شهادة مغربي يوم احترقت بيروت

شهادة مغربي يوم احترقت بيروت

يحيي اللبنانيون اليوم (4 غشت- آب 2022)، الذكرى الثانية لانفجار ميناء بيروت، الذي يوصف بـ”أحد أكبر التفجيرات غير النووية في التاريخ التي لم تنتجها قنبلة نووية”.

دمر الانفجار نحو نصف المباني في بيروت، وشرد الكثيرين. وقد خلص خبراء من الولايات المتحدة، مختصون في هندسة الانفجار والصدمات، إلى أن هذه الكارثة تعادل تفجير 550 إلى 1200 طن (500 إلى 1100 طن متري) من المركب الكيميائي المتفجر ثلاثي نيتروتولوين (TNT) – نحو 5٪ من قوة القنبلة النووية التي أسقطتها الولايات المتحدة على هيروشيما في 6 غشت- آب 1945. وفي غضون أجزاء من الثانية، أطلق انفجار بيروت زهاء 1 غيغاوات/ساعة من الطاقة، أو القدر نفسه من الطاقة التي تُنتج في ساعة واحدة من أكثر من 3 ملايين لوح شمسي، 412 توربينات رياح، أو 110 مليون مصباح LED، وفقا لإدارة الطاقة الأمريكية.

***

في ذلك اليوم الـرهيب  والعصي على الوصف، كنت هناك..

وكانت هذه الشهادة، التي نشرت حينها في الموقع اللبناني “180 بوست” تحت عنوان:

يوميات مغربي بحضرة القيامة اللبنانية: ألكل قرن قنبلته؟

عبد الرحيم  التوراني  

 لم أفلح منذ يوم “كارثة بيروت” حتى الآن، في لملمة واستجماع ما تشتت وتشظى في داخلي من أشلاء ومزق، تناثرت وتكورت في كريات دمي، ذابت في دورتي الدموية ذوبان الدم الفاسد وتجلطه في شرايين موتى محنطين ومنسيين في التاريخ غير المدون. لم أعُد أميز بين أفعال الماضي وأفعال الآتي، كلها تحضر ناتئة متورمة في قواميس الدمار، تتخشب تحت الألسن وتتشظى فعلا واحدا تحت سطوة الخراب والقتل والضياع والفقدان.

***

ربما اللغة العربية، أو سواها من لغات البشر الإنسان، لا تحتمل توصيفا دقيقا لما جرى وحدث ونزل ودوّى ثم انفجر ودمّر وخرّب وروّع وقتل، فسوّى كارثة عظمى.

يبقى فعل الكارثة حاضرا ناقصا.

ما حدث تتبرأ منه اللغة. تنكره الطبيعة. ليس زلزالا ولا فيضانا ولا إعصارا. فعل حاضر يمضي ناقصا لا يقوى على تشريح المعنى. لا يحتمل تجنيده لدى ميليشيات “كان وأخواتها”.

هو جُمَلَةٌ لا إسمية ولا فعلية. لا فِعْلَ فيها ولا اسم لها.

جملةٌ كشفت سر كل الأفعال والأسماء في أقل من ثانية. وسط دخانها الطاعن في الهواء والسماء يحاول الفاعل التخفي والتستر، كأنه يقول: ها أنا ذا خذوني. من يجرؤ على الاقتراب منه والإشارة إلى قمقمه وتسميته، يعميه الدخان. يحرقه الدخان. يشنقه خيط دخان.

هو الدخان فقط، فما بالك.

لكن من أنتم؟ من أنتم؟

تقذف بكم لغة المقبور وتهدد موتكم بموت أشد مكرا وموتا.

“أيها الطاعنون في الموت.. في الموت”.

أيُها القادمُون من منافي الطوائف ومن لغات الأزل والتغزل بحياة الوطن بالأناشيد وبالقوافي..

أدخلوا صدوركم وتعلموا البكاء..

 أحزان جديدة تنتظركم..

 فلتحتموا بسر النشيد..

 وانسجوا المراثي المطرزة بالذهب لمواكب الضحايا القادمين

 ولكم بعضٌ من الوقتِ لكي ترددوا أذان الله أكبر بنشيد الموتى،

وتغنوا مع فيروز “سلاما لبيروت”،

ولتكفوا مع نزار قباني وماجدة الرومي عن حث بيروت أن تقوم من تحت الردم

أنكم أنت بيروت

وأنتم من تحت الردم!

فمتى موعد القيامة؟

***

كان يوما قائظا من أيام بيروت الصيفية. يوم مشبع بالرطوبة والتلوث العالي بدرجات لا تقاس إلا بتلوث نخبة سياسية وطائفية مهيمنة. قبل لحظة الانفجار، كان يتردد في النزول إلى بحر بيروت، قال لقرينه: لعلك تتمشى قليلا على رصيف الشاطئ فينقص بعض وزنك، المشي والهرولة يعوضان التدريب الرياضي في القاعات المكيفة. أنظر إلى بطنك زادته قلة الحركة، وزاده المكوث في البيت احترازا من “كوفيد 19″، انتفاخا. لكنه قيظ الصيف. ويغلب الكسل لينهي التردد.

أتمدد على الأريكة، أفتح شاشة التلفزيون، أتلهى بالتنقل ما بين الفضائيات المتناسلة بلا حد.  لا شيء يعجبني. أفكر في فتح كتاب.  واقفا أمام خزانة الكتب أبحث عما يناسب حالتي ومزاجي الصيفي.

عناوين كثيرة قرأتها وأخرى تنتظر، يشدني الحنين لتلك التي أحببتها. رواية للبيروفي ماريو بارغاس يوسا بعنوان: “دفاتر دون ريغو بيرتو”، من ترجمة الراحل صالح علماني، ونشرها “دار الفارابي” في بيروت. رواية يمزج كاتبها السياسة بالعبث، ويحبكها بسرد مشوق يحاكي الأدب البوليسي، فيروي لنا عن الثورة والارتداد اليساري. رواية تمتلئ بالخيال وتستدرج قارئها بإبداع ساحر كي ينهي صفحاتها التي تربو على الأربعمائة صفحة (بأحرف صغيرة). قصة رجل مرهف الإحساس وإنساني، لكنه يبدو سخيفا بعض الشيء. هو من منح اسمه الكامل للرواية. ابتسمت. جال بخاطري لعلي أكون أتقاسم مع ريغو بيرتو الإنسانية والسخافة. ما أسخف الإنسان! ما أخسره!

***

تنقطع الكهرباء، ويتأخر تشغيل المولد. كأني قلت “شربت كوب ماء”، أو “دخنت سيجارة”. لا شيء يدهش هنا. بل المدهش حد الإثارة الكبرى هو اشتغال الكهرباء طيلة ساعات اليوم الأربع والعشرين من دون انقطاع. الكهرباء معضلة تهدد لبنان الأنوار بالظلام وبالعتمة.

***

وأنا في حالة تشبه انتظارا كذاك الذي صاغه بعبث جاد الكاتب الإيرلندي صمويل بيكيث، سأحس بالبناية كأنها تمايلت، وربما اهتزت. كأنه زلزال. ارتطمت النوافذ والأبواب واهتزت الأرفف، وسمعت ضجة قوية. تسارع الجيران للإطلال من الشرفات والنوافذ. تحمل وجوههم نظرات تزدحم بالأسئلة والفزع وتغوص عميقا في مرأى الهشاشة. سيتحدث البعض عن خرق لجدار الصوت. هذا أمر بات سخيفا، فإسرائيل تعودت على استباحة سماء لبنان وقتما خطر لطائراتها العسكرية ذلك. لم تمض دقائق حتى وصل الخبر ممن لم نزود. وصلت مكالمات هاتفية، وتنافست فيديوهات وصور عبر الأنترنت والواتساب على شرح ما جرى وما حدث. “الزلزال” و”خرق جدار الصوت” لهما اسم آخر. انفجار في مرفأ بيروت. هيروشيما جديدة أطلت.

ألكل قرن قنبلته النووية في انتظار ساعة الفناء العظيم؟

***

بدأت القصص تتوالى. قصة انفجار بآلاف القصص والروايات وبآلاف المآسي. أكثر من عدد القتلى والضحايا والمفقودين. ولكل شهيد ما شاء من القصص والحكايات.

من قصة علي مشيك حمال في المرفأ، أنهى عمله اليومي الشاق ثم عاد مسرعا إلى شقاوته من أجل خمسة آلاف ليرة. بسعر الدولار الجديد أقل من دولار، وبسعره القديم دولارين ونصف. ربطة خبز. كأن الكاتب الأمريكي بول بولز، وهو في غرب المتوسط كان يعني شرقه، لما نقل رواية المغربي محمد شكري كان يعلم. لذلك أصدر طبعتها الأمريكية بعنوان: “من أجل الخبز وحده”.

وإلى قصة ألكسندرا نجار، الطفلة ذات الثلاث سنوات ونصف. وكأن الانفجار يميز بين صغير وكبير. كانت ألكسندرا من ضمن أصغر المشاركين في “ثورة 17 تشرين” تحمل العلم وترتقي فوق كتفي والدها، فتفردت بالخبر لتصبح أصغر شهداء انفجار مرفأ بيروت وارتقت بعيدا صوب السماوات والعلى.

 ***

شكر البعض المسافات، كانوا بعيدين لحظة الانفجار. هي التي أنجتهم وأبقتهم أحياء، لكن قريبين في أتون المأساة ووسط تداعيات الكارثة. هاتفت صديقي سفير المغرب الدكتور محمد غرين، طمأنني، وحكى لي قصة نجاته بأعجوبة. وكان قريبا من مكان الفاجعة الكارثية بالأشرفية.

***

في اليوم الثاني خرجت أتفقد الخراب الذي ضرب الميناء والأحياء القريبة. هزني هول الدمار الهائل. واستعادت أوصالي صوت الدوي العظيم. التقيت بمجموعة من الشابات والشبان يحملون المكانس والرفوش، وقد هرعوا لمسح أثر الاعتداء على مدينتهم الجميلة، متطوعين لإزالة الردم الذي طال الأحياء المتضررة. تبادلت كلمات التحية والتضامن مع بعضهم، فتحلقوا حولي لالتقاط صورة بعدما علموا بكوني من المغرب.

في أسبوع الكارثة، نزلتُ مع اللبنانيين الباكين الغاضبين المجروحين المكلومين.. ولهم كل أسماء الثورة الحسنى. اجتمعوا قرب المرفأ، عند نصب المغترب اللبناني. وكثيرون يفكرون في الهرب والهجرة. قرأوا النشيد جماعة وهتفوا بأسماء الشهداء، وشجعوا مع ماجدة مدينتهم على الانبعاث من جديد كما عودتهم: “يا بيروت.. قومي من تحت الردم كزهرة لوز في نيسان”. ثم مشوا في مسيرة حاشدة وبالأيادي شموع الشهداء.. غايتهم ساحة الشهداء. شهداء في مواكب الشهداء.

ظلت أشلائي صارخة كزجاج جارح يمزق دواخلي ويذبح. كم مرة أبكاني مشهد المرأة التائهة أمام الكاميرات تسأل عن ابنها.. “شفتُو لي ابني.. وينك يا ماما.. ابني حلو ومَنيِح وعيونو عسلية.. وكان عندي مدلل مغنج. حدا شافوا”.

قلب هذه الأم المكلومة يعلم كقلوب الأمهات. لكنها لم ترد تصديق الخبر الأليم. كان ابنها حمد العطار من عمال مرفأ بيروت، ثم أصبح في قوائم المفقودين قبل العثور على جثمانه تحت الركام. اعتقدت أنها تختصر كل مآسي الكارثة لكن كل مأساة تنسيك أختها. فكم من البكاء. كم من الألم. كم من الدم.

*** 

في الليلة نفسها، اتصل بي الأهل من الدار البيضاء، وتواصلت مع الأصدقاء في جل مدن المغرب، ومع الأهل والأصدقاء في الدياسبورا بالمنافي الباردة. يطمئنون علي، يسألونني عن تفاصيل القيامة اللبنانية التي لم يذكرها مراسلو التلفزيونات والإذاعات، ينصحني بعضهم بالهروب وبالتعجيل بالعودة. وضعت اسمي ضمن أسماء الناجين في الصفحة الخاصة التي فتحتها خدمة الفيس بوك. تذكرت نفس الخدمة في انفجار 11 سبتمبر وكوارث إنسانية غيرها. هي الحرب تتواصل بشكل آخر وبأسلحة أخرى، أشد فتكا وإبادة. نترات الأمونيوم واحدة منها، والسياسات المذهبية الطائفية المافيوزية من أساليبها وأصابع يدها المغلولة المجتمعة حول الزر والزناد. هي قصة من يحكم لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية التي تحولت إلى حرب متحدة ومقدسة ضد كل الشعب بجميع طبقاته وفئاته وشرائحه وطوائفه.

***

كل يوم افتح فيه عيني أمارس الحداد على الموتى. أتضامن مع الضحايا، وأبكي مع الباكين. وكل منهم لا يبكون مثل أخيه أو ابنه أو عزيزه. وأحيانا أبكي لوحدي وما يبكون مثل “وحدي”. أرفض أن يكون مثل هذا العذاب موجودا على الأرض، فماذا تركوا لعذابات الجحيم وجهنم الموعودة للكافرين. وما حدث أفظع من كل نيران الجحيم.

***

في الهاتف، يلح صديق عليّ أن أعود إلى المغرب. أراه في كاميرا الواتساب حليق الرأس، يقترح علي العودة من الحدود البرية. أذكره إني في بلد يطوقه الماء والحروب والأعداء ولا مفر. لا يريد أن يسمعني. يواصل: تعالى من أبو ظبي عبر باريس. كأنه لم يسمع أن من بات هناك وغلق الأبواب.. وهيت لك. ينقطع الاتصال الهاتفي. أتساءل وحدي، من قال إني أرغب في الهرب؟

 ***

في الأسطر الأخيرة من صفحة النهاية في رواية ماريو بارغاس يوسا، أقرأ:

“في الحقيقة لا أعرف كيف يبدو لي الأمر يا ريغو بيرتو. من المؤكد أنه ليس مضحكا. أهو مبك؟ أمر يدعو إلى الغضب؟ حسن، فلنغضب إذا كان هذا هو ما علينا عمله. أهذا ما ستفعله غدا؟ هز ريغو بيرتو كتفيه. وكانت به رغبة إلى الضحك أيضا. وأحس بأنه أخرق”.

أنا أيضا مثل ريغو بيرتو أحس بالسخافة وبالضياع ولا أفهم ما علي عمله غدا.

لكني في بيروت، مع بيروت ووسط أهل بيروت.

أبكي وأضحك.

لا حزنا ولا فرحا..

كشاهد خطّته أسطر يوميات القيامة..

فانْمَحى.  

 180Post

Visited 11 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن