حول التدين المغربي في السياق الأوروبي (2-3)
حوار مع محمد الخطابي إمام مسجد عائشة (الجزء الثاني )
حاوره الباحث محمد اليوسفي
يستمد التدين على النمط المغربي أسسه من مدرسة فقهية ودينية متميزة عرفت إشعاعا تاريخيا كبيرا في المغرب وفي الأندلس. غير أنه اليوم في السياق الأوروبي، ضعيف وباهت، لا يتجاوز الأشكال والمظاهر الثقافية المصاحبة له..
التدين المغربي الوسطي المعتدل رغم سعة أصوله وتعدد قواعده، يفتقد للجاذبية ولا يستطيع أن يجد له إشعاعا في أوروبا، حيث تتصارع التيارات والمذاهب. الأمر لا يمس جوهر هذا النمط من التدين في ذاته، بل في الرؤية الضيقة وأشكال الممارسة التي تعيق تمدده.
نلامس في الجزء الثاني من حوارنا مع الأستاذ محمد الخطابي قضايا أخرى متنوعة: نتحدث عن تجليات المقاربة التي تعيق تطور هذا النمط من التدين، عن انهيار المنظومة الثقافية والقيمية في أوروبا وما بدأ يترتب عنها من هجرة معاكسة، عن رؤيته للبيعة الشرعية والولاء الإداري، عن الفتوى في الغرب وبعض ما يعرض منها، ثم نتطرق للبدائل الممكنة لتقوية هذا النموذج من التدين المغربي ..هذه قضايا من بين أخرى نحاول الاقتراب منها في هذا الحوار.
– تحدثتم، استاذ محمد الخطابي، عن المقاربة الأمنية الضيقة التي تعيق اشعاع هذا النمط من التدين المغربي المعتدل في أوربا وفي فرنسا. ما هي تجليات هذه المقاربة؟
– عندما تضع على رأس المؤسسات المعنية بالمهاجرين وبالأمن الديني والروحي للمغاربة في أوروبا، مسؤولين ذوي هواجس أمنية ضيقة، فمقاربتك أمنية. يجب أن تضع الرجل المناسب في المكان المناسب. إذا أردت أن تشجع التدين المغربي فيجب أن تضع على رأس المؤسسات المعنية بالنهوض بهذا هذا التدين، رموزا نفتخر بها كمغاربة تكون صلة بيننا وبين إمارة المؤمنين.
– مثل من مثلا؟
– مصطفى بن حمزة، أنا ذكرته لأنه معروف كعلامة وعالم، وقد سبق لي أن أجزت في أصول الفقه على يديه، لكن هناك كثيرون. هنا في أوروبا، يجب إيجاد رجال لهم قبول لدى الجالية. وهنا تكون قد بدأت الاشتغال الحقيقي في الميدان عبر ندوات ولقاءات وتظاهرات دينية. نحن نضطر هنا من أجل تأطير المهاجرين دينيا وروحيا، أن نتعامل مع دعاة وأئمة غير مغاربة، في السابق كانت الساحة غنية.
– تعني أنه ليست هناك إرادة حقيقية للعمل أم أن هناك عدم إدراك لخصوصية السياق الأوروبي؟
– إن ما حصل في سوريا والعراق وظاهرة الدواعش، والضربات الإرهابية التي وقعت هنا دليل على وجود فوضى دينية في الغرب. إن الأمر يشبه هنا سوقا للمنتجات المستعملة (marché aux puces). الدين في الغرب كسوق كبيرة بها فوضى ودون تأطير. المغرب ضيع الفرصة وغاب عنه بعد النظر حتى تلاحقت الأحداث.
فالمغاربة، وبشهادة الجميع كانوا السباقين دائما إلى بناء المساجد وتأسيسها في أوروبا، المغاربة لهم حب لبناء المساجد. وبالعودة إلى تاريخ الوجود الأول للجالية المغربية هنا، فقد كان المغاربة يبنون المساجد ويستولي عليها غيرهم، لأن المقاربة الرسمية آنذاك كانت تثنيهم عن الحصول على جنسية البلد المضيف. وبالتالي يبنون المساجد ويسيرها غيرهم، بحكم أن الآخرين كانوا مواطنين فرنسيين.
– هل يطرح الحصول على جنسية البلدان المستقبلة للمهاجرين إشكالات معينة تتعلق بالدين والبيعة الشرعية؟ ألا يمكن أن أكون فرنسيا ومغربيا في نفس الوقت؟
– طرح هذا السؤال في مرحلة سابقة، لمن تكون بيعة المغربي المجنس بجنسية بلد أوروبي؟ ومما اقترحته آنذاك هو أن نميز بين البيعة الشرعية الدينية والولاء الإداري للبلد المضيف وهذا جائز.
– كيف ذلك؟
– إذا كنت مواطنا يحمل جنسية البلد المضيف، فواجبك أن يكون لك دور ومسامهة في الشأن العام كمواطن، كن حاضرا بحكم جنسيتك التي تمكنك من الحق في المشاركة، كمواطن له ولاء إداري لهذا البلد المضيف. لكن ولاءك الشرعي والديني يظل لإمارة المؤمنين ولبلدك المغرب.
– كيف يمكن ربط شباب ولدو هنا في الغرب بهذا التصور؟
– يجب أن نعرف كيف نستثمر هذا الارتباط الديني بذكاء، إذا أردت تحصيل الأمن الروحي يجب ألا تصب كل جهودك على المقاربة الأمنية الضيقة، بشكل يجعل هؤلاء الشباب ينفرون ويرون أن الدولة تتعامل معهم إما بتوجس أو بمقاربة اقتصادية صرفة. هناك أسلوب آخر.
– ما هو هذا الأسلوب؟
– لدينا كفاءات وأطر من الشباب الذين نشأوا هنا في الغرب، يجب استثمارها بذكاء. يجب أن أشتغل على بناء الرموز، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها الغرب على جميع المستويات، وما سيؤول إليه النموذج الحضاري والقيمي من انهيار، يجب أن أستبقه، بإظهار أهمية النموذج الأخلاقي والروحي للتدين المغربي.
هناك اليوم هجرة معاكسة للشباب من أصول مهاجرة، نتيجة الأزمة وتردي القيم، نحو دول كتركيا والإمارات، في حين أن هاتين الدولتين ليس لهما أي نموذج للتدين. لماذا يضطر هؤلاء الشباب لقطع كل هذه المسافات، في حين أن مطار الدار البيضاء على مرمى ساعتين من هنا؟ كل شيء آيل للزوال في الغرب، فماذا أعددنا لهذه المرحلة؟!
– هل يجب تجديد الخطاب حول التدين المغربي مثلا، ألا يمكن أن يمكن أن نتبنى منهجية أخرى في العمل؟
– يجب تجديد الخطاب حول التدين المغربي مع تأصيله على الأسس المعروفة في المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية، لماذا أذهب إلى العقيدة الأشعرية ولدي ما أنتجه الإمام مالك قبل الأشاعرة؟ أليست لدى الإمام مالك عقيدة؟ إذا كنت أريد أن أطور التدين المغربي، فيجب أن تكون العقيدة الأشعرية من باب تحصيل الحاصل، لأن العقيدة تطبيق وليست تلقين وجدليات. فأن اتحدث عن العقيدة الأشعرية بشكل مباشر يجعلني في مواجهة مع الفكر السلفي وغيره. لذلك فإنني طيلة ثلاثين سنة من ممارسة الإمامة، أتجنب الخوض في العقيدة رغم أنني اشعري. إن الأجيال الناشئة في الغرب تبحث اليوم عن بدائل، الشباب الآن يبحث عن بدائل خوفا على دينه.
– بدائل عن ماذا؟
– بدائل دينية واخلاقية وروحية، إن المهاجرين أصبحوا يخشون من قيم المجتمع الغربي، وهنا يشتغل السلفيون. الغرب في حالة انهيار تام.
– انهيار على مستوى النموذج القيمي، أم تتحدثون عن انهيار الدول لأن الدول قد تضعف لكنها تظل قائمة؟
– الغرب سيعود إلى مرحلة الثورات الاجتماعية والسياسية، الثورة الفرنسية كانت ثورة الفلاحين والفقراء، الغرب الآن يرقع ولا يعطي حلولا ناجعة. أما على مستوى القيم فالأمر كارثي، وما يحدث في غزة سيأتينا بالخبر. لذلك يجب أن نفكر في المرحلة القادمة، وأن نعيد النظر في خطابنا وطرق اشتغالنا حول التدين المغربي.
– هل هذا يعني أن نموذج التدين المغربي يفتقد للجاذبية؟
– نعم، ليست له جاذبية، لكن افتقاده للجاذبية لا علاقة له مع أسسه وأصوله، بل في جانب التطبيق والجانب العملي. لماذا تحدث القرآن عن المؤلفة قلوبهم؟ وقد اتفق أهل العلم على أنهم ليسوا كاملي التدين، وقد ألغى ذلك الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بعد أن أدرك مقصده. لقد جاءت نظرية المقاصد لدى الإمام الشاطبي في بداية انحطاط الوجود الإسلامي في الأندلس.
– في هذا السياق المضطرب في الغرب، أين يجد الشباب من أصول مهاجرة أنفسهم؟ ماهي النماذج الدينية التي تستقطبهم؟
– السلفية لازالت هي السائدة، ضعفت ولكن لازالت تستقطب. السلفية ما لم يتم التصدي لها من منابعها ستظل تستقطب الشباب هنا. لازال للوهابيين تأثير كبير خاصة المدخلية منهم.
– نأتي إلى سؤال آخر، لا يقل أهمية يتعلق بالفتوى في السياق الأوروبي، هل تستعملون الأصول المعروفة في المذهب المالكي في استصدار الفتوى؟ و هل لديكم بعض الأمثلة في هذا الباب؟
– الأصول المعروفة في المذهب المالكي إنما هي أدوات لإيجاد الفتوى، وأنا أعطيك مثالا: أنا أتبنى أصلا من الأصول المالكية في استنباط الفتوى، وهو اصل الاستصحاب، وقليل من يعرفه، أي استصحاب الحال.
مثلا يأتيني إنسان تائب إلى الله سبحانه وتعالى، وله علاقة ثابتة ودائمة مع فرنسية، وله معها أسرة وأبناء، فيسألني ماذا أفعل؟ فأنا أستصحب حاله وأنصحه أن يذهب إلى البلد ويسجل زواجه بها. لا يمكن أن أفتيه بالانفصال عنها، كما يقول الذين يتبنون المذهب الحنبلي، هذا لا يستقيم. كثير من النساء المغاربيات يعشن مع رجال فرنسيين ليسوا مسلمين، مع وجود أسرة وأبناء، هل نأتي إلى هذه الأسرة ونقوم بتشتيتها؟ أنا أقول لا، فأستصحب الحال على أساس تسجيل العقد، وإذا كان العقد مسجلا، فأنا أقول هذا زواج شرعي، والشرع يستصحب هذه الحالة ويعترف بها، فلا نأتي لما ينقضها وما يجعل الأسرة تنهار. فهذا أصل من الأصول التي أتبناها، وهو أصل عند المالكية.
Visited 135 times, 1 visit(s) today