عن التقاعُد والمُتَقاعِدين والقُعُود والإقعَاد!

عن التقاعُد والمُتَقاعِدين والقُعُود والإقعَاد!

د. محمّد محمّد خطابي 

   نشر الأديب الرقيق ابن مدينة الحسيمة الفيحاء صدّيق عبد الكريم  قصيدة عصماء عن “التقاعد” و”المتقاعدين” فعلّقتُ عليها شاكراً ذاكراً منوّهاً بخفّة دمه،ومرح روحه، وسرعة بداهته، وتلقائيته فى النّظم على طريقة فرسان السّخرية في الأدب الحديث أيام الزّمن الأدبي الجميل شعراً ونثراً أمثال محمود سامي البارودي،وأحمد شوقي، وعبد العزيز البِشري، وإبراهيم عبد القادر المازني،وأمل دنقل، وأحمد فؤاد نجم ،وأحمد مطر،ونجيب سرور، وجليل البنداري وسواهم، فقلت:

   جميل، ومؤثّر، وعميق، ومُوفٍ ما كتبه عن “التقاعد” هذا الأديب الحصيف، والشاعر الشفيف، منذ سنوات بعيدة كنتُ قد كتبتُ لصديقي العزيز المشمول برحمة الله تعالى ورضوانه الأديب الوزير السّفير محمد العربي المسّاري  الذي كان مهووساً، ومفتوناً، ومبهوراً بحرب الرّيف التحرّرية الماجدة حيث كان آخر كتابٍ خطّه يراعُه المناضل قبيل انتقاله إلى الرفيق الأعلى بعنوان: (الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي.. من القرية إلى الوطن)،كما كان قد كتب مقدمة  ضافية لكتابي الكبير الذي يحمل عنوان: (ذاكرة الحُلم والوشم: قراءات فى الأدب الأمريكي اللاّتيني المعاصر)، كنت كتبت له منذ سنوات خلت بضعَ أسطرٍ عن ” التقاعد” فاستحلى، واستعذب، واستظرف ذلك ونشره آنذاك على صفحته على الفيس مع تكرّمه بتعليقٍ بليغٍ وطريف.

   لقد صرفتُ أيّاماً طويلة أبحث وأنقّب وأنا أحمل مصباح ديوجين عمّا كنت قد كتبته له عن هذا الموضوع وعن تعليقه عنه فلم أعثر لهما على أثرٍ . وبعد أن هرشتُ، وحرّكتُ  فروة جلدة رأسي، وأيقظت ذاكرتي الوَهنة من سُباتها العميق تذكّرتُ أنني كنت قد قلت له ما معناه، أنّ صيغة “التقاعد” (على وزن صيغ التفاعل، ومنها “التناول” و”التقاتل” و”التداول” و”التعامل” والتضارب والتطاحن، والتساهل” والتساؤل و”التسامح” التي تفيد صيغ التفاعل الاستمراري والمتوالي المتواتر العفوي والإختياري، فأنا أتناول، وأتقاتل، وأتداول، وأتعامل، وأتساهل، وأتساءل، وأتسامح، لأنني أردت فعل ذلك بمحض إرادتي، ولم يرغمني أحد على ذلك، أمّا “التقاعد” فلم أختره أنا لنفسي، بل لقد فُرض عليّ فرضاً وأُرْغِمتُ عليه إرغاماً بحُكم المساطر الإدارية المعمول بها  فى هذا البلد الأمين، وفى سائر البلدان العربية، وقس عليه الكثير ممّا لا عدّ ولا حصر له، إذن حسب ما يبدو لنا من أوّل وهلة أنّ هذه الصيغة  قد تكتسي حيفاً أو شططاً، أو انحرافاً أو ازوراراً عن المعنى الحقيقي للمعنى المتوخّى والمقصود من  هذه الكلمة، فالمُتقاعد لم يسعَ للتقاعد سعياً بل إنهم “قعّدوه” أو “أقعدوه”، فهو بالتالي مُقعد  قعوداً وإقعاداً عن مزاولة العمل، وإقْعَادُ الطِّفْلِ معناه: إجْلاسُهُ، ومَرَضُ الإِقْعَادِ: يُقْعِدُ مَنْ أُصِيبَ بِهِ، وقعّد، وهي بالتالي كلمة غير صحيحة حتى وإن كانت مُشاعة ومُنتشرة بيننا بشكلٍ واسعٍ  من باب  القول المأثور: (خطأ مشهور.. خيرٌ من صَوابٍ مَهْجور)! إذ  تفيد صيغة “أتقاعد” أنني أخترتُ طوعاً هذا  “القعود”، أو الإقعاد، ومنها صيغة” أتنازل” و”أتفاهم”، وكان أجدر بهم أن يقولوا فلاناً “مُقعّداً “، أيّ أنهم – كما سلف القول- أرغموه على “القعود” أو دفعوه إلى “القعود ” و”الإقعاد” الذي له معانٍ كثيرة آثمة فى لغة الضّاد، فتَقاعَدَ: (فعل) تقاعدَ / تقاعدَ عن  العمل، يتقاعد، تقاعُدًا، فهو مُتقاعِد، والمفعول مُتقاعَدٌ عنه تَقاعَدَ عَنِ الأمْرِ: لَمْ يَهْتَمَّ بِهِ تَقاعَدَ بِهِ: لَمْ يُعْطِهِ حَقَّهُ، ومنها جاء المعنى الشائع من باب الشطط الذي صيغ لهذه الغاية: تقاعَدَ الْمُوَظَّفُ: أُحِيلَ على التَّقاعُدِ، أيّ أحيل على المعاش، أَيّ توَقُّف عَنْ مُزاوَلَةِ العَمَلِ لِبُلوغِ السِّنِّ القانونِيَّةِ لِيَتَقاضَى مبْلَغاً شَهْرِيّاً لِمَعاشِهِ، ويا لغرائب الصّدف كما سنرى بعد قليل..

   ونقدّم للقارئ الكريم  فذلكة من بطون الكتب التاريخية، ومن أسفار المعاجم اللغوية على شاكلة “لسان العرب” لابن منظور،  ومعجم “الخصائص” ويُعتبر هذا الأخير أحد أشهر الكتب التي وُضعتْ في فقه اللغة وفلسفتها، وأسرار العربية ووقائعها، قام بتأليفه أبو الفتح عثمان المشهور بـ “ابْنِ جِنِّي”، وهو عالم نحوي ولغوي كبير من مواليد الموصل، الذي كان أستاذنا الكبير في كلية الآداب بجامعة عين شمس الدكتور مهدي علاّم (تلميذ طه حسين)، يقول لنا عنه مازحاً ومداعباً  فى حلقة الدرس: (دَهْ كان ابن جِنيّة بصحيح يا ولاد ..!!)، والذي كان أستاذه أبوعلى الفارسي فى حلبة الدّرس يقول له  أمام الملأ في مجلس سيف الدولة الحمداني كلما اشرأبّ بعنقه وارتفع  رأسه الى أعلى وسط الحاضرين ليبادر بالجواب على سؤال عويص في اللغة أو النحو، أو عن معنى كلمة حوشية مبهمة مجهولة و مهجورة  يقول له كذلك (أيّ لابن جنّي): (والله لقد  زُبِّبتَ قبل أن تُحَصْرَم !).. أيّ أنه صار زبيبةً قبل أن يمرّ بمرحلة الحصرمة!! ، نقول، ويُقال وقيل فى هذا المضمار، وتحيةً حرَّى لقصيدتك التي اقتادتنا إلى هذا الموضوع الطريف.

***

   قال أَبو الهيثم: القواعد من صفات الإِناث لا يقال رجال قواعِدُ، وفي حديث أَسماءَ الأَشْهَلِيَّة: إِنا مَعاشِرَ النساءِ محصوراتٌ مقصوراتٌ قواعِدُ بيوتِكم وحوامِلُ أَولادِكم؛ القواعد: جمْع قاعِدٍ، و”مُتقاعدٍ”، وهي المرأَة الكبيرة المُسنّة، هكذا يُقال أَيّ أَنها ذات قعود، فأَما قاعدة فهي فاعلة من قَعَدَتْ قعُوداً، و”متقاعدة” ويجمع على قواعد فهي فاعلة من قَعَدَتْ قعوداً، ويجمع على قواعد أَيضاً. والقُعْدُدُ والقُعْدَدُ: الجَبَانُ اللئيمُ القاعدُ عن الحرب والمكارِمِ. والقُعْدُدُ الخامل،الكسول، وقال الأَزهري: قُعْددٌ وقَعْدَدٌ إِذا كان لئيماً من الحَسَبِ. المُقْعَدُ والقُعْدُدُ: الذي يقعد به أَنسابه؛ وأَنشد: قَرَنْبَى تَسُوفُ قَفَا مُقْرِفٍ لَئِيمٍ، مآثِرُهُ قُعْدُد، ويقال: اقْتَعَدَ فلاناً عن السخاءِ لؤْمُ جِنْثِه؛ ومنه قول الشاعر: فازَ قدْحُ الكَلْبْيِّ، واقتَعَدَتْ مَغْـراءَ عن سَعْيِهِ عُرُوقُ لَئِيمِ، ورجل قُعْدُدٌ: قريب من الجَدِّ الأَكبر وكذلك قعدَد. قال دريد بن الصِّمَّة يَرثي أَخَاه: دَعاني أَخي والخيلُ بيْني وبيْنَه /  فلما دَعاني لم يَجِدْني بِقُعْدُدِ، وقيل: القعدُد في هذا البيت الجبانُ القاعِدُ عن الحربِ، والقاعد عن العمل، والمكارِمِ أَيضاً يَتَقَعَّد فلا ينهض؛ قال الأَعشي: طَرِفُونَ ولاَّدُونَ كلَّ مُبارَكٍ /  أَمِرُونَ لا يَرِثُونَ سَهمَ القُعْدُدِ، وأَنشده ابن برّي: أَمِرُونَ ولاَّدُونَ كلَّ مُبارَكٍ، طَرِفُونَ. ويقال: فلان مُقْعَدُ الحَسَبِ إِذا لم يكن له شرَف؛ وقد أَقْعَدَه آباؤه وتَقَعَّدُوه (أيّ أقعدوه، ولم يتقاعد من تلقاء نفسِه)!؛ وقال الطرماح يهجو رجلاً: ولكِنَّه عَبْدٌ تَقَعَّدَ رَأْيَه لِئامُ الفُحولِ وارْتخاضُ المناكِحِ  قوله وارتخاض ولعلها مُصحفة عن ارتخاص من الرّخص ضدّ الغلاء أو ارتحاض بمعنى افتضاح، أَيّ أَقعد حسبُه عن المكارم لؤْم آبائه وأُمهاته. وقال ابن الأَعرابي: يقال ورث فلان بالإِقْعادِ، ولا يقال وَرِثه بالقعود.والقُعادُ والإِقْعادُ: داءٌ يأْخُذُ الإِبل والنجائب في أَوراكها وهو شبه مَيْل العَجُزِ إِلى الأَرض، وقد أُقْعِدَ البعير فهو مُقْعَدٌ أيّ أقعدوه، ولم “يتقاعد” من تلقاء نفسه، ويا لها من معانٍ غريبة  تحيق بهذا “المُتقاعد” إذ أنها تعني وتفيد كذلك والعياذ بالله: ” الجبان” الرعديد!.

   ومصدر تَقاعَدَ التَّقاعُدُ عَنِ القِيامِ بأُمُورِهِ: عَدَمُ الاهْتِمامِ بِهَا ولذلك جاء معنى بَلَغَ الْمُوَظَّفُ سِنَّ (التَّقاعُدِ)(!): أي أدرك السِّنَّ القانونِيَّةَ لِلتَّوَقُّفِ عَنْ مُزاوَلَةِ العَمَلِ بِالوَظِيفَةِ، وَصَرْفِ مَبْلَغٍ شَهْرِيٍّ لِمَعاشِهِ، ومَعاش التقاعُد: مالٌ يقبضُهُ الذي أُحيل على التقاعد قاعدَ يقاعد، مُقاعدةً وقِعَادًا، فهو مُقاعِد، والمفعول مُقاعَد ومُقعّد (ولم يتقاعد من تلقاء نفسه اختياراً وطواعيةً)!.. تقاعد عن الأمرِ: تقاعس، وتكاسل لم يَهْتَمَّ به وووووهلمّ جرّاً.. وفى المشرق العربي عموماً لا يُقال أحيل فلان على التقاعد، بل أحيل على المعاش، ويُقال صندوق المعاشات، وليس صندوق التقاعد، وهو مُخصّص من قبل الدولة أو الشركة، وأحياناً بمشاركة من العاملين بقصد دفع معاشات للعاملين الذين أحيلوا على المعاش، أو كما نقول في لغتنا الشائعة: طالهم “التقاعد” ولعائلاتهم، وصندوق المعاشات، أو صندوق التقاعد يعني بالانجليزية:  pension fund، وبالفرنسية fonds de pension، وبالاسبانية fondo de pensiones..

شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *