمَلًا، وَبَعَثَتْ فِي كَيَانِهِ القُوَّةَ « شَيِّدْ قُصُورَكَ عَالمَزَارِع، مِنْ كَدِّنَا وَعَمَلْ إِيدِينَا »… ابْتَسَمَ بِسُخْرِيَةٍ مِنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ تَناوَلَ دِيوانَ شِعْرٍ اشْتَراهُ هَذَا الصَّبَاح. قَلَّبَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، نَظَرَ إِلَى الغِلافِ المُزْدانِ بِرُوسُوماتِ قُلوبٍ، وَأزْهارٍ، وَعَصافِيرَ مُلَوَّنَةٍ، ابْتَسَمَ مَرَّةً أُخْرَى ابْتِسَامَةً مُرَّةً، مُحَمَّلَةً بِكَثيرٍ مِنَ اليَأْسِ، فَتَحَ الدِّيوَانِ، قَرَأَ أُولَى كَلِماتِ قَصَائِدِهِ: عَيْناكِ وَطَنٌ وَغَدٌ وَأَمَل تَهَبُ الجَائِعينَ خُبْزَا… تَلَفَّتَ مِنْ حَوْلِهِ بَحْثًا عَنْ عَيْنَيْهَا، عَلَّهَا تَهَبُ رُوحًهُ اليَائِسَةَ، بَعْضًا مِنَ ذَلِكَ الأَمَل، وَرُبَّمَا تُعْطِيهِ أيْضًا عَمَلًا، وَلُقْمَةَ عَيْشٍ شَرِيفَةٍ…
غَرِقَ فِي ضَبابِ دُخَانِ سِيجَارَتِه، فِي رِحْلَةِ بَحْثٍ عَنِ الغَدِ الجَمِيلِ، الذي طَالَمَا وَعَدَ بِهِ الكُتَّابُ وَالشُّعَراءُ، فَلَمْ يَجِدْ أمامَهُ سِوَى جِدَارٍ، غَصَّ بِشَهادَاتِهِ، وَمُؤَهِّلاتِهِ العِلْمِيَّةِ، وَآخَرٍ عَنْ يَمينِهِ، عُلِّقَتْ عَلَيْهِ صُورَةُ وَالِدِهِ الشَّهيدِ مِنْ أجْلِ الوَطَنِ. جُدْرانُ غُرْفَةٍ بَائِسَةٍ، قامَتِ الرُّطوبَةُ بِتَرْكِ بَصَماتِهَا عَلَيْهَا، راسِمَةً أشْكَالًا، وَلَوْحاتٍ سُورْيالِيَّةٍ، لا يُجِيدُ فَكْفَكَةَ رُمُوزِهَا، وَقِراءَتِها، إِلَّا الفُقَراءَ، التُعَسَاءَ، المَحْرُومِينَ مِنْ خَيْراتِ هَذَا الوَطَن. قَلَّبَ شَفَتَيْهِ، عَضْعَضَهَا بِحُزْنٍ، تابَعَ القِراءَةَ مُنْتَقِلًا إلى صَفْحَةٍ أُخْرَى: عَيْنَاكِ جِنَانٌ وَكُؤُوسُ خَمْرٍ لِلْعَطْشَى عَيْنَاكِ وَطَنٌ وأَمَان… شَدَّ على أَسْنَانِهِ بِقُوَّةٍ، تَذَكَّرَ أيَّامَ الدِّراسَةِ الجَامِعِيَّةِ، اسْتَحْضَرَ سُوَيْعاتٍ سَرَقَهَا مِنْ بَيْنِ أنْيَابِ الزَّمَنِ، قَابَلَ فيها حَبِيبَتَهُ، التي رَسَمَ مَعَهَا أحْلامًا وَرْديَّةً، طرَّزَهَا بِروحٍ لا تَعْرِفُ المُسْتَحِيلَ، رَتَّبَ مَعَهَا خَطَواتٍ لِمُسْتَقْبلٍ، ظَنَّ بِسَذاجَةٍ طُفُولِيَّةٍ، كَكُلِّ المُحِبِّينَ، أَنَّهُ يَنْتَظِرُهُ خَلْفَ البَابِ، بِمُجَرَّد خُروجِهِ مِنْ أبْوابِ الجَامِعَةِ…
تَذَكَّرَ تِلْكَ الإِنْسانَةَ الَّتي وَهَبَتْهُ قَلْبَهَا، وانْتَظَرَتْهُ إلى حِينِ انْتِهاءِ خِدْمَتِهِ العَسْكَرِيَّة. لَكِنَّهُ اعْتَذَرَ مِنْهَا فِيمَا بَعْد، مُخَيِّبًا ظَنَّها، وَحُرْقَةٌ أَضْرَمَتْ رُوحَهُ، حِينَ أخْبَرَها بِعَجْزِه المَادِيِّ، وَعَيْناهُ لا تَسْتَطِيعَانِ النَّظَرَ فِي عَيْنَيْهَا، اللَّتَيْنِ كَانَتَا بِالنِّسْبَةِ لَهُ بَحْرَ الأَمَانِ، وَفَرادِيسَ الجِنَانِ… فَانْهارَ سَاعَتَها مَشْروعُ حَيَاتِهِ، وَوُجُودِهِ، وَأَحَسَّ بِتَفَتُّتِ قَلْبِهِ، أوْ كَأَنَّ هُناكَ مَنْ يَسْحَقُهُ بِأَقْدامِه، عِنْدَما تَلَفَّطَ باسْتِحالَةِ إِكْمَالِهِ المِشْوارَ مَعَهَا… فَقَدْ وَجَدَ أنَّ مُرَتَّبَهُ لا يَكْفِيهِ لِلسَّجَائِر، وَالمُواصَلاتِ، وَبَعْضِ الأرْغِفَةِ… وَأَدْرَكَ أنَّ أحْلامَهُ، وّكُلَّ ما نَسَجَهُ يَوْمًا، أشْبَهُ مَا يَكونُ بِبِناءِ الأطْفالِ، لِبُيوتٍ مِنَ الرِّمَالِ عَلى الشُّطْئَانِ، تَذْرُوهَا الرِّياحُ سَريعًا، فَتُصْبِحَ هَبَاءً مَنْثُورًا…
مَرَّ على شَاشَةِ فِكْرِه شَريطُ ذِكْرياتٍ، حَمَلَ مَواقِفَ مِنْ حَياتِهِ، وفَكَّرَ في كُلِّ لَحَظاتِ بُؤْسِهِ، الَّتي مَرَّ بِهَا مُنْذُ تَخَرُّجِهِ إلى اليَوْم، تَنَهَّدَ بِأَلَمٍ… عَادَ وَفَتَحَ دِيوانَ الشِّعْرِ عَلى صَفْحَةٍ أُخْرَى، فِي الوَقْتِ الذِي عَادَ وَدَنْدَنَ أُغْنِيَتَهُ التي بَدَأَهَا « واتْقلْ عَلِينَا بِالمَوَاجِعْ، إِحْنَا اتْوَجَعْنَا واكْتَفِينَا »… ثُمَّ قَرأَ كَلِماتٍ جَميلَةٍ، لَفْلَفَتْهُ لِلَحْظَةٍ بِخُبْثٍ، وَسَلَخَتْهُ عَنْ واقِعِهِ، مُرْسِلَةً إِيَّاهُ مَرَّةً أُخْرَى، فِي رِحْلَةٍ عَبْرَ آمالٍ كاذِبَةٍ، لا وُجُودَ لَها، إلَّا فِي مُفْرَدَاتِ الشُّعَراءِ، المُتآمِرينَ بِشَكْلٍ أوْ بِآخَرَ مَعَ الأنْظِمَةِ، وَالسَّاسَةِ الحُكَّامِ… إنَّهَا ألْفاظٌ لا يَكادُ دِيوانُ شِعْرٍ يَخْلو مِنْها: وُعُودٌ، قُبَلٌ، عُيونٌ، هَمَسَاتٌ، لَمَساتٌ، فَتَياتٌ، نِساءٌ، ياسَمِينُ، وٌرودٌ، زُهُورٌ، رَحيقٌ، أنْهارٌ، مَطَرٌ، رُعُودٌ، عٌطورٌ، نُزُهاتٌ، مَراكِبُ، مَطاعِمُ، قَهْوَةٌ، كُؤُوسُ خَمْرٍ ونَبِيذٍ، حَدائِقُ، بَاريسُ، غَرْناطَةُ، فِينِيسْيَا… اِلَخْ… اِلَخْ… أَقْفَلَ الدِّيوَانَ بَعْدَمَا سَيْطَرَ عَلَى دَوَاخِلِهِ إِحْباطٌ، فَشَعَرَ بِهُجُومٍ ساحِقٍ لِحُزْنٍ يَدُكُّ كَيانَهُ. اسْتَرْعَى انْتِبَاهَهُ فَجْأَةً الغِلَافُ الأخِيرُ للدِّيوَانِ، فَقَرَأ عَليْهِ، أَنَّ الشَّاعِرَ يَعيشُ مَا بَيْنَ إِسْبانْيَا، وَلُنْدُن، وَبارِيس…!
تَنَفَّسَ بِمِلْءِ رِئَتَيْهِ، هَمْدَرَ، زَمْجَرَ، كَأَسَدٍ جَريحٍ، عَضْعَضَ شَفَتَيْهِ، ضَغَطَ بِفَكَّيْه، خَرَجَتْ آهاتٌ مُتَتالِيَةٌ، مِنْ بُرْكانِ صَدْرِه، نَظَرَ مِنْ حَوْلِهِ، فَوَجَدَ بُؤْسًا، يَلُفُّهُ بُؤْسٌ آخَرُ، يُطْبِقُ على صَدْرِهِ وَأنْفاسِهِ. وَصَلَ فِي دَنْدَنَتِهِ لِأُغْنِيَّتِهِ إِلَى « نِسْلِكْ طَرِيق مَا لُوْهْشِ رَاجِعْ، والنَّصْرِ قَرَّبْ مِنْ عِنِينَا »… مِمَّا وَلَّدَ لَدَيْهِ قَهْرًا غَزَا رُوحَهُ، وَأَلْهَبَ كُلَّ فَواصِل كَيَانِهِ، مُتَسَائِلًا عَنْ الطَّريقِ، الذي عَلَيْهِ سُلُوكَهُ لِيَعِيشَ… فَوَجَدَ نَفْسَهُ، وَمِنْ مَكانِهِ وَهُوَ مَسْتَلْقٍ عَلى سَرِيرِه، يُرْسِلُ دِيوانَ الشِّعْرِ عَبْرَ النَّافِذَةِ، فِي رِحْلَةٍ مُفاجِئَةٍ، طائِرًا في الهَواءِ، مُرَفْرِفًا بِصَفَحَاتِه، كَخَفَّاشٍ في ظَلامِ اللَّيْل… مُتَذَكِّرَا هَذِهِ المَرَّةِ، قَوْلَ شَاعِرٍ يُحِبُّهُ « مَا أَجْبَنَ الشِّعْرَ، إِنْ لَمْ يَرْكَبِ الغَضَبَا…! »…