المناضل الضرير في بلاد السوفيات

المناضل الضرير في بلاد السوفيات

 خالد العزي

صدفة تم تحويلي الى سكن الطلاب القادمين لتعلم اللغة الروسية في مدينة مينسك في بيلاروسيا، حيث بدأت رحلتي مع حياة جديدة في مدينة جديدة وبات العالم من حولي يتغير تدريجيا.

انا القادم من لبنان، أحمل همومي ومشكلاتي ومأساة بلدي التي لا تختصر ولا تنتهي أبدا. هنا ناس جدد، حياة جديدة لا بد من التكيف معها بغض النظر عن كل الظروف، قوانين، عادات، ثقافة، لغة بالاضافة الى الطبيعة البيئية الصعبة، نتيجة واقع الطقس الذي يفرض نفسه على الفصول كلها، حياة جديدة بالكامل يجب التأقلم معها والتعود عليها حتى نستمر بالعيش في الغربة الطويلة التي عشتها حوالي 19 عاما، لكن المشكلة الأساسية كانت في كيفية كسر التقاليد والعادات والتكيف مع الطبيعة وقسوتها .

في مينسك كانت الغربة تفرض نفسها على جميع  الطلاب، وكان علينا البحث عن مخارج حيوية لكسر العزلة والخروج من الكآبة التي جلبناها معنا من مختلف مناطقنا ودولنا، لكي نستطيع التكيف في بلاد السوفيات وفاجأتنا بغياب الإيديولوجيا التي حلمنا بها وكنا شاهدا على فشلها  .

 ما كان يساعدني على فك عزلتي، هو كوني انسان اجتماعي متكيف مع الظروف. وصلت الى سكن التحضيري وبدأت التعرف على اشخاص جدد. في المعاهد الاخرى، مما ساعدني بالتأقلم سريعا وبناء علاقات وصداقات، بعضها ما يزال مستمرا حتى اليوم، وأصبح كثير من هؤلاء الاصدقاء في موقع مهني رفيع، بينهم شخصيات سياسية واجتماعية من كل الدول العربية، لكن المفارقة بأني تعرفت على شخص كان يدرس في كلية الصحافة في السنة الأولى اسمه فضل جانبين.

وفضل سكن في المبنى المقابل لسكن التحضيري المعد لطلاب كلية الاعلام، هو شخص بسيط محب خلوق مثقف صديق صدوق. دخل فضل إلى غرفتي صدفة مع صديقه الفلسطيني روحي حجازي في زيارة ودية لطلاب التحضيري من أجل مساعدتي في تعلم اللغة الروسية .وهذه كانت عادة متبعة دائما في مدن الاتحاد السوفياتي بين الطلاب الأجانب وخاصة من السنة الاولى الاقرب الى طلاب التحضيري عمرا ولغة، وهي مفروضة من رابطة الطلاب اللبنانيين التي تكمن في اولوياتها النقابية في مساعدة الطلاب الجدد، وتقديم العون والمساعدة في الدراسة، تعلم اللغة، تأمين الغرف السكنية، الترجمة، وحل المشكلات الأخرى. وهي عادة مأخوذة ومتبعة من قبل “الكومسمول” الروسي الذي يكمن دوره في مساعدة الطلاب الأجانب والإشراف عليهم.

لا أخفي أبدا بأن الأحزاب المتواجدة في هذه المدن كانت تستغل الأوضاع من أجل تقديم المساعدة لأعضائها واستقطاب أعضاء جدد.

كان القاطنون معي في الغرفة وبعض طلاب السكن الجامعي الذي أقمت فيه، على معرفة بفضل وصديقه.  وقد تنوعت الأحاديث فيما بيننا وتبين لنا وجود اصدقاء مشتركين كثر، مما عزز علاقتنا وأصبحت غرفتهما منتجعنا اليومي، ومكان التعارف التقليدي في المدينة.

كان فضل يتكلم الروسية بطلاقة، فهو كان في موسكو قبل عامين في المستشفى العسكري الذي نقل إليه من بيروت، بعد إصابته في الرأس وبترت يده من جراء اصابته. وكان قد تم نقله قبل ذلك الى برلين، ثم انتقل الى كلية للتحضير في جامعة موسكو الحكومية، وبعد انتهاء السنة الدراسية تم فرزه الى مدينة مينسك حيث عانى بسبب التنمر من قبل مديرة الكلية التي رفضت استقباله لكونه عاجزا. حينها ذهب اليها الصديق الدكتور عماد شيا الذي كان يترأس الرابطة الطلابية اللبنانية وقال لها: “أنت تخالفين القوانين السوفياتية وقانون الصداقة بين الشعوب وقانون وزارة التربية والتعليم العالي وتحاولين الانتقام علنا من الطلاب الأجانب. هذا الطالب قاتل اسرائيل وتصفينه بانه عاجز لا يستطيع الدفاع عن نفسه وتدبير أموره”.

رضخت المديرة للضغط وقُبل فضل في الكلية، حيث درس فيها أربع سنوات ولم يستطع إكمال الدراسة والحصول على الدبلوم بسبب تطور سريع لمرض سبب له فقدان البصر الذي كان يعاني منه تدريجيا حتى فرض نفسه على دراسة فضل المتبقية وأعاق تحركه والزمه البيت بانتظار إجراء عملية جراحية على حساب وزارة الدفاع البيلاروسية، كونه جريح حرب.

صادف موعد العملية في فترة حرب الشيشان وكانت بيلاروسيا قد فتحت أبوابها لمساعدة متضرري الحرب، إذ كانت تستقبل الجرحى العسكريين مما دفع احد الصحفيين لإجراء تحقيق عن الجرحى الذي كان فضل من بينهم وكتب عنه بان وسط الجرحى الروس طيار لبناني سقط في الحرب، ونشر التقرير في صحيفة “الازفستيا” الروسية “المقربة من مجلس النواب الروسي”، عند الاستفسار من فضل كيف انه اصبح جريح طيار فأجاب بضحكته المعهودة، فأجاب: “كنت أشرح له بأني اصبت وطرت في العالي وثم هبطت في منخفض. فظن اني طيار اصيبت طائرته بذلك الشرح”.

تحمل فضل مآسيه وتأقلم في الاوضاع الصعبة، وكان مثقفا بثقافة عالية ووعي ويتميز بصلابة الشخصية التي تحدى بها الإعاقة وحولها الى مهزلة، حيث كان يتفاخر عندما نكتب له في اوراق الدخول والخروج عن عمله أنه أعمى ومعوق.

وكان يشارك في الحوارات الهاتفية ويعرض رأيه ويناقش الاخرين دون معرفته بمرضه، وكان يحل واجبات مادة الرياضيات متحديا، لكن القتال في الحرب الأهلية اللبنانية، أخذه الى مكان آخر وترك بصماته عليه، ومنعته من متابعة دراسته العلمية مما فرض عليه دراسة الصحافة، إنما الوعي السياسي والثقافي ساعده على متابعة الأوضاع من خلال الراديو الذي لا يفارقه ابدا… وحل الهاتف الجديد ازمة كبيرة بسبب المواصفات التي ابتكرها عظماء استفاد منها كثيرون.

تميز فضل بالحفظ السريع لأرقام هواتف دون تسجيلها وإستطاع تحديد الأشخاص من الصوت، عمل معد في اذاعة صوت الشعب وكتب برامج وفي طليعتها برنامج “ابن البلد” الذي قدمه الفنان احمد الزين، لكن ضيق الحياة منعه من الاستمرار وتأمين مداخيل الحياة اليومية.

بعد عودته للبنان حاول الحصول على وظيفة بسيطة من خلال وزارة الشؤون الاجتماعية لكن البلد تخلى عنه.

حاول جاهدا تجسيد الإعاقة في قناته على اليوتيوب من خلال برامج ثقافية لكن الضيق المالي منعه من الاستمرار، بقيت صداقتنا قائمة بالرغم من اني درست الصحافة في مدينة سانت بطرسبورغ في روسيا الاتحادية بعيدا عنه لكن العلاقة والزيارات الى مدينتي الاولى بقيت، ففضل صديق صدوق ولا يمكن التخلي عن أصدقاء الزمن الجميل في الاتحاد السوفيات..

<

p style=”text-align: justify;”>تحية الى فضل ونضاله ومعاناته بظل فشل التجارب الحزبية والعقائدية التي يدفع ثمنها الشرفاء في بلادي .

شارك الموضوع

د. خالد العزي

أستاذ جامعي وباحث لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *