أبو القاسم الشابي.. متى يستجيب القدر؟

أبو القاسم الشابي.. متى يستجيب القدر؟

  جورج الرَّاسي

   بأية حال عدت يا عيد استقلال تونس (20 آذار / مارس 1956)  بما مضى أم لأمر فيك تجديد…؟

   كانت تونس “الخضراء” تحتل دائما موقعا متميزا في المخيال العربي والمشرقي على وجه الخصوص… فقد كانت الجسر الحضاري الذي عبرت عليه فينيفيا لتؤسس أول وجود مشرقي في بلاد المغارب عام 1100 قبل  الميلاد، ثم اقتفت أثرها الملكة اليسا مستعينة بجلد  ثور لكي تبني حضارة قرطاجة العظيمة بين عامي 814 و146 ق.م.، تلك الحضارة التي مهدت الطريق أمام الفتح العربي – الإسلامي.   

  ولعل أبهى الصور الحديثة التي ظلت راسخة في الأفئدة والأذهان صورة ذلك الشاعر الذي لم تمنحه الحياة سوى ربع قرن كانت كافية لكي يبقى بيننا رافعا لواء الحرية، صورة أبو القاسم الشابي. فأي ساحة عربية لم تردد أصداء قصيدته “إرادة الحياة” التي مطلعها:

     إذا الشعب يوما أراد الحياة

    فلا بد أن يستجيب القدر

    ولا بد لليل أن  ينجلي

    ولا بد للعيد أن ينكسر

   تزوج لإرضاء والده، وغنى لتحرير شعبه. في أقل من عشر سنوات ترك إرثا  تاريخيا  خلده على مدى الأزمان. هو ابن جنوب تونس. من مواليد  24/ 2 / 1909 في منطقة  توزر، قرية  “الشابية”. تعلم في الكتاتيب وهو في الخامسة من عمره، وأتم حفظ القرآن الكريم وهو في سن التاسعة. ثم تولى والده محمد الشابي الإشراف شخصيا على تلقينه أصول العربية ومبادئ العلوم حتى بلغ الحادية عشرة. التحق فيما بعد عام 1921 بجامعة الزيتونة أقدم جامعات العالم العربي التي خرجت أفواجا من علماء ومفكري المغرب العربي، ونال إجازته عام 1927. وأضاف إليها إجازة الحقوق عام 1929 من كلية الحقوق التونسية.

   قرأ الشابي بتمعن كتب التراث والتصوف وتاريخ الأدب وديوان الشعر العربي القديم، بخاصة المعلقات والمقامات. وكان له بعد ذلك  كتاب “الخيال الشعري عند العرب” الذي اعتبر أهم عمل نقدي في الثلث الأول من القرن العشرين. 

    كان الوالد قاضيا تقيا يقضي أيامه بين المسجد والمحكمة والمنزل.  وكان واحدا من التوانسة القلائل الذين درسوا في الأزهر وتتلمذوا على يد الشيخ  محمد عبده، نزولا عند رغبته تزوج أبو القاسم ورزق بولدين. لكن يبدو أنه لم يكن سعيدا (وهو ليس الوحيد). وتقول سيرته إنه أحب فيما بعد فتاة لتعويض العجز العاطفي، لكنها ما لبثت أن رحلت. وبما أن المصائب تأتي مجتمعة فقد بدأت تظهر عليه أعراض في القلب عام 1929. اصطحبه صديقه زين العابدين السنوسي لمراجعة  بعض الأطباء، من بينهم الطبيب التونسي محمود الماطري والفرنسي كالو. فنصحوه بالخلود إلى السكينة، إذ يبدو أنه كان يهوى الجري والسباحة… وتسلق الجبال… وأشاروا عليه بالذهاب إلى ضاحية أريانة التي تقع على بعد خمس كيلومترات إلى الشمال الشرقي من العاصمة، وهي منطقة موصولة بجفاف الهواء،  ذلك أن داءه كان وجود تضخم في القلب… لكن هذه المسكنات لم تنفع. فتم نقله إلى مستشفى الطليان في العاصمة، حيث تم تشخيص المرض في الثالث من تشرين الأول / أكتوبر أي قبل وفاته بستة أيام  فجر التاسع  من ذلك الشهر عام 1934.

 مصر التي أحيته

   أول من عرف بأدب الشابي كانت مجلة “أبوللو” المصرية، في عمرها الذهبي عام 1933، أي قبل عام واحد من وفاته، إذ نشرت العديد من قصائده. فكتب عنه محمد فهمي عبد اللطيف، وصالح جودت، ومحمد عبد المنعم خفاجي، ورجاء النقاش، ومحمد حسن عبدالله، ومحمد القاضي، وصلاح فضل، وأحمد درويش، وغيرهم كثيرون… وقامت صلة وثيقة بينه وبين  أحمد زكي أبو شادي مؤسس مجلة “أبوللو “… و تعرف إلى  محمد الحليوي  وساهم معه في تحرير مجلة “العالم الأدبي”…

   والواقع أن أشعاره تتوزع بين ما عرف “بمدرسة الإحياء” المتمثلة بأحمد شوقي وحافظ ابراهيم، و بين ما عرف  بـ”أدب المهجر”  وجماعة “الديوان”. وعرف كيف يمزج  بين  الرومنسيه الوطنية والوجدانيات المهجرية التي طغت في النهاية على أعماله كما في رائعة “إذا الشعب يوما أراد الحياة…”.

ولم يخف الشابي إعجابه بجبران خليل جبران…

   وفي ذكرى مرور ستين عاما على رحيله  في التاسع من تشرين الأول / أكتوبر  1994، احتفى بذكراه الأدباء العرب من كل الأقطار في مدينة فاس المغربية، حيث جرت وقائع  الدورة الرابعة لمؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين المخصصة لإحياء ذكراه،  وافتتح أعمالها ولي عهد المغرب، بحضور ابنه الأكبر محمد الصادق.  

   ومنذ أكثر من ستة عقود أقدم عدد كبير من الفنانين العرب على غناء قصائده، من سعاد محمد إلى  لطيفة العرفاوي وماجدة الرومي وهيام يونس وغيرهم… لا بل تعاقب على إنشادها الثوار الشباب في الساحات التي شهدت بدايات ما كنا نظن أنه “ربيع عربي”…

هدموا بيته…

   في عام  2016 صدمث الأوساط الأدبية والثقافية في العالم العربي بخبر تسوية بيت الشابي بألأرض، بعد وعود كثيرة بترميمه وتحويله إلى متحف. وتجري المحاولات اليوم لإعادة شراء الأرض وبناء صرح يليق بإرث الشاعر، باعتباره معلما تاريخيا، إسوة بالنزل الذي ولد فيه عبد الرحمن بن خلدون في “تربة الباي” بتونس العاصمة (المدينة  العتيقة).  

   وكان الشاعر الراحل محمد الصغير أولاد أحمد (وكان صديقا شخصيا) قد  تعرض إلى إهانة أخرى من خلال نصب قبيح أقاموه له…

   وقد حاول المسؤولون استدراك الأمر من خلال إصدار طابع بريدي لإحياء الذكرى المئوية لولادة الشاعر تخليدا لتراث أبو القاسم الأدبي والفكري المتميز .

   وحتى لا نذهب بعيدا فقد هدموا منزل أمين معلوف في منطقة المتحف لأن شركة “كتانه” تخطط لمشرع عقاري في ذلك  الشارع…

ليتك معنا يا أبا القاسم اليوم لننشد معك:

     ألا أيها الظالم المستبد

     حبيب الفناء عدو الحياة

     سخرت بأنات شعب ضعيف

     وكفك مخضوبة من دماه

     وسرت تشوه سحر الوجود

     وتبذر شوك الأسى في رباه .

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني