محنة المعتمد بن عباد

محنة المعتمد بن عباد

عبد السلام البوسرغيني

ما على ظني باس، يجرح الدهر وياسو

ربما أشرف بالمرء على الآمال يأس  

ولقد ينجي انتكاس ولقد يكدي التماس 

 عندما كان المعتمد بن عباد يردد هذه الأبيات الشعرية من حين لآخر، كان وكأنه يطلق زفرات حرّى على ما آل إليه وضعه، وهو سجين مقيد بالأصفاد في بلدة أغمات المغربية القريبة من مدينة مراكش. لقد كان في الواقع يفكرفيما أصبح عليه وضعه بعد أن فقد ما كان يتمتع به من نعم وهويتولى الحكم في إمارة شبيلية، التي كانت أكبر وأزهى تلك الإمارات الأندلسية التي يتقاسم السلطة فيها من كانوا يحملون وصف (ملوك الطوائف).                   

    كان المعتمد بن عباد يعيش في أغمات عيشة ضنكا في حياته اليومية، مع زوجة لا تفتأ تتبرم مما آلت إليه حياتها مع زوج فقد الأمل في العيش حياة  طبيعية، فبالأحرى أن يسترجع ولو القليل من المجد الذي أتاح له أن ينعم بحياة الأمراء في قصور ذلك البلد الذي استحق وصف (الفردوس المفقود)، وهو الاسم الذي ظل يستعمله ولفترة طويلة من فرطوا في توفير أسباب الحفاظ عليه.                       

     لقد دأب الأدباء العرب الذين اطلعوا على إنتاجه الأدبي، ممن أولعوا بحضارة الأندلس، على زيارة ضريح المعتمد بن عباد، في تلك البلدة التي قضى فيها ما تبقى من حياته، بعد أن نقل سجينا من الأندلس إلى المغرب. ولما أصبح لضريحه من أهمية تاريخية وسياحية أيضا، استحق كغيرة من المآثر الصيانة والتجديد. 

ومن مفارقات الزمان أن التجديد شمل أيضا البيت، (ولا أقول الضريح) الذي يأوي قبر يوسف بن تاشفين، الذي كثيرا ما يذكر اسمه مقرونا باسم المعتمد بن عباد، وهو بيت لا يرقى إلى ضريح يليق بمقام وعظمة مؤسس مدينة مراكش، وبدا وكأن الذين بنوا لقبره بيتا تعمدوا تركه بدون سقف، أو أن الأهمال كان السبب في انهيار سقفه. ربما يرجع التعامل مع جثمان يوسف بن تاشفين إلى طبيعة التوجه الديني المحافظ، الذي ساد على عهد الدولة المرابطية ثم على عهد الدولة الموحدية، ولا يرجع إلى مؤاخذته على معاملته للمعتمد بن عباد، كما فكر كثير من الأدباء العرب، على اعتبار أنه ظلمه، حينما لم يكتف بعزله، بل نقله سجينا من الأندلس إلى المغرب.                                     

لقد كتب لمراكش أن تنجب شاعرا كبيرا لم يساير أولئك الأدباء، فبالأحرى أن يوافقهم على إطنابهم في مدحهم للمعتمد بن عباد، مع مؤاخذة يوسف بن تاشفين في نفس الوقت، وانبرى ليرد الاعتبار لذلك القائد المغربي الذي استجاب لنداء الواجب، لما استنجد به الأندلسيون وصد ما كان يهدد وجودهم في تلك البقاع، وأضاف بما حققه من انتصار أربعة قرون كاملة في عمر الوجود الإسلامي، ازدادت الحضارة العربية خلالها ازدهارا، وشعت بنورها على أروبا ومنها على العالم، وذلك بما أبدعه الأندلسيون ثقافيا، وبما شيدوه عمرانيا، وبما أنتجوه في ميادين الفكر والفلسفة، وفي مجالات العلوم الطبيعية والتطبيقية.                     

   في أحد أيام سنة ١٩٥٠ رافقت “شاعر الحمراء” الفقيه محمد بنبراهيم، كما كنّا نسميه، في زيارة له لقبر يوسف بن تاشفين للترحم عليه كما اعتاد على ذلك. ونحن أمام قبره في ذلك البيت المتواضع، أبديت استغرابي من الإهمال الذي يوجد عليه مرقد ذلك الرجل العظيم، الذي خلد التاريخ ذكره من بين أكبر القادة في القرن الحادي عشر الميلادي، وتساءلت عن السبب في ذلك الإهمال، إلى الحد الذي ترك البيت بدون سقف، فأنشد لي شاعرالحمراء بيتا من قصيدة يمجد فيها يوسف بن تاشفين يقول فيه:

 عشت تطمح للعلاء فلم يكن

  ليحجب عنك رغم طول المرقد

فقلت لشاعرنا يكفي إبداعك هذا لنحرص على أن يظل هذا البيت بدون سقف، ولكي تظل المعالي بدورها تتطلع لرؤية ذلك القبر الذي يأوي جثمان قائد ساهم في تخليد إحدى فترات التاريخ المجيد للمغرب، ويذكرنا  بامتداد حكم الدولة المرابطية، شمالا وشرقا وجنوبا، فكان الأمر وكأن الأحداث تبشرنا بأن  في استطاعة أبناء المغرب الكبير، من مغاربة وجزائريين وتونسيين، أن يوفروا ما يجعلهم قادرين على تسجيل أمجاد تاريخية، كتلك التي سجلوها في الأندلس خلال حكمهم لها.                

 كان البيت الشعري الذي أنشده شاعرالحمراء محمد بنبراهيم، ونحن أمام قبره، جزء من تلك القصيدة العصماء التي تذكر بفطاحل الشعراء العرب، كالمتنبي والبحتري، وفيها انبرى لإجلاء حقيقة ما حصل مع المعتمد بن عباد، وشرح دوافعه، للرد على مؤاخذة الأدباء العرب ليوسف بن تاشفين، بحيث لم يدركوا ولم يقدروا حرصه على أن لا يتكرر الوضع الذي حدا بالأندلسيين إلى الاستنجاد بالمغرب، حتى لا تسقط الأندلس أمام هجوم الإسبان. وقد توجه شاعرنا بالخطاب إلى أمير الشعراء في مصر، الذي ألف رواية شعرية سبق لفرقة مسرحية من مدينة فاس أن مثلتها في مراكش، فأثار ذلك حفيظة شاعرالحمراء، وانبرى للرد على منتقدي يوسف بن تاشفين، وقال في قصيدته العصماء:                           

أأحمد شوقي للقوافي رجالها  كأنت

وللتاريخ ذو الأخذ والرد

   وأضاف متوجها بالخطاب إلى يوسف بن تاشفين، وهو يرقى به إلى مكانة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيقول:   

    أفاروق إفريقيا امتشقت مهندا       

 وقبلته شوقا وطوقت بالغمد

ورحت ركضا لأندلس بها                       

تصد ذوي الأغراض عن سيئ القصد

فأبقيت للإسلام باذخ مجده                      

ولولاك آضحى الدين فاقد المجد

وذدت عن الإسلام من رام كيده                      

وأطفأت نيرانا مؤججة الوقد

 وفي هذا الذي قاله شاعر الحمراء محمد بنبراهيم، إشارة واضحة إلى سبب تدخل يوسف بن تاشفين، الملك الزاهد في الأندلس، استجابة لنداء ملوك الطوائف الذين اجتمعوا حول المعتمد بن عباد وقرروا  الاستنجاد به لمواجهة زحف ألفونسو، حاكم ما تبقى من شبه الجزيرة الإبيرية آنذاك في يد الإسبان.

لم يتردد يوسف بن تاشفين في الاستجابة لنداء الأندلسيين، فأعد للمعركة رجالها وعدتها. ولقد شيد في مراكش صهريجا ضخما على شكل مسبح، ليتدرب فيه على السباحة الرجال الذين سيتوجهون إلى الأندلس للجهاد،علما منه أنه سيكون عليهم قطع البحر في  مضيق جبل طارق، وأن عليهم حسم المعركة تحسبا لكل طارئ

لقد خاض الجيش المغرب تحت قيادة يوسف بن تاشفين، والجيش الأندلسي تحت قيادة المعتمد بن عباد، تلك المعركة التاريخية الفاصلة التي عرفت بمعركة الزلاقة، والتي وقعت سنة ١٠٩١ في مكان يحمل هذا الاسم، وخرج المسلمون منتصرين فيها، واستمر حكمهم للأندلس أربعة قرون (أي أربع مائة سنة) ، وإلى ١٤٩٢، وهي السنة التي سقطت فيها غرناطة عاصمة آخر إمارة أندلسية.

وبذلك طويت صفحات من أزهى ما سجل في التاريخ الإسلامي، وبدأت محنة المسلمين في الأندلس، وانتهى الأمر إما بطردهم أو بتنصيرهم بواسطة ما سمي بنظام محاكم التفتيش. وقد طبق على اليهود الأندلسيين نفس الاضطهاد الذي طبق على  المسلمين، وتم بذلك وضع حد للتعايش بين الأديان في ربوع مجموع التراب الإسباني.

ولقد كان من نتائج سقوط  الأندلس أن أصبح المغرب الأقصى هدفا للإسبانيين وحتى البرتغاليين، فاحتلوا كثيرا من شواطئه لوضع حد لأي محاولة تتيح للمسلمين استرجاع الفردوس المفقود. وما تزال مضاعفات ذلك العهد، عهد الصراع بين المسلمين والمسيحيين، ممثلة في احتلال إسبانيا لمدينتي سبتة ومليلية وعدد من الجزر الصغيرة الواقعة بالقرب من الشواطئ المغربية.

    لقد كانت ربوع الأندلس بما تدره من خيرات، عرف الأندلسيون كيف يجنونها من الأرض المعطاء لبلادهم، قد أتاحت لملوك الطوائف أن يعيشوا حياة البذخ والمجون، وربما كان نفي المعتمد بن عباد وسجنه في أغمات تحسبا لكي لا يتكررتهديد  المسلمين، ومعهم اليهود في وجودهم، بعودة ملوك الطوائف إلى عادتهم، فينهمكون في حياة البذخ والمجون. فعندما انبرى شاعر الحمراء للرد على المتعاطفين مع المعتمد بن عباد، جاءت إشارته واضحة إلى سبب تدخل يوسف بن تاشفين (الملك الزاهد) في الأندلس والتعرض لملوك الطوائف، وللمعتمد بن عباد أساسا، إذ يقول في قصيدته مخاطبا يوسف بن تاشفين قائلا:

     ولم تكترث بالغانيات وعودها                  

     وتسوية الأوطارفي نغمة الرصد

    ولم تحتفل بالراح من كف كاعب                 

لترشف تغر وتهوي على نهد

لكن شاعرنا محمد بنبراهيم أبدى مع ذلك تعاطفا مع المعتمد بن عباد، حين يقول:

  يعز علينا القصر يفقد مجده                       

ويمسي ابن عباد به نحس السعد

يعز علينا أن نراه مصفدا                         

يساق إلى أغمات يرسف في القيد

ولكن لنصرة الدين دين محمد        

 وإنقاذه من بؤرة الهلك والنكد

نضحي بعباد وآخر كابنه             

ومثله مما لا يفيد ولا يجدي

  ولما يكنه شاعر الحمراء محمد بنبراهيم من تقدير ليوسف بن تاشفين ختم قصيدته بالبيت التالي:

لتبدكو معي ذلك العظيم وفقده        

ولا تتركوني أبكيه وحدي

   وبعد، شتان بين من يبكي على فقدان المجد، ومن يبكي على فقدان النعم والمجون، إذ يحكى أن زوجة المعتمد بن عباد، اعتماد الرميكية، خاطبته في يوم من أيام المحنة في بلدة أغمات، بما يوحي له بأنها لم تعرف السعادة في العيش معه، فقال لها: ” أي والله، ولا يوم الجرة”, وكان يشير بقوله إلى ذلك الحفل المشهود الذي أقامه على شاطئ النهر الذي كانت تسقي منه الماء لأهلها، وكان الحفل يحاكي ما جرى في اليوم الذي رآها تسقي، فأغرم بجمالها ثم اتخذها زوجة له.

  ولتذكر اعتماد الرميكية ليوم الجرة، تذكرت ما عاشته في قصر المعتمد بن عباد في إشبيلية، وغمرها الشعور بالندم على ما بدر منها ويعد من قبيل نكران الجميل، وهي تقول له إنها لم تعرف السعادة في العيش معه.

الدار البيضاء 28 مايو  2022

Visited 5 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد السلام البوسرغيني

صحفي وكاتب مغربي