نور حداد… بطلةٌ أم عبرة أم شيء ثالث تسعى هي إلى تحديده؟

نور حداد… بطلةٌ أم عبرة أم شيء ثالث تسعى هي إلى تحديده؟

مروى علّيق

بحرصٍ وقلقٍ شديدين، أتابع التعليقات على المنشورات الأخيرة للإعلامية السورية، نور حداد، وكأني أعلم مسبقاً ماذا سأقرأ. فأنا واحدة من نساء منطقتنا وربما عشتُ ما يعايشوه يومياً، أولاً كوني امرأةً ترتبط حريّتها بالخروج من عباءة النمطية المفروضة عليها، وأحاول دوماً عدم الامتثال للقيم الأسرية بشكلها الحالي والذي يميّز ضدّنا كنساء على الأقل. وكإمرأة تعرّضت لنوع من أنواع العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي، أستطيع أن أتوقع مسبقاً تعليقات التنمّر والكراهية التي سيكتبها من جعلوا من أنفسهم حاكمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رجالاً ونساء، لامرأة أخرى، كائنةً من تكون، استيقظت يوماً ما وقرّرت أن تخلع عنها شعائرهم الدينية المعلّبة مسبقاً وتقاليدهم الاجتماعية، من دون تبرير إلا رغبتها في أن تخوض تجربتها الإنسانية الشخصية.

بطبيعة الأمر لن يفهم من نصّب نفسه إلهاً يحاكم النساء، ويشنّ حملات التكفير والتطهير ضدّهن، ما تعيشه نور حداد اليوم

“نور حداد ولستُ نور خانم…”؛ بهذه العبارة عنونت نور حداد، أحد منشوراتها الأخيرة على إنستغرام، والتي تحاول من خلالها مشاركة متابعيها تفاصيل حياتها الشخصية، ليس فقط مسيرتها مع اضطراب ثنائيّ القطب، ولكن أيضاً يومياتها بعد تركها العمل، وخلعها الحجاب العام الماضي، والتركيز بصورة أساسية على صحتها النفسية، كما عبّرت أكثر من مرة. شاركت نور سفرها إلى أماكن جديدة ووجبات طعام قامت بصنعها منزلياً، واهتمّت بالزراعة والموضة وتصدير مشاعر الحب والود التي تتشاركها مع دائرتها الآمنة، كما تصفها، هي وأطفالها الثلاثة وإخوانها وأصدقاؤها وقطتها ومن بقي حولها من زملاء.

لكن التغييرات الجذرية التي أحدثتها نور في نمط حياتها، تحديداً في شكلها ولباسها، بثّت مشاعر رعب وارتباك عامة، فحرص كثيرون على محاربة تجربتها الجديدة، والتي تصفها نور من جانبها بأنها رحلة لاستكشاف الذات، لكنهم ركّزوا على نشر الخطاب المعتاد والمعروف تاريخياً ضد النساء “غير المطيعات” والخارجات عن شروطهم ومواصفاتهم، وهو الجنون، واستباحوا التجربة دون حدود، ليصفوا الأمر بأنّه عبرة لكل النساء اللواتي يحدن عن طريق الهداية إلى طريق الضلال، بتهديد مبطّن لأخريات، إن فكرن يوماً في خلع الحجاب وسلك طريق الحرية والتجربة الشخصية بعيداً عن وصايتهم الذكورية والأبوية.

لكنهم ركّزوا على نشر الخطاب المعتاد والمعروف تاريخياً ضد النساء “غير المطيعات” والخارجات عن شروطهم ومواصفاتهم، واستباحوا التجربة دون حدود، ليصفوا الأمر بأنّه عبرة لكل النساء اللواتي يحدن عن طريق الهداية إلى طريق الضلال، بتهديد مبطّن لأخريات، إن فكرن يوماً في خلع الحجاب

في الضفة المقابلة، بدأ آخرون حملة تضامن مع نور حداد، قد تحمل في طيّاتها بعضاً من التحامل والصور المتخيّلة والإسقاطات الشخصية أو حتى التمنيّات عن التجربة، ما قد يخلق بدوره عبئاً إضافياً عليها، حتى إن كان بريئاً أو غير مقصود، في الوقت الذي تحاول فيه نور أن “تؤنسن” رحلتها مع اضطراب ثنائيّ القطب ووضعه في قالبه العلمي، بعيداً عن النظريات الرومانسية والسيناريوهات الدرامية المبالغ فيها، والتوقعات المبنية على أساس رغبة المتضامنين في أن تكون التجربة ملحميةً. تقول نور في منشور بوحٍ طويل ردّت فيه عبر فيسبوك: “أنا مش ضحية ولا بطلة وما عندي أي رغبة بتحقيق أي شيء على مستوى الشهرة أو التعاطف… وآخر همي اسمي ومهنتي ومكانتي الاجتماعية جنب التجربة الروحية الإنسانية اللي عم عيشها… أنا إنسانة وامرأة تقدس حياتها وذكرياتها وتسعى لتوثيقها بشتى الطرق”.

تحاول نور حداد مؤخراً نزع “ثوب القدوة” عنها، تحديداً أمام جمهور برنامجها السابق “نور خانم”، والذي أدّى إلى رسم صورة عن شخصيتها لا تشبهها حسب ما صرّحت به مرّات عديدة، فليس من السهل أن تكون الفتاة المحجبة الحلبية القوية قدوةً للسوريات، خاصّةً الأصغر سنّاً واللواتي يطمحن إلى أن يكنّ في مكانها يوماً ما، فكان ثمن شهرتها قيداً اجتماعيّاً وأخلاقياً رُسم لها وهي تمارس عملها بشكل طبيعي وتدافع عن قضية اعتنقتها منذ عام 2011، وهي وقوفها في صف الثورة السورية.

“نور خانم” البرنامج الذي حظي بشهرة واسعة بين السوريين في وقت من الأوقات، كان سبباً لأن يسحب جمهوره الأهلية من امرأة ناضجة تبلغ السابعة والثلاثين من عمرها، واعية تماماً لمرضها النفسي والعصبي، وواعية لأمراضها الجسدية الأخرى، الأمر الذي لن يستطيع أحدٌ مهما أُعطي من امتيازات واستحقاقات على أجساد النساء أن يفهمه ويعرفه ويتحدث عن تفاصيله أكثر من صاحبة التجربة نفسها وبلسانها.

برغم محاولاتها لشرح ما تمرّ به علانيةً، وذكر مرضها مرات عدّة ضمن ما تشاركه على مواقع التواصل الاجتماعي، لم تسلم نور من الطعن بأمومتها، في مجتمعات تتزايد فيها جرائم “الشرف”، وتستشرس في عدائها وكراهيتها للنساء

وبأسلوب ساخر عوّدت نور مشاهديها عليه، تضيف في منشورها على فيسبوك: “حابة خبركن إني منيحة واللي بأكد هالشي إنو مريض البايبولر مستحيل يطلب مساعدة طبية لأنو شعور الهوس كتير حلو رغم لحظات هبوط المزاج الفجائية.. رغم هيك أنا واعية جدًا للأعراض اللي عم عيشها.. ومحاكمتي العقلية صحيحة مية بالمية.. ولأنو ما بدي أنفصل عن الواقع متل ما صار معي السنة الماضية، طلبت فورا تدخل طبي والحمد لله إجاني دوا جديد مسمي حاله وخالص”.

وحول حالة الهوس تقول: “الهوس حالة حلوة جداً بعيشها مريض ثنائي القطب بس بكون مو فارق معه الكوكب.. وهاد اللي بخوف العالم حواليه.. بصيروا متوقعين إنه يعمل أي شي.. الحقيقة المرّة في هاد الاضطراب إنو بحلقات الهوس بكون المريض منيح بس الناس حوله هي بتتعب، بينما المكتئب ما حدا بحس عليه.. وانظروا كم مكتئب فيكن عم يقرأ هاد البوست”.

تصنّف منظمة الصحة العالمية الاضطراب ثنائي القطب على أنه “مرض يُمكن علاجه، يعاني فيه الشخص من تقلّبات حادة في المزاج ومستويات النشاط”. وتشرح المنظمة أن “هذه التقلبات تختلف عن التفاوتات المزاجية العادية التي يشعر بها الإنسان، إذ إنها قد تسبب خللاً خطيراً في أداء الوظائف”. وبحسب المنظمة، يعاني عادةً المصابون باضطراب ثنائي القطب من “نوبات هوس” مصحوبة بارتفاعٍ في الحالة المزاجية وزيادة مستويات الطاقة والنشاط، ويعانون أيضاً من “نوبات اكتئاب” ينخفض فيها مزاجهم وتقل مستويات طاقتهم ونشاطهم.

كإمرأة تعرّضت لنوع من أنواع العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي، أستطيع أن أتوقع مسبقاً تعليقات التنمّر والكراهية التي سيكتبها من جعلوا من أنفسهم حاكمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وتؤكد منظمة الصحة العالمية، عدم وجود سبب دقيق للإصابة بهذا الاضطراب، فهو يُصيب أي شخصٍ من أيّ خلفية كان، رجالاً ونساءً على حد سواء، وأنه أكثر شيوعاً لدى الفئة العمرية بين 15 و35 عاماً، مع إشارتها إلى أن الأسباب الوراثية قد تلعب دوراً أساسياً في الإصابة بالمرض عبر تناقله بين العائلات، بالإضافة إلى أحداث الحياة المليئة بالضغوط الانفعالية أو الجسدية.

برغم محاولاتها لشرح ما تمرّ به علانيةً، وذكر مرضها مرات عدّة ضمن ما تشاركه على مواقع التواصل الاجتماعي، لم تسلم نور من الطعن بأمومتها، في مجتمعات تتزايد فيها جرائم “الشرف”، وتستشرس في عدائها وكراهيتها للنساء، فنستيقظ كلّ يوم على خبرٍ عن تعذيب امرأة ما وإخضاعها بسحب حضانة أطفالها منها، وممارسات أخرى يطول ذكرها تهدف إلى تكريس شعور النساء بالضعف والعزلة وتسبب لهنّ صدمات نفسيةً على أقلّ تقدير.

درست نور حداد الصحافة والإعلام في جامعة البترا في سوريا، وبدأت مسيرتها الإذاعية عام 2014، عندما قدّمت برامج ساخرةً على قناتها الخاصة في يوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي، فحصدت قرابة مليون مشاهدة وعشرات آلاف المتابعين. ثم انتقلت إلى مجال الراديو عبر قناة “تيلي أورينت”، حيث قدّمت القضايا السياسية بطريقة ساخرة، ومن هناك إلى التقديم التلفزيوني. كانت نور من النساء العربيات القليلات جداً اللواتي استطعن أن يخرقن ساحة الكوميديا العربية ويجعلن لأنفسهن اسماً وشهرةً في هذا المجال.

هذه ليست المرّة الأولى التي تتعرّض فيها نور حداد لهذا النوع من الحملات الإلكترونية، فمنذ خلعها الحجاب عام 2021، شُنّت أكثر من حملة كراهية ضدها، وانقسمت وسائل التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض لقرارها، من دون الأخذ بعين الاعتبار أن هكذا قرارات تكون عادةً شخصيّةً

بطبيعة الأمر لن يفهم من نصّب نفسه إلهاً يحاكم النساء، ويشنّ حملات التكفير والتطهير ضدّهن، ما تعيشه نور حداد اليوم، ولأنه لا يفهمه، ولا ينوي ذلك، لن يستطيع إلا التشكيك في عفويته وصدقه، ومحاربته عبر إطلاق الأحكام، علّه يتمكّن من بسط سيطرته مجدداً، وقمع ما تم فك قيده وتحريره من أفكار ومشاعر ورغبات ممنوعة عنا كنساء أولاً، وكأمهات ثانياً، وكإعلاميات حوصرن بعملهن لإضفاء شرعية على وجودهن حتى تم تحويلهن إلى بطلات بالإكراه.

وتأتي الضجة الإعلامية حول نور حداد، وسط تزايد حالات خلع الحجاب بين الفتيات والنساء السوريات لا سيما بعد الثورة، بالإضافة إلى تصاعد حملات البوح ونشر الوعي في القضايا النسوية، وفي ظل ما تخوضه النساء اليوم من معارك في سبيل التحرّر وتحقيق المساواة على مستوى الجندر أو النوع الاجتماعي، إن كان في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن وصولاً إلى السعودية وإيران وغيرها من الدول.

الأربعاء 1 فبراير/ شباط 2023

المصدر : رصيف 22

شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *